اتفاقية سايكس بيكو: مقدمة لبلفور وتأكيد الانتداب البريطاني على فلسطين
يُظهر تتبُّع التاريخ الفلسطيني الحديث أنَّ عواملَ عديدةً ساهمت في احتلال هذه الأرض وما ترتَّبَ عليها من أحداث؛ أحدُ هذه العوامل هو حضورُ وهيمنةِ الدولةِ البريطانية في المنطقة. فالدور الاستعماري لبريطانيا في فلسطين لا يمكن إنكاره، بل كانَ دورًا بارزًا للغاية. لقد كانت النزعة الاستعمارية والتسلطية لبريطانيا تدفعها إلى التدخل في أي مكانٍ تَشُمُّ فيه رائحةَ مصالحها، تحتَ مُختَلفِ الذرائع والمسميات.
بموجب اتفاقية سايكس بيكو، تم تقسيم الأراضي الخاضعة لسيطرة الإمبراطورية العثمانية بين فرنسا وبريطانيا. ونتيجة لهذا التقسيم، آلت السيطرة على فلسطين إلى البريطانيين. وكان صدور وعد بلفور، الذي سمح بموجبه للصهيونيين بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، من آثار هذا الحق السيادي الذي ادعته بريطانيا في المنطقة.
لم يكن تسليم فلسطين للصهيونيين بهدف تحقيق حلم اليهود القديم بالعودة إلى الأرض المقدسة، بل سعى الإنجليز من خلال هذا العمل ووجودهم في فلسطين إلى تحقيق مصالحهم الاستعمارية وجذب دعم القوى الدولية الكبرى مثل الولايات المتحدة. كما تطلعت بريطانيا إلى استغلال موقع فلسطين الاستراتيجي في خدمة أهدافها العسكرية والسياسية والاقتصادية. وكان دعمهم الرسمي لمشروع إقامة دولة يهودية مستقلة على هذه الأرض يصب في هذا الاتجاه. إلا أن هذه القرارات والوجود اليهودي في فلسطين أشعلت نيران الفتنة والاضطرابات في المنطقة، والتي لم تنطفئ حتى بعد خروج الإنجليز منها.
لم يقتصر الاستعمار البريطاني على إصدار وعد بلفور المشؤوم، بل امتد ليشمل العديد من الأحداث الأخرى التي يمكن تتبع آثار الاستعمار فيها. إلا أن تداعيات هذا الإعلان كانت مُرّة وقاسية على الشعب الفلسطيني، لدرجة أنهم لا يزالون يعانون منها بعد مرور قرن من الزمان، ويعتبرونها أحد الجذور الرئيسية للمآسي التي شهدتها العقود الأخيرة.
يصف الفلسطينيون هذا البيان بأنه “جريمة العصر” ويطالبون بريطانيا بالاعتذار عنه وعن نتائجه الكارثية. ومع موجة الصحوة العالمية التي أعقبت أحداث السابع من أكتوبر، شكّل آلاف البريطانيين حملة تحت اسم “دعم القضية الفلسطينية” وجمعوا تواقيع على عريضة تطالب المسؤولين الحكوميين البريطانيين بالاعتذار للفلسطينيين عن إصدار وعد بلفور ونتائجه المؤسفة.
يتجلى الدور الاستعماري لبريطانيا في فلسطين بوضوح من خلال تتبع جذور الاضطرابات والانتفاضات التي شهدتها الأرض المقدسة، حيث نجد أن خيوطًا كثيرة تقودنا بشكل مباشر أو غير مباشر إلى السياسات البريطانية. فأحداث مثل ثورة البراق، واستشهاد عز الدين القسام، والإضرابات العامة، وهدم المنازل في يافا، وتشكيل العصابات الليلية، ليست سوى بعض التداعيات المباشرة لـ “وعد بلفور” المشؤوم، والنتيجة الحتمية للوجود الاستعماري البريطاني في فلسطين. في هذه المقالة، نسعى من خلال مراجعة هذه الأحداث، إلى تتبع الأثر البريطاني في كل منها، وكشف النقاب عن الدور الذي لعبته في تأجيج الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
دور بريطانيا بعد إصدار وعد بلفور
عند دراسة جذور قضية إنشاء وطن لليهود في فلسطين، نجد أنفسنا أمام مجموعتين؛ الأولى هي الصهاينة الذين سعوا لتحقيق أهدافهم، متذرعين -ظاهريًا- بالخوف من معاداة السامية في العالم، ورغبتهم في العيش في الأرض المقدسة ضمن دولة مستقلة. أما المجموعة الثانية، فهم البريطانيون الذين وفروا هذه الظروف للصهاينة من خلال إصدار وعد بلفور. السؤال الأول الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا وافق البريطانيون على تهيئة الظروف لإقامة هذه الدولة؟ بالنظر إلى الصفات التي تُنسب إليهم، مثل المكر واستغلال الفرص، يكاد يكون من المستحيل أن يكون دافعهم هو فعل الخير. إن الاتفاق بين الصهاينة والبريطانيين كان بمثابة صفقة مُربحة للطرفين، حيث حقق لكل منهما أهدافه الخاصة.
عندما نتحدث عن الدور الاستعماري لبريطانيا في فلسطين، فإننا نعني بذلك الإجراءات التي اتخذتها لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب معاناة الفلسطينيين وتدميرهم. كشف قائد الثورة الإسلامية في خطابه عن حقيقة قضية إقامة الحكومة الصهيونية ودور بريطانيا الاستعماري في فلسطين، وقال: “وفقًا للوثائق التاريخية، كان إقامة الحكومة الصهيونية أكثر من أن تكون مجرد رغبة للشعب اليهودي؛ مطلبًا استعمارياً لحكومة بريطانيا. هناك دلائل تشير إلى أن العديد من اليهود في ذلك الوقت كانوا يعتقدون أنه لا حاجة لهذه الدولة، وأنها ليست في مصلحتهم؛ لذا كانوا يهربون منها. لذلك، لم تكن هذه فكرة يهودية أو طموحًا يهوديًا، بل كانت فكرة استعمارية وفكرة بريطانية.”[1]
بحسب قول حاييم وايزمان، أول رئيس لدولة إسرائيل والذي كان له دور بارز في إصدار بیان بلفور، فإن الدولة الصهيونية كانت بمثابة قاعدة رخيصة وقليلة التكلفة بالنسبة للبريطانيين. هذا التصريح يؤكد مجددًا أن بريطانيا كانت تسعى بشكل أساسي لتحقيق أهدافها الاستعمارية.
الحديث عن الدور الاستعماري البريطاني في فلسطين ليس تعبيرًا عن عداء تجاه البريطانيين، بل هو جزء من طبيعة هذه الدولة الاستكبارية، وهو أمر أقر به حتى شركاؤها الصهاينة بوضوح.
يكتب تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، في رسالة إلى سيسيل رودز، وزير المستعمرات البريطاني، عن سبب طلب الصهاينة المساعدة من بريطانيا لإنشاء دولة يهودية: ” ربما تتساءل لماذا نكتب إليك ونطلب المساعدة؟ لأننا نشارككم نفس المشروع الاستعماري، ويمكننا التعاون معًا لتحقيق أهدافنا المشتركة.”
في خضمّ التوترات التي شهدها اليهود مع مختلف الشعوب والأعراق، والخلافات التي نشبت بينهم وبين الدول الحاكمة، كانت هذه هي المرة الأولى التي تُبدي فيها دولة أوروبية دعمها العلني لمطلب اليهود بإقامة دولة خاصة بهم. لقد نجح البريطانيون من خلال هذا الإعلان في كسب تأييد اليهود، واستغلوا نفوذهم القوي في أمريكا لتحقيق مصالحهم، وتمكنوا في نهاية المطاف من الانتصار في الحرب العالمية الأولى. بيد أن الصهاينة كانوا يتوقعون من بريطانيا أن تتجاوز مجرد إصدار التصريحات إلى تقديم دعم فعلي على أرض الواقع لإقامة دولتهم الموعودة. لكن الأمور لم تجرِ كما اشتهوا، إذْ كانت المقاومة والانتفاضات الفلسطينية بمثابة العقبة التي حالت دون تنفيذ بنود “وعد بلفور” على الوجه الأمثل من وجهة نظر الحركة الصهيونية.
من بين أبرز الشواهد على الدور الاستعماري لبريطانيا في فلسطين، يظهر التباين الواضح في طريقة تعاملها مع اليهود والعرب الفلسطينيين. فخلال فترة حكمها، لم تُقِرّ للعرب بأي حقٍّ يُذكر، بل عارضت العديد من مطالبهم، وعلى رأسها مقترح تشكيل حكومة وطنية يتشارك فيها الطرفان العربي واليهودي بنسبة عدد السكان. وقد رأت بريطانيا في هذا المطلب العربي تعارضًا مع وعدِ بلفور، واعتبرته معطلا لمشروع إنشاء دولة يهودية. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل هناك العديد من الأمثلة التي تشير إلى أنّ بريطانيا، ورغم تظاهرها بالحياد، كانت تُقدّم الدعم الخفيَّ لليهود وتؤمّن لهم المؤن والإمدادات من مختلف الجهات.
تَكللت جهود بريطانيا لتحقيق وعدها بإقامة دولة يهودية بالنجاح، وذلك عبر تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة للقرار رقم 181، المعروف بـ”خطة تقسيم فلسطين. هذا القرار الجائر قضى بتقسيم أرض فلسطين التاريخية إلى دولتين، إحداهما عربية وأخرى يهودية. حاول البريطانيون مجددًا إظهار موقفهم كمحايدين بخبث، حيث امتنعوا عن التصويت على القرار، محاولین خداع الرأي العام العربي وكسب رضاهم. ومع ذلك، لم تنجح هذه المناورات السياسية في إخفاء الدور الاستعماري لبريطانيا في فلسطين. فقد كانوا من جهة يمتنعون عن التصويت ومن جهة أخرى، يقدمون الدعم للصهاينة ويزودونهم بما يلزم لمواجهة الانتفاضات والاحتجاجات العربية.
توصلت بريطانيا الاستعمارية بعد حسابات دقيقة إلى هذه النتيجة أن تكلفة بقائها في فلسطين في ذلك الوقت تفوق الفوائد التي تجنيها من وجودها هناك. ولذلك قررت مغادرة الأراضي الفلسطينية. وبعد عام من صدور قرار رقم 181 وفي 14 مايو 1948 ، بالتزامن مع انتهاء الحكم البريطاني على فلسطين، أعلن رئيس الهيئة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية رسمیا تأسيس دولة إسرائيل اليهودية.
دور بريطانيا في ثورة 1929 أو انتفاضة البراق
بعد إعلان بيان بلفور الاستعماري ودخول الصهاينة تدريجیا إلى فلسطين وعلى الرغم من وجود الغالبية الساحقة من السكان الفلسطينيين، ظهرت عدم مساواة اجتماعية أدت إلى العديد من مظاهر الظلم والتمييز، والذي كان من الواضح فيها دعم بريطانيا للمستوطنين اليهود الجدد. لم يستطع العرب الفلسطينيون الذين كانوا يشهدون هذا الظلم السكوت أو التنازل عن حقوقهم ولذلك بدأوا في تنظيم احتجاجات تحولت في بعض الحالات إلى ثورات، إحداها ثورة أو انتفاضة البراق في عام 1929.
البراق مكان صغير يقع بالقرب من الجدار الغربي للمسجد الأقصى في القدس. ويُعرف هذا الجدار بـ”حائط البراق” عند أهل السنة من المسلمين، وذلك لاعتقادهم بأنه النقطة التي انطلق منها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رحلة الإسراء والمعراج على ظهر دابة تسمى “البراق”. أما اليهود، فيعتبرون هذا الجدار جزءًا من هيكل سليمان، ويُطلقون عليه اسم “حائط المبكى”. ولذلك، يُعتبر هذا المكان مقدسًا لكلا الديانتين.
بعد دخولهم أرض فلسطين، سعى الصهاينة إلى الاستيلاء على حائط البراق والمسجد الأقصى. وقد بدأت تحركاتهم في هذا الاتجاه في الرابع عشر من أغسطس عام 1929، مما أشعل فتيل اشتباكات عنيفة وواسعة النطاق بين المسلمين واليهود، امتدت نيرانها إلى العديد من المدن الفلسطينية. عُرفت مقاومة الشعب الفلسطيني في هذه الاشتباكات بـ”ثورة 1929″ أو “انتفاضة البراق”.
تتأصل جذور هذا الانفجار في الدور الاستعماري الذي لعبته بريطانيا في فلسطين؛ فخلال فترة حكمها، واجه الفلسطينيون تحديات ومشاكل أرست الأساس للثورة. في تلك الحقبة، عانى الشعب الفلسطيني العربي من مشاكل مثل المجاعة والخراب والأزمات الاقتصادية. من ناحية أخرى، أدى سن قوانين معينة لدعم هجرة اليهود إلى زيادة عدد المهاجرين الصهاينة، مما أسفر عن نتائج من بينها نهب ممتلكات وأراضي الشعب العربي من قبل اليهود، وارتفاع معدلات البطالة والنزوح بين العرب، واستيلاء الصهاينة على المسؤوليات والممتلكات الهامة. يمكن تشبيه الوضع المتأزم الناتج بمخزن بارود كان ينتظر شرارة لإشعال فتيله، وهو ما فعله اليهود. فبمناسبة ذكرى خراب الهيكل، نظموا مظاهرة في تل أبيب، وخلالها أطلقوا شعارات استفزازية تدعو إلى الاستيلاء على حائط المبكى. هيأت هذه الشعارات والتظاهرات الأرضية لتجمع احتجاجي للمسلمين العرب. فتوافدوا في ذكرى المولد النبوي الشريف إلى المسجد الأقصى، حيث أقدموا على إلقاء تماثيل اليهود من أعلى حائط المبكى. كانت هذه الأحداث شرارة اشتباكات امتدت من مدينة القدس إلى مدن فلسطينية أخرى، كمدن نابلس والخليل وصفد وبيسان ويافا وحيفا.
كان رد فعل القوى الحاكمة على هذه الأحداث دليلاً واضحًا على الدور الاستعماري لبريطانيا في فلسطين؛ استعمار كان يُمارَس بشكل خاص ضد العرب الفلسطينيين. خلال هذه الفترة، أثبتت بريطانيا من خلال أساليب متعددة، مثل الدعم العسكري وتزويد الصهاينة بالأسلحة، وفتح النار على العرب، وتفتيش منازل الفلسطينيين، واعتقال المئات منهم، وإصدار أحكام بالسجن المؤبد والإعدام بحق الفلسطينيين، وتطبيق قوانين لملاحقة العرب الذين شاركوا في هذه الصراعات، أن سياساتها كانت تقتصر فقط على مساعدة أهداف اليهود وتعزيز الاستعمار ضد الفلسطينيين.
أثبتت ثورة 1929 للشعب الفلسطيني أن البريطانيين كانوا يتبعون سياسات داعمة لهم في بعض الحالات وبطريقة ظاهرية فقط، ولكن في الواقع كانوا حلفاء للصهاينة. لم يكن لدى الفلسطينيين أي وسائل قانونية أو أسلحة للدفاع عن أنفسهم ضد الصهاينة. على الرغم من كل ما جلبته هذه الثورة من مرارة ودمار وخسائر للفلسطينيين، إلا أنها جعلتهم عازمين على تشكيل مجموعات مسلحة وتأمين المعدات العسكرية.
بعد إنتفاضة البراق واحتلال المزيد من أراضي فلسطين من قبل اليهود، توصل أمين الحسيني (مفتي فلسطين) وأتباعه إلى هذه النتيجة أن حكومة بريطانيا هي الداعم الرئيسي لليهود، وبالتالي يجب أن يوجهوا حافة سيف النضال ضد هذا العدو الرئيسي.
دور بريطانيا في استشهاد عز الدين القسام في عام 1935
الشيخ عز الدين القسام، مؤسس أول منظمة جهادية مسلحة ضد الاحتلال الصهيوني في فلسطين، يُعتبر أحد أبرز القادة المناهضين للاستعمار والصهيونية في العالم. وهذا يعني أن قضية الاستعمار كانت تحظى باهتمام بالغ لديه.
دراسة تاريخ حياة الشيخ القسام تُظهر أن روح المقاومة ضد الاستعمار والاستكبار كانت موجودة في شخصه منذ البداية. فقد قاوم الشيخ عز الدين في فترة إقامته في سوريا ضد السياسات الاستعمارية الإيطالية، وكذلك ضد هيمنة الفرنسيين، وفي النهاية هاجر إلى فلسطين.
وكانت معركة الشيخ عز الدين القسام الرئيسية ضد البريطانيين، لأنه كان يدرك جيدًا الدور الاستعماري الذي كانت تلعبه بريطانيا في فلسطين. كان دائمًا يذكر رفاقه بأن الاستعمار البريطاني هو السبب الرئيسي للمشاكل التي يعاني منها الشعب الفلسطيني، ويجب عليهم أن يعتبروا البريطانيين العدو الرئيسي ويتحدوا ضده.
كان أحد أهداف نضال الشيخ القسام هو طرد القوات البريطانية من أرض فلسطين وإيقاف خطة يهودنة فلسطين. من أجل تحقيق هذا الهدف، بدأ بتشكيل وتنظيم مجموعات مسلحة سرية، وكان إلى جانب التدريب العسكري يسعى أيضًا لتعزيز روح النضال والجهاد في صفوف قواته. كان القسام وقواته يعملون على ترسيخ فكرة عدم الثقة بالبريطانيين ورفض التعاون مع قواتهم في أذهان الشعب الفلسطيني.
كان من المستحيل أن تغيب كراهية الشيخ عز الدين قسام واحتقاره لبريطانيا عن أعين القوى الاستعمارية البريطانية. ومن المهم أن نذكر أن القسام لم يكن يؤمن أبدًا بالكفاح السري ضد الاستعمار، بل كان دائمًا يعلن عن أهداف نضاله علنًا.
كان القسام وقواته يعتبرون بريطانيا عدوًا للشعب العربي، بل وأيضًا عدوًا للعالم الإسلامي بأسره، ولذلك كان أحد أهدافهم الرئيسية هو طرد هذه القوى الاستعمارية من فلسطين. كما كانوا يعتبرون أن هجرة اليهود إلى فلسطين كانت نتاجًا للأفكار الاستعمارية البريطانية، لذا كانوا يعتقدون أنه إذا تمكنوا من هزيمة بريطانيا، فإن هزيمة الصهاينة ستكون نتيجة حتمية لذلك.
في معركة “أحراش يعبد“، حوصر الشيخ عز الدين القسام، رحمه الله، من قبل القوات البريطانية. لم يرضخ للاستسلام، بل اختار الشهادة بعزةٍ نهايةً لمسيرته الجهادية. استُشهد القسام، لكنّ المستعمر لم يستطع طمس ذكره أو محو طريقه من الذاكرة. حتى جنازة هذا القائد المُناضل تحولت إلى مظاهرةٍ ضد الاستعمار. وفي المحاكم التي تلت استشهاده، أكد الحاضرون على دور بريطانيا الاستعماري في فلسطين، مُعتبرين أن هدف ثورتهم هو النضال ضدّ الإنجليز، لا اليهود!
دور بريطانيا في الإضرابات العامة الفلسطينية، وتدمير المنازل في يافا، وتشكيل الفرق الخاصة الليلية
بعد استشهاد الشيخ عز الدين القسام، لیس فقط لم تنتهِ نضالات الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار البريطاني، بل استمرت في أشكال جديدة ومتنوعة. أقرب ثورة حدثت كانت الإضراب العام الذي استمر لمدة ستة أشهر والذي بدأ في أبريل 1936، ولهذا السبب يطلق بعض المؤرخين عليه “ثورة أبريل”.
ومع مرور الوقت، أصبح دور الاستعمار البريطاني في فلسطين أكثر وضوحًا بالنسبة للشعب الفلسطيني، مما جعلهم أكثر اتحادًا في كفاحهم ضد هذا الاستعمار. كان الشعب الفلسطيني غاضبًا جدًا من السياسات الاستعمارية البريطانية التي كانت تعزز قوة الصهاينة يومًا بعد يوم، بينما كانت تضعف وتهمش الفلسطينيين. كان البريطانيون قد زرعوا بذور الكراهية والخلاف من خلال منح تصاريح هجرة اليهود إلى فلسطين وتطبيق سياسات دعم للصهاينة، وهو ما أدى في النهاية إلى نشوء صراعات وثورات واضطرابات في أنحاء مختلفة من فلسطين.
إنّ الصهاينة الذين قدموا في يوم من الأيام بوجهٍ يحملُ مظلوميةً، يطلبون ترخيصًا للهجرة إلى أرض فلسطين، قد بلغوا من القوة، بفضل سياسات بريطانيا الاستعمارية ودورها في فلسطين، مبلغًا جعلهم يُلحقون الأذى بالفلسطينيين في أرضهم، ويُخرجونهم من ديارهم.
العرب الفلسطينيون الذين كانوا يرون أن أصوات احتجاجاتهم لا تصل إلى الساسة البريطانيين، بعد معارك دامية مع اليهود، بدأوا في تنفيذ إضراب عام، والذي سرعان ما انتشر ليصبح أحد أطول الإضرابات في تاريخ فلسطين. خلال فترة الإضراب، امتنع الفلسطينيون عن الذهاب إلى أعمالهم، ورفضوا دفع الضرائب للحكومة الاستعمارية الحاكمة. إنهم كانوا يسعون إلى إيجاد وسيلة لتغيير سياسات الدولة الحاكمة ووقف هجرة اليهود إلى فلسطين؛ لكن البريطانيين لم يوقفوا هذا التدفق، بل تركوا يد الوكالات اليهودية مفتوحة لنقل المزيد من اليهود إلى فلسطين.
مخالفة البريطانيين لمطالب الفلسطينيين أدت إلى تحول احتجاجاتهم من الإضراب إلى الكفاح المسلح. لكن هذه المقاومة لم تُقنع البريطانيين بتغيير سياساتهم الاستعمارية، بل أثارت طبعهم الهمجي، مما أدى إلى تدمير واسع للمنازل في مدينة يافا وتشريد سكانها. ومع ذلك، لم تتمكن هذه الوحشية من كسر عزيمة الفلسطينيين، واستمروا في مقاومتهم بكل قوة. وفي النهاية، وبمساعدة الوساطات من الحكومات والهيئات الملكية والقوات العسكرية، تمكن البريطانيون من إقناع الفلسطينيين بإنهاء إضرابهم.
كانت بريطانيا تعارض بشدة تعزيز القوة العسكرية والتسليحية للفلسطينيين، وتعمل على وضع العديد من العراقيل أمام هذا الهدف. وفي الوقت نفسه، لم تتردد في دعم وتقوية المجموعات العسكرية المتمردة الصهيونية. كانت سياسة بريطانيا المزدوجة هذه مدفوعة بحسابات استعمارية، حيث رأت في قوة الصهاينة أداة مفيدة لتحقيق أهدافها الاستعمارية، بينما كان تقوية الفلسطينيين يمثل تهديدًا لها، كونهم كانوا يعارضون وجودها واستعمارها في المنطقة، وكانوا يسعون جاهدين لطردها.
من بين الإجراءات الاستعمارية التي اتخذتها بريطانيا في فلسطين، كان تشكيل وتجهيز مجموعات مسلحة وقوات لمكافحة التمرد تحت مسمى “فرق الليل الخاصة”. كان المهاجرون اليهود يشكلون أعضاء هذه المجموعات. وقد قام الصهاينة، سرًا، بتبادل الأسلحة في أماكن إقامة المهاجرين، كما أنشأوا، بمساعدة البريطانيين، مصانع أسلحة لزيادة تجهيز هذه الفرق.
شاركت هذه المجموعات إلى جانب البريطانيين في قمع الاحتجاجات الفلسطينية، مما أدى في النهاية إلى مقتل وجرح وسجن آلاف الفلسطينيين. لم تتوانَ بريطانيا، حتى قبل خروجها من فلسطين، عن بذل أي جهد لتقوية الصهاينة وقمع الفلسطينيين.
وفي الختام، تجدر الإشارة إلى أن الدور الاستعماري لبريطانيا في فلسطين لا يقتصر على الحالات المذكورة في هذه المقالة، فهناك أمثلة أخرى لا حصر لها لبصمات هذه القوة الاستعمارية في تاريخ فلسطين.
[1] . خطاب السيد القائد في صلاة يوم الجمعة بطهران(15 ديسمبر2000م)