قصة خلق آدم عليه السلام وتكوين الإنسان وهبوطه إلى الأرض: دراسة تفصيلية

قصة خلق آدم عليه السلام وبداية الصراع بين الشيطان والإنسان في خلق الإنسان

قصة خلق آدم عليه السلام وبداية الصراع بين الشيطان والإنسان في خلق الإنسان

قصة خلق آدم هي من أبرز القصص التي تتردد على مسامعنا، والتي نجدها محفورة في أعماق ذاكرتنا. فحكاية تكوين الإنسان من طين، وأمر الله للملائكة بالسجود له، هي من أكثر القصص تكرارا في التاريخ، وتستحق التأمل والتدبر. إنها القصة التي تحمل في طياتها مفتاح فهم حقد الشيطان على الإنسان، ومسؤولية كل فرد منا في الحياة.

تُعد قصة خلق آدم وتكوين الإنسان من طين من أبرز القصص التي تتفق عليها الأديان السماوية، وتُفصّل تفاصيلها في الكتب السماوية. ورغم الإجماع على هذا الأصل، إلا أن التفاصيل الدقيقة لهذه القصة قد أثار الكثير من الجدل والاختلاف بين مختلف الأديان والمذاهب. ولكن الأهم من هذه التفاصيل هو إدراك حقيقة أن وجود الإنسان على الأرض هو بداية رحلة طويلة نحو الكمال ونحو الهدف الذي خصّ الله به الإنسان. هذه الرحلة وإن كانت شخصية إلا أنها تساهم في تحقيق هدف جماعي أسمى وهو إقامة حُكم الحاكم المتخصص المعصوم على الأرض، لتمكين البشرية من النمو الروحي. ذلك الهدف الوحيد الذي يسعى الشيطان جاهداً إلى إحباطه، خائضاً حرباً أزليةً مع الإنسان.

إنّ الله تعالى قد أراد أن يخلق إنسانًا قادرًا على التكامل والصيرورة والنمو، ليتبوأ مكانة سامية تتجلى فيها صفات الكمال الإلهي بأكملها. وقد سبق أن أعدّ الله تعالى لهذا الإنسان كل ما يحتاج إليه من أدوات ووسائل للتكامل والنمو الإنساني، قبل أن يخلق آدم عليه السلام. يشير القرآن الكريم إلى خلق القرآن والدين الحنيف باعتبارهما سبيلًا لتحقيق هذا التكامل، وخلق الخلفاء الإلهيين كقدوة ومثل أعلى للإنسان في مسيره التكاملي قبل خلق آدم عليه السلام.[1] كما تبين التعاليم الإسلامية أن المخلوق الأول  هو حقيقة وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يُعرف بنور محمد(ص) أو القلم  أو الروح.

لقد دخل مسار خلافة الإنسان في الأرض مرحلة جديدة مع خلق آدم عليه السلام. فقد أظهر الله تعالى في خلق آدم بُعدين: الجسد الذي صُوّر من طين، والروح التي نفخ فيها من روحه ومنحه الحياة الإلهية. وما ميز آدم عن سائر الخلائق وجعله أشرف مخلوقات الله في الأرض إلا تلك الروح الإلهية. ولذلك فقد أمر الله الملائكة بالسجود لآدم، فسجدوا جميعًا إلا إبليس الذي استكبر ورفض السجود، فلعنه الله وطرده. ومنذ ذلك الحين، وإبليس يحقد على آدم وذريته، وأقسم على إغواءهم وإبعادهم عن الصراط المستقيم. وقد بدأ ذلك بإغوائه آدم وحواء ليأكلوا من الشجرة الممنوعة. إذا كنتَ ترغب في معرفة المزيد عن قصة خلق آدم، والمخلوقات التي سبقته، وسجود الملائكة، ونزول آدم وحواء إلى الأرض، وتوبته، فاستمر معنا.

دراسة وجود كائنات شبيهة بالإنسان قبل خلق آدم عليه السلام

قبل الخوض في قصة خلق آدم عليه السلام وكيفية خلق الإنسان، لا بد لنا من التطرق إلى الآراء المتباينة حول وجود كائنات تشبه الإنسان قبل آدم و حواء. فالبعض يعتقد أن آدم وحواء هما أول مخلوقين على صورة إنسان، وأن الخلق بدأ بهما. وهناك من يعتقد بوجود مخلوقات شبيهة بالجن والإنسان قبل آدم، ربما انقرضت أو لا تزال موجودة. وذهب آخرون إلى أن هناك أجيالًا سابقة من البشر، لم يكتمل تكوينها وانقرضت قبل ظهور آدم عليه السلام.

كما تشير الآيات القرآنية وأقوال العلماء المسلمين إلى أن آدم عليه السلام لم يكن أول إنسان على الأرض، بل سبقته كائنات أخرى شبيهة بالإنسان، انقرضت لأسباب مجهولة.[2] بناءً على هذا الرأي، يرى بعض الباحثين أن أبناء آدم تزوجوا من تلك الأجيال السابقة.

تُسمى هذه الكائنات في علم الأحياء أو البيولوجيا، إنسان نياندرتال،[3] بينما يُطلق على البشر الذين ظهروا بعد آدم عليه السلام لقب “هابيلية”. وفي شتى مجالات علم الأحياء، توجد نظريات متعددة حول أصل الخلق، من بينها “نظرية ثبات الأنواع”[4] و”نظرية تطور الأنواع”[5].

تنصُ نظرية ثبات الأنواع على أن كل نوع من الكائنات الحية قد خُلق بشكل مستقل عن غيره، ولا يمكن لنوع أن يتحول إلى آخر. أما نظرية تحول الأنواع فتؤكد على أن الكائنات الحية تطورت بمرور الزمن من أنواع سابقة، وأن جميع الكائنات الحية نشأت من بعضها البعض.

ابتدأ تشارلز داروين نظريته بالتطور وحصرها في النباتات، ثم وسعها لتشمل الإنسان، مدعياً أن الإنسان والقرد لهما أصل مشترك. هذه النظرية القديمة والمشهورة أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط الإسلامية، بين مؤيد لها بشدة ومعارض لها تماماً، وبين من حاول التوفيق بينها وبين بعض آيات القرآن الكريم، إلا أن الغالبية العظمى من العلماء المسلمين يميلون إلى نظرية ثبات الأنواع، أي أن الله قد خلق كل نوع على حدة.

إذا جمعنا الآيات والأحاديث نجد دليلاً على وجود مخلوقات بشرية قبل آدم عليه السلام، ولكن هذه المخلوقات كانت تفتقر إلى العقل والوعي اللذين امتاز بهما آدم عليه السلام. لم تصل هذه المخلوقات إلى الكمال الإنساني الذي يتميز به آدم عليه السلام، وانقرضت لأسباب مجهولة. بعد ذلك خلق الله آدم عليه السلام بصورة مستقلة وبصفات متميزة.

نبأ خلق الإنسان

لقد كان موضوع خلق آدم وتكوين الإنسان بالغ الأهمية والخطورة لدرجة أن الله تعالى أبلغ الملائكة بهذا الحدث العظيم قبل وقوعه بوقت طويل. فقد أعلن الله تعالى للملائكة قائلًا: “إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ  قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ”[6]

توجد آراء مختلفة حول كيفية طرح الملائكة سؤالهم لله. كان سؤال الملائكة نابعًا من الدهشة والاستغراب. لم ينكر الله كلامهم عن فساد الإنسان وسفكه للدماء، لكنه قال: “إني أعلم ما لا تعلمون”. لقد استخدم القرآن الكريم تعبيرات متنوعة لوصف خلق آدم وتكوين الإنسان، مما يدل على أن هذه الخلقة مرت بمراحل متعددة. والحقيقة أن كلمة “آدم” هي كلمة عبرية تعني الأرض والتراب، أي أنه مخلوق من تراب. وقد تم اختيار اسم آدم للنبي آدم عليه السلام لأسباب متعددة، وهذه التسميات لها جذور عميقة في الآيات والأحاديث والكتب المقدسة.

نظراً لأن جسد الإنسان خُلق من تراب، فقد أطلق عليه لقب “الأديم” نسبة إلى الأرض. وبسبب لون بشرته السمراء، سمّي بـ”آدم”. وبما أنه كان تركيبه من خليط من العناصر والقوى المتنوعة، فقد اشتُق اسمه من جذر “أدمة” الذي يدل على الخلط والتمازج. ولأن روح الله قد نفخت فيه وطهر جسده، فقد أطلق عليه لقب “أدام” نسبة إلى ما يطيب به الطعام.

كيفية خلق آدم عليه السلام

لقد سبق أن ذكرنا أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام على صعيدين: جسد وروح. وحسب آيات القرآن الكريم، فإن آدم خلق من طين الأرض.[7] وقد ورد في القرآن الكريم عدة توصيفات مختلفة لهذه الطينة، فمرة وصفها بأنها طين لزج[8]، وأخرى بأنها من صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ[9]، وثالثة بأنها من صلصال كالفخار.[10] ومن خلال جمع هذه الأوصاف، نستنتج أن الله تعالى بدأ خلق الإنسان من الطين، ثم مزجه بالماء فصار طينًا، ثم تحول إلى وحل مرطوب، وصولًا إلى أنه صُور على هيئة فخار.[11]

بعد أن خلق الله تعالى جسد آدم عليه السلام، نفخ فيه من روحه، فمنحه الحياة. وهذه الروح هي تلك الحقيقة الواحدة التي يطلق عليها أسماء مختلفة كـ الروح، والقلم، ونور محمد صلى الله عليه وآله وسلم. كما سبق وبيّنا، فإن هذا النور هو نفس المخلوق الأول والأكمَل، وهو تجسيدٌ لكل أسماء الله وصفاته. من هذا النور الأصيل انبثقت جميع الكائنات والعوالم والكون بأكمله.

إذن يمكن القول إن خلق آدم عليه السلام قد شكّل بداية مرحلة تجسيد حقيقة الوجود الإنساني، وهي مرحلة ضرورية لكي يسلك الإنسان طريق التقرب من الله والتشبه بصفاته. وبعد أن حلت الروح في الجسد، بدأ العقل والحواس يعملان، وفتحت ينابيع النور والحكمة في نفسه بإرادة الله. في الحقيقة، بلغت عملية الخلق ذروتها عندما نفخ الله من روحه في الإنسان، وتحول إلى كائن قادر على احتواء الآمال والقدرات اللامتناهية.

 

إن جميع حقائق الكون التي تُعرف بأسماء العالم هي جزء من وجود الإنسان وفطرته. الإنسان هو الكون الجامع، ويحمل كل الخلق في ذاته. وقد أوتي آدم عليه السلام، بإذن الله، علمًا بهذه الأسماء كلها. لذلك عرض الله سبحانه وتعالى هذه الحقائق والأسماء على الملائكة، وأظهرها لهم. ثم سألهم إن كانوا صادقين في ادعائهم، وأهلًا لخلافة الله، أن يتعلموها ليثبتوا استحقاقهم لخلافة الله في الأرض. وبما أن الملائكة كانت عاجزة عن ذلك لعدم قدرتهم على استيعاب هذه المعارف، أدركوا أن التكليف الإلهي لا يتحقق بالعبادة والتسبيح وحدهما، فاعتذروا إلى الله عز وجل.[12]

بداية العداوة بين الشيطان وآدم وذريته

اختلف المفسرون حول طبيعة إبليس، هل هو ملك من الملائكة أم من الجن؟ تدل بعض آيات القرآن على أنه ملك[13]، وبعضها الآخر يشير إلى أنه من الجن.[14] ورغم وجود إبليس بين الملائكة، إلا أنه كان كائنا من جنس الجن والنار. لقد اجتهد إبليس في عبادته لله وطاعته لدرجة أنه أصبح عضواً من أعضاء الملائكة. وقد ترقى إبليس في هذا المقام حتى أصبح أستاذاً ومربياً للملائكة الآخرين، وكان يعلمهم طاعة الله وعبادته. كانت عباداته فريدة من نوعها، فكانت سجوده تستمر لآلاف السنين[15] وكانت الملائكة تقبّل تسبيحه تبركاً.[16]

عندما شرع الله في خلق آدم ونفخ فيه من روحه، أمر الملائكة بالسجود له. فسجد جميع الملائكة لآدم إلا إبليس الذي استكبر وعصى أمر الله وامتنع عن السجود. فقد كان يعبد الله منذ أزمان طويلة، فاعتبر نفسه أفضل وأعلى من آدم وقال: إنه خُلق من طين وأنا من نار.

 

لقد وقع إبليس في ثلاثة انحرافات بسبب عصيانه هذا:

  • انحراف عملي: تمثل في عصيانه لأمر الله وتمرده عليه.
  • انحراف أخلاقي: تجسد في تكبره الذي أدى إلى طرده من الجنة.
  • انحراف عقائدي: ظهر في مقارنته الخاطئة التي أنكر فيها عدل الله وأصبح من الكافرين.

كان خطؤه الجسيم في اعتقاده أن تفوق الإنسان يكمن في جسده الترابي، بينما الحقيقة أن عظمة الإنسان تكمن في الروح الإلهية التي نفخها الله فيه.

رأى الشيطان في آدم سبب ذله وطرده من عند الله، فحقد عليه حقدًا شديدًا وعزم على الانتقام منه. فاستنظر الله ليضل البشر، فأمهله الله إلى يوم الوقت المعلوم.[17] يرى البعض أن هذا الأجل هو نهاية العالم، ويرى آخرون أنه يوم القيامة، بينما يرى أكثر المفسرين أن ذلك اليوم هو عصر ظهور الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).

في رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) ورد أن المقصود باليوم الموعود هو اليوم الذي سوف يقطع فيه رأس الشيطان بيد الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف)،[18] وقد فسّرت هذه الرواية تفسيرات مختلفة بالنظر إلى خصائص دولة المنجي الموعود.

عندما وافق الله على طلب إبليس، قال: ” قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَأتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ.[19] فأجابه الله: ” وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا “[20]  للحصول على مزيد من المعلومات حول ضرورة وجود الشيطان لدفع الإنسان نحو التطور والنمو الإنساني، يمكنك الرجوع إلى مقالة بعنوان “ما هو دور الشيطان في الحياة، وما هو من خصم؟”

الجنة هي مكان سكن النبي آدم عليه السلام

خلق الله تعالى آدم، ثم خلق له من نفسه زوجة[21] سماها “حواء”. وأذن لهما بالعيش في الجنة والاستمتاع بنعمها المثالية. قصة خلق آدم وحواء، مذكورة في القرآن، والإنجيل، والتوراة، بالإضافة إلى الأساطير السومرية والبابلية واليونانية. تتعدد الآراء حول الجنة التي سكن فيها آدم وحواء، إلا أن القرآن الكريم حدد مسكنهما في “جنة عدن” كما جاء في سورة البقرة الآية 58. ويرى البعض أن هذا المكان يقع في شمال بلاد بين النهرين، في المنطقة التي تتدفق فيها نهري دجلة والفرات حالياً، بالقرب من مدينتي أور وأريد، وعلى مقربة من الخليج الفارسي.[22] وعلى الرغم من ذلك، فإن تحديد الموقع الدقيق لجنة عدن ليس محور اهتمامنا الأساسي. الأمر الأهم الذي يجب أن ندركه هو أن آدم وحواء كانا يعيشان في هذه الجنة حياة هنيئة ومريحة للغاية، فقد حظيا بجميع نعم الله، ولم يعرفا معاناة الحياة على الأرض وشظفها.

هبوط النبي آدم عليه السلام من الجنة

غمر الله تعالى آدم وحواء بنعم الجنة، وأذن لهما بالتمتع بكل ما فيها إلا الاقتراب من شجرة واحدة محددة عرفت في اللغة العامية بـ”الشجرة المحرمة”. تعددت الآراء حول نوع هذه الشجرة، فذكر القمح[23] والكرمة أو العنب[24] والتين[25] والكافور[26] والنخيل[27] والتفاح وغيرها. يرى المفسرون، استنادًا إلى الروايات، أن للشجرة المحرمة معانيَ رمزية عميقة إلى جانب معناها الظاهري. فالتوراة مثلاً، تعتبر الشجرة المحرمة شجرة المعرفة والحياة.[28]

في قصة خلق آدم، يذكر أن الشيطان استطاع أن يغويهما ويوسوس إليهما بتناول ثمرة الشجرة المحرمة، ووعدهما بأنهما إذا أكلا منها سيصيران ملائكة أو يخلدان في الأرض. وقد صدقا الشيطان وتناولا من الثمرة، فأدركا فجأة عري أجسادهما، وواجها عواقب عصيانهما لأمر الله، حيث لم يعودا متوافقين مع مقام الجنة.[29] نتيجة لذلك، طُردا من الجنة، ويطلق على طرد آدم وحواء من الجنة اسم “الهبوط”. والهبوط يعني السقوط من مكان عالٍ إلى مكان منخفض.

بعد أن عصى آدم وحواء أمر الله، أخبرهم أنهما لن يستطيعا العودة إلى الجنة إلا بعد أن يعيشا في الأرض ويتوافقا مع طبيعة الجنة، حيث سيتم بعثهما منها مرة أخرى.[30] ويعتقد العلماء أن نهي الله عن الأكل من الشجرة المحرمة كان توجيهًا من الله تعالى وليس أمرًا واجبًا، ، ولذلك لا يُعد فعله معصية أو إثمًا، بل هو تركٌ للأولى، وفي كل الأحوال كان سيهبط إلى الأرض ليكمل مساره نحو تحقيق التطور الإنساني. وقد ندم آدم على معصيته وطلب من الله التوبة والمغفرة. وقد وردت روايات مختلفة حول كيفية توبته، إلا أن علماء كشيخ الطوسي وآية الله مكارم الشيرازي يرون أنه لا يوجد تناقض بين هذه الروايات، بل ربما تكون كلها صحيحة[31].

أكثر ما ورد عن توبة آدم عليه السلام أنها تمَّت بـ”الذكر الشريف اليونسي[32] والتوسل إلى “الأئمة المعصومين الخمسة”.[33] فقد لجأ آدم عليه السلام إلى هذه الوسائل فقبل الله توبته.

قدرات بناء الحضارة في قصة خلق آدم  ودورها للأنبياء

إنّ استعراض أهداف رسالة الأنبياء في القرآن الكريم ومسيرتهم العملية يشير إلى أن تأسيس حضارة توحيدية كان محور دعوتهم، إذ أنهم كانوا يهدفون إلى نشر الدين وتحقيق التنمية البشرية في المجالات المادية والروحية. فقد قدّم الدين دائمًا منهجًا شاملًا للبشرية، يتضمن خريطة توجيهية تدفع إلى التقدم المتكامل، مع مراعاة مختلف جوانب الحياة الإنسانية. ومن أفضل السبل لاكتشاف نموذج بناء الحضارة من منظور القرآن، هو دراسة سيرة الأنبياء.

تروي قصة خلق آدم عليه السلام ورسالته في القرآن الكريم جوانب عميقة من قدرات الإنسان كمحرك أساسي لبناء حضارة. وتكتسب هذه القصة أهميتها كونها بداية مسيرة الهداية الإنسانية، حيث كان آدم عليه السلام أول رسول أرسله الله. إن قدرات مثل العلم والتعليم الإلهي، وخلافة الله على الأرض، ومعرفة الأعداء، والصبر على الشدائد، والتوبة والإنابة، هي من أهم الصفات التي منحها الله للأنبياء، والتي مكنتهم من تحقيق الحضارة الإلهية للبشرية.

  • العلم الإلهي

يشير القرآن الكريم، في سياق قصة خلق آدم عليه السلام، إلى تعليمه الأسماء مما جعله مؤهلًا ليكون خليفة الله في الأرض. فالعلم يعتبر أحد أهم ركائز الحضارة، وهذا الأمر متجذر في قصة خلق آدم والأنبياء الآخرين، حيث علمهم الله هذا العلم. ومعنى ذلك أن آدم والأنبياء ورثوا علماً إلهياً في المجالات الروحية والمادية، يمكنهم من خلاله تحقيق تقدم كبير للبشرية. وفي الحقيقة، فإن القدرة على البناء الحضاري المستوحى من الوحي تكمن في هذا العلم الإلهي الذي يدفعه إلى الإمام.

  • خلافة آدم

الخلافة على الأرض هي القدرة الثانية التي منحت لآدم، وهي أيضًا ثمرة لتعلمه الأسماء الإلهية. وتشير هذه الخلافة إلى مكانة الإنسان كخليفة الله على الأرض، وهي تتضمن مجموعة من الخصائص التي تميز البشر وتعطيهم كرامة ومكانة خاصة في هذا الكون. هذه الصفات تشكل شخصية الإنسان الفريدة وتحدد مسؤوليته تجاه الكائنات الأخرى وعلاقته بها.

إنّ موضوع خلافة الإنسان من قِبل الله يشير إلى أن المخلوقات الأخرى ليست فقط في مرتبة أدنى من الإنسان، بل إن وجودها يعتمد عليه. كأنها موارد وإمكانات متنوعة وُضعت تحت تصرف الإنسان لتكون وسيلة لظهور وتجلي خلافته وكماله. ولكن الإنسان نفسه يستمد كل هذه الشأن والعظمة من الروح الإلهية التي نفخها الله فيه، وليس لديه أي أصل أصيل بذاته. قصة خلق آدم تبين أن الله قد فضل آدم على سائر الخلق بروحه، وأن الصفات الإلهية هي أساس الإنسانية وليست الغرائز المادية. لذلك، يجب أن يكون المحور الأساسي لأي حضارة دينية هو الحفاظ على هذه الصفات الإنسانية ورعايتها وتنميتها. والحضارة التي تُبنى للإنسان، كأشرف الخلق، يجب أن تستند إلى السبب الحقيقي لسيادته وهو البعد الإلهي في الإنسان، وليس إلى الصفات الحيوانية والدنيوية

  • التوبة والإنابة

التوبة هي العودة، والاستغفار هو السعي للسلامة من الهلاك. ومن أهم مؤشرات تقدم الحضارات معنويًا هو مدى الإنابة الاجتماعية. يرى الله تعالى في القرآن أن السبيل الوحيد للنجاة والسعادة الدنيوية والأخروية هو اتباع من أناب إليه دائمًا. [34]والمجتمع الذي يتبع هؤلاء لا يصيبه أذى من أعدائه. وقد أكد الله تعالى على أهمية هذا الأمر بقوله الكريم “وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ”، وحذر من اتباع الهوى والأهواء.[35] وتتجلى أهمية التوبة إلى الله بعد الخطأ الفردي والجماعي بوضوح في قصة خلق آدم عليه السلام. إن التوبة والاستغفار يمنحان الإنسان القدرة على جذب رحمة الله، ويهيئان الظروف لنموه وتقدمه ولتقدم مجتمعه.

قدرات بناء الحضارة في قصة خلق النبي آدم عليه السلام و دروسها للمجتمع

من المهم أن نلاحظ أن الله تعالى، حينما يروي قصة خلق آدم عليه السلام وما تلاها في القرآن الكريم، يستخدم خطاب “يا بني آدم”. هذا الخطاب يدل على أن القصة وإن كانت مرتبطة بأدم عليه السلام، إلا أن مخاطبها هو كل من ينتمي إلى نسله، أي جميع البشر. وفي سورة الأعراف، يوجه الله تعالى إلى بني آدم مجموعة من الوصايا ضمن أربعة خطابات، تشكل معًا أسسا جوهرية لبناء حضارة دينية:

  • قبول ولاية الله والأنبياء

قبول الولاية الإلهية والنبوية شرط أساسي لتحقيق التقدم الشامل في أي حضارة. فإذا ما اتبع الإنسان هدى الأنبياء وسلك طريق التقوى والإصلاح الاجتماعي، زال عنه الخوف من المستقبل والحزن والأسى على الحاضر.

  • معرفة العدو

بعد أن خلق الله آدم وجعله في الجنة، استطاع الشيطان أن يغويه ويخرجه منها. هذه القصة العميقة في الخلق تحمل في طياتها دلالة معرفية بالغة الأهمية، فهي تحذرنا من مغبة الثقة بالشيطان والتفاعل معه في أي مجال من مجالات الحياة. فذلك يعني أننا نبني حضارتنا على رمال متحركة، وأننا معرضون للسقوط في أي لحظة.

  • اللباس الظاهري والباطني

من أعظم مقومات بناء الحضارة التي وهبها الله لبني آدم هي ارتداء الملابس.[36] في آيات عدة من القرآن، يسلط الله الضوء على أهمية اللباس، ليس فقط كغطاء “للسوءة” والأعضاء التي يشعر الإنسان بالحياء من تعريتها، بل يضيف إليه جمالاً وزينة. ومع أننا عادة ما نربط اللباس بالجسد، إلا أن النفس الإنسانية بحاجة أيضًا إلى لباس من نوع آخر، لباس يوازن بين الغرائز والرغبات ويجمّلها. حينما ترتدي الغرائز لباس التقوى والورع، تتحول من مصدر للفوضى إلى دافع للتقدم والبناء.

إن تعرّي آدم وحواء يكشف عن حقيقة أن الاستسلام للشيطان يعرّي الروح من لباس التقوى، ويترك النفس عارية كالجسد بلا كساء، مما يسبب الخجل ويعرّضها للأذى. والأمر يتجاوز الفرد؛ فإن تعرية النفس من التقوى تهدد الحضارة بأكملها، تدفعها نحو الركود وتجعلها على حافة الانهيار.

قصة خلق النبي آدم هي البداية الحقيقية لوجود الإنسان على الأرض وانطلاق رحلته نحو بناء حضارة إلهية، حضارة تكون ملاذًا آمنًا لنمو الإنسانية جمعاء. ومن هذه اللحظة تتجلى عداوة الشيطان للإنسان، حيث يقف الشيطان كألدّ أعداء الحضارة الإنسانية، يسعى بلا كلل لتدمير المواهب الإلهية الكامنة في كل فرد. قصة خلق آدم ليست مجرد بداية، بل هي أيضًا جذوة الصراع الأول، وأساس السعي نحو إقامة مجتمع كريم يليق بالبشرية.

تابعوا هذه القصة في المقالات القادمة.

 

[1] . سورة الرحمن، الآيات 3-1

[2] . قرشي بنائي، سيد علي أكبر، معجم القرآن، طهران، دار الكتاب الإسلامية، ١٣٧١ شمسي، المجلدان ١ و ٢، ص ٤٩ و ٥٠/ سبحاني، جعفر، ميثاق جواد، قم، مؤسسة الامام الصادق، ١٣٩٠ شمسي، ج٤، ص٩٤/ مكارم الشيرازي، ناصر والسبحاني، جعفر، أجوبة المسائل الدينية، قم، مدرسة الامام علي بن ابي طالب، ١٣٧٧ الشمسي، ص ٤٥٤

[3] . Neanderthal

[4] . Fixism

[5] . Transformism, Darvinism

[6] . سورة البقرة: الآیة 30

[7] . الأنعام: الآیة 2/ آل عمران: الآیة 59

[8] . الصافات: الآية 11

[9]سورة الحجر:  الآية 26

[10] . الرحمن: الاية 14

[11] . القمي، عباس، سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار، قم، اسوة، ١٤١٤هـ، ج١

[12] . البقرة: الآیة 32

[13] . البقرة:34/ الأعراف: 11/ الإسراء:61/ طه:116/ الحجر:30و31/ ص:73و74

[14] . الکهف:50

[15] . نهج البلاغة: الخطبة 192

[16] . إبراهيم كلرودباري، ستار، قصص إرشادية عن الشيطان، قم، دار النور، 2016.

[17] . الحجر:38

[18] . المجلسي، محمدباقر، بحارالأنوار الجامعة لدرر الأخبار الأئمة الأطهار، بیروت، ج 52، ص 376، ح 178/ الطبري الآملی، محمد بن جریر، دلائل الإمامة، قم، مؤسسة البعثة قسم الدراسات الإسلامیة، 1413 ق، ص 453

[19] . الأعراف: 16 و 17

[20] . الإسراء: 64 و 65

[21] . سورة النساء، الآية 1

[22] . هاکس، جیمز، قاموس الکتاب المقدس، بیروت، 1928 المیلادي، ص 602

[23] . ابن کثیر، ابوالفاداء اسماعیل الدمشقي، تفسیر القرآن العظیم، دکتر عبدالرحمن المرعشي، بیروت، دارالمعرفة، 1412 ق، ج 1، ص 83

[24] . الطبري، ابوجعفر محمد بن جریر، جامع البیان عن تأویل آی القرآن، خلیل المیس، بیروت، دار الفکر، 1415 ق، ج 1، ص 332

[25] . نفس المصدر، ص333.

[26] . ابوالفتوح الرازي، حسین بن علي، روض الجنان و روح الجنان في تفسیر القرآن، ج 1، ص 220

[27] . السیوطي، جلال الدین عبدالرحمن، الدر المنثور في التفسیر بالمأثور، بیروت، دارالفکر، 1983 المیلادی، ج 1، ص 53

[28] . التوراة، سفر التكوين

[29] . التفسير الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، ج 6، ص 114 – 120

[30] . البقرة: 36 و 37/ الأعراف: 24 و 25

[31] . التفسير الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، ج 6، ص 198 و 199

[32] . الطبرسي، فضل بن حسن، مجمع البیان في تفسیر القرآن، بیروت، دارالمعرفة، 1408 ق، ج 1، ص 200

[33] . الکوفي، فرات بن ابراهیم، تفسیر فرات الکوفي، طهران، وزارة الثقافة و الإرشاد الإسلامی مؤسسة الطبع و النشر، 1410 ق، ص 57 و ص 58/ السبحاني، جعفر، التوسل، مكتب نشر آیة الله جعفر السبحاني، ص 540

[34] . سورة لقمان، الآية 15: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ

[35] . سورة الكهف، الآية 28.

[36] . سورة الأعراف، الآية 26.

المشارکة

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *