أسباب تاريخية في تشکیل حزب الله اللبناني وتعزيزه
يُعتبر حزب الله في لبنان من أكثر جماعات المقاومة تأثيرًا وقوة، وهو حاليًا أحد الفاعلين الرئيسيين في السياسة اللبنانية والتطورات الإقليمية. لقد لعبت عوامل متعددة دورًا في تأسيس وتعزيز حزب الله؛ وهي عوامل قد تبدو في كثير من الأحيان غير مريحة، لكن نتائجها في النهاية كانت لصالح الحزب. لدراسة تاريخ تشكيل وتعزيز حزب الله، يجب علينا أن نبحث في التاريخ المعاصر للبنان.
شهد التاريخ المعاصر للبنان حروبًا وصراعات عميقة ومعقدة، لم تؤثر فقط بشكل مباشر على الأوضاع الداخلية للبلاد، بل كانت أيضًا تعبيرًا عن التوترات الإقليمية والعالمية. كانت تطورات لبنان في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي تحت تأثير سلسلة من الأحداث المتبادلة والمستمرة؛ حيث كان لكل من هذه الأحداث تأثير مباشر أو غير مباشر على وقوع الحدث التالي. ومن بين الأحداث الرئيسية والمهمة، نجد الانفجارات المتتالية في عام 1983، وتأسيس حزب الله في عام 1985، واستشهاد السيد عباس الموسوي في عام 1992، ووقوع “عمليات قنابل الغضب” في عام 1996، والتي تُعتبر من الأحداث المترابطة والمؤثرة في التاريخ المعاصر للبنان.
أدت الانفجارات المتتالية في عام 1983، التي جاءت ردًا على التدخلات العسكرية الأجنبية، إلى زيادة الكراهية العامة تجاه وجود القوات الأمريكية والفرنسية، كما عززت روح المقاومة وجذبت الأفراد إلى جماعات المقاومة، مما ساهم في تشكيل حزب الله وتعزيزه. كان تأسيس حزب الله في عام 1985 ردًا على التدخلات العسكرية والاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان.
كان لقيادة ونفوذ شخصيات مثل السيد عباس الموسوي تأثير كبير في تأسيس وتعزيز حزب الله. استطاع الحزب بفضل قيادة السيد عباس الموسوي تنظيم قواته والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. وقد لعب السيد عباس الموسوي، بوصفه مفكرًا قويًا وقائدًا مؤثرًا، دورًا بارزًا في تعزيز روح المقاومة وأيديولوجية حزب الله.
سعى الكيان الصهيوني من خلال اغتيال قادة المقاومة إلى إضعاف هذه الجبهة؛ ولكن أدت مثل هذه الإجراءات، على عكس ما كان متوقعًا، إلى تعزيز حزب الله وجمع الدعم الشعبي حوله. أثر استشهاد السيد عباس الموسوي على روح ودافع أعضاء حزب الله وسائر جماعات المقاومة، وعمل كقوة لاستمرار المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
كان الكيان الصهيوني يسعى من خلال تنفيذ عمليات إجرامية متعددة، مثل “عمليات قنابل الغضب” في قانا، إلى زيادة اعتداءاته وتقدمه في الأراضي اللبنانية، وإضعاف قوة حزب الله وتدمير منشآته العسكرية وبنيته التحتية. وقد ادعى الكيان الصهيوني، من خلال التظلم، أن هدفه من هذه العمليات هو الدفاع عن المواطنين الإسرائيليين ضد هجمات حزب الله، لكنه ارتكب في ذروة قسوته مجازر ضد المدنيين، مما زاد من حدة التوترات القائمة. بعد هذه العمليات، زادت الهجمات العالمية ضد الكيان الصهيوني، وتعززت مكانة حزب الله كمدافع عن اللبنانيين.
في هذه المقالة، نستعرض مجموعة من الأحداث التي كانت في الغالب مؤلمة وغير مريحة، وسنبحث في تاريخ تأسيس حزب الله والأحداث الرئيسية التي أدت إلى تشكيله وتعزيزه.
انفجارات عام 1983 و دورها في تشكيل وتعزيز حزب الله في لبنان
لبنان هو بلد عانى لسنوات طويلة من أنواع مختلفة من التحديات والتوترات والصراعات والحروب؛ ففي كل فترة زمنية، كان هناك عامل أو عدة عوامل خاصة تؤثر بشكل كبير على الظروف الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية والاجتماعية في هذا البلد. في عام 1983، وفي فترة كانت فيها لبنان غارقة في الحروب الأهلية، وقعت انفجارات في البلاد كان لها تأثيرات عميقة ومتعددة الأبعاد على الأحزاب والجماعات والقوى المشاركة في الحرب الأهلية. كانت هذه الانفجارات تعكس ذروة التوترات السياسية والعسكرية في لبنان، وكانت أيضًا علامة على نشوء حركات المقاومة، بما في ذلك حزب الله. ليس من المبالغة القول إن انفجارات عام 1983 كانت واحدة من العوامل المؤثرة والرئيسية في تشكيل وتعزيز حزب الله.
وقعت انفجارات في 18 أبريل و23 أكتوبر 1983 في كل من مقر السفارة الأمريكية في لبنان ومقر قوات حفظ السلام الأمريكية والفرنسية. من المهم أن نفهم لماذا كانت هذه القوات موجودة في لبنان، نظرًا لأن هذه الانفجارات حدثت في أماكن تواجد القوات الأجنبية والمتعددة الجنسيات.
كانت لبنان في الفترة من 1975 إلى 1990 مشغولةً بالحرب الأهلية، وكانت هناك عوامل متعددة ساهمت في نشوء وتصعيد هذه الحرب، مثل قضية احتلال فلسطين من قبل إسرائيل، وهجرة اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان، والمنافسات الطائفية والدينية بين المسلمين الشيعة والسنة، والدروز والمسيحيين، بما في ذلك الفالانجيين، بالإضافة إلى تواجد القوات الأجنبية الإسرائيلية وبعض قوات المقاومة الفلسطينية مثل منظمة التحرير الفلسطينية.
أدت الأزمات والحروب الأهلية في لبنان إلى عدم كفاءة الحكومة المركزية وزيادة نفوذ الجماعات المسلحة. وقد ساهمت هذه العوامل، إلى جانب الهجمات الإسرائيلية على جنوب لبنان واحتلال أجزاء من هذه المنطقة، في إصدار الأمم المتحدة القرار 425 في عام 1978، الذي دعا إلى إرسال قوات حفظ السلام[1] إلى لبنان. وكان الهدف الظاهر من دخول هذه القوات هو الحفاظ على السلام والأمن ومنع تصعيد النزاعات في المنطقة، بالإضافة إلى استعادة السيطرة الحكومية اللبنانية على المناطق المحتلة ومراقبة خروج القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان.
لقد غير وجود القوات الأجنبية المعادلات السياسية في لبنان، وعارضت بعض الأحزاب اللبنانية، بما في ذلك الحزب الحاكم، وهو الفالانجيون، وجود اللاجئين وقوات المقاومة الفلسطينية. من ناحية أخرى، كانت قوات المقاومة، بما في ذلك حزب الله الذي كان في مرحلة التكوين، غير مؤيدة لوجود القوات الأجنبية في لبنان.
من أهم أسباب معارضة قوات المقاومة اللبنانية لوجود القوات الأجنبية هي مجزرة صبرا وشاتيلا في عام 1982، وهي أيضًا أحد العوامل المهمة التي أدت إلى الهجمات على القوات الأمريكية والانفجارات في لبنان عام 1983. أثارت الجريمة الرهيبة التي ارتكبها الفالانجيون بدعم من إسرائيل والقوات الأجنبية، بما في ذلك الأمريكيون، ضد اللاجئين الفلسطينيين موجة من الكراهية العامة تجاه هذه القوات. بالطبع، لم تكن هذه الكراهية ناتجة فقط عن فاجعة صبرا وشاتيلا، بل كانت مرتبطة أيضًا بالاعتداءات والهجمات الإسرائيلية والأمريكية الأخرى.
أدت الانفجارات عام 1983 إلى نتائج وتفاعلات مختلفة، وغيرت بعض السياسات السائدة في لبنان. بعد هذه الأحداث، قررت الحكومة الأمريكية تقليص وجودها العسكري في لبنان بسبب شعورها بالخطر وانعدام الأمن في المنطقة، وفي النهاية سحبت قواتها. كانت هذه الانفجارات تعبر عن عجز القوات الأجنبية عن تأمين الأمن في لبنان، رغم أنها دخلت البلاد بهدف تحقيق ذلك.
كما زادت هذه الانفجارات من حدة الأزمة الأمنية وعدم الاستقرار في لبنان، مما أدى إلى تصاعد التوترات وزيادة انعدام الأمن العام، وفتح المجال لتأسيس ونفوذ جماعات المقاومة مثل حزب الله. في ذلك الوقت، لم يكن حزب الله قد بدأ نشاطه بشكل رسمي، لكنه بعد هذه الانفجارات أصبح يُعتبر قوة رئيسية للمقاومة في لبنان، واستطاع الحصول على دعم واسع من المجتمع الشيعي وشرائح مختلفة من المجتمع اللبناني. تم تشكيل وتعزيز حزب الله كقوة مقاومة وطنية في وقت كانت فيه القوات الأجنبية تسعى للهيمنة على هذا البلد.
لا تزال سياسة التدخل الأمريكية في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط مستمرة، ويمكن رؤية آثارها اليوم في الحروب في غزة ولبنان وسوريا واليمن. قد حذر الدكتور بول بيلار، وهو ضابط سابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية(CIA)، من خطورة تورط بلاده في الحروب الإسرائيلية، مشيرًا إلى انفجارات عام 1983 في لبنان، والتكاليف المماثلة التي سيتعين عليهم دفعها نتيجة الانغماس في هذه الحروب.
تاريخ حزب الله اللبناني
يُعتبر حزب الله في لبنان من أبرز حركات المقاومة وأهمها في تاريخ الشرق الأوسط. في السنوات الأولى من عقد الثمانينيات، كان الوضع في لبنان نتيجة للحروب الأهلية وتدخل القوات الأجنبية، وخاصة الإسرائيلية، غير مستقر وغير آمن، مما أثار غضب الشعب اللبناني واحتجاجاته. فقد ولد هذا الحزب من رحم المعاناة التي عاشها اللبنانيون جراء الحرب الأهلية والاحتلال الإسرائيلي، حيث وجد في نفوس الناس تربة خصبة للتحدي والمقاومة. أدت الفوضى والاضطرابات الناجمة عن الحرب الأهلية إلى تحويل لبنان إلى ساحة تنافس إقليمي ودولي. في عام 1982، شنت إسرائيل هجومًا على لبنان بهدف طرد منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) من البلاد، مما أدى إلى احتلال جنوب لبنان.
كانت هناك جماعات مختلفة تشارك في الحرب الأهلية اللبنانية لأهداف متنوعة، لكن حزب الله، كأحد جماعات المقاومة، كان له أهداف وطنية ودينية وإنسانية. تأسس الحزب بهدف الدفاع عن استقلال وحقوق الشعب اللبناني، ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ومواجهة النفوذ الغربي في المنطقة، ودعم القضية الفلسطينية.
أعلن حزب الله عن وجوده رسميًا في بيان عام 1985، لكنه کان قد بدأ نشاطاته غير الرسمية قبل ذلك. وفقًا لأحد بنود “اتفاق الطائف”[2]، الذي ينص على حل الجماعات المسلحة اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها، أعلنت الحكومة اللبنانية في عام 1991 عن حل جميع الجماعات المسلحة باستثناء حزب الله. كان الأعضاء الرئيسيون في حزب الله سابقًا جزءًا من حركة أمل، ثم انفصلوا عنها وأعلنوا عن تشكيل حركة جديدة باسم حزب الله. كان أحد أسباب هذا الانفصال هو تأكيد بعض الأعضاء على ضرورة تبني فكر المقاومة واتباع أسلوب خاص في النضال ضد إسرائيل. وبالنظر إلى أهداف ومبادئ حزب الله، بالإضافة إلى دوره القوي في الأحداث الإقليمية، يمكن اعتبار تشكيل وتعزيز حزب الله واحدًا من أهم التحولات في التاريخ السياسي والاجتماعي والعسكري للشرق الأوسط، حيث كان له تأثير كبير على نضالات المقاومة ضد إسرائيل.
كان الحزب يسعى إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان، ودعم حق العودة للفلسطينيين، وإعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم. ورغم أن حزب الله وضع تحقيق الأهداف العسكرية في مقدمة أولوياته، إلا أنه لم يغفل عن الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية. في إطار هذه الأهداف، وبالإضافة إلى المقاومة المسلحة، أسس الحزب مؤسسات تعليمية وصحية وخدمية متنوعة في المناطق الشيعية والمناطق المحتلة.
أسهمت النجاحات العسكرية لحزب الله وخدماته الاجتماعية، مثل بناء المدارس والمستشفيات وتوزيع المساعدات المالية، في زيادة شعبيته بين الشيعة وشرائح أخرى من المجتمع اللبناني. بالإضافة إلى اكتساب الشعبية في المجال الاجتماعي وجذب الدعم الشعبي، تمكن الحزب مع مرور الوقت من تعزيز قوته ونفوذه في الساحة السياسية، حيث أصبح الآن أحد القوى الرئيسية في الحكومة والبرلمان اللبناني.
لقد كان لتشكيل وتعزيز حزب الله تأثير كبير على زيادة قوة جبهة المقاومة ضد إسرائيل. يتمحور الفكر الأساسي لحزب الله حول المقاومة، والوقوف في وجه الظلم، والنضال في جبهة الحق ضد الباطل. تُعتبر إسرائيل من وجهة نظر حزب الله، مصدر الشر والظلم، وانتهاكًا لحقوق الإنسان، ونظامًا استعماريًا يحمل أفكارًا عنصرية. لذا يعتبر النضال ضد هذا النظام واحتلالاته واجبًا دينيًا وإنسانيًا على عاتقه وعلى عاتق الآخرين الذين تهمهم قضايا الدين والإنسانية.
أدى تشكيل وتعزيز حزب الله إلى بروز شخصيات مقاومة مثل الشهيد السيد عباس الموسوي والشهيد السيد حسن نصر الله، الذين تركوا تأثيرًا كبيرًا على جبهة المقاومة، ولا يزال الحزب يعمل على تدريب مقاتلين مقاومين وتعزيز الفكر وجبهة المقاومة.
استشهاد السيد عباس الموسوي و دوره في تعزيز حزب الله في لبنان
يُعتبر الشهيد السيد عباس الموسوي واحدًا من الشخصيات الدينية والسياسية البارزة والمفصلية في التاريخ المعاصر للبنان وفي ساحة المقاومة. لقد قام بالعديد من الأنشطة في إطار النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي ودعم حقوق الشعب الفلسطيني، ولعب دورًا فعالًا خلال سنوات وجود الأمريكيين والإسرائيليين في لبنان.
كان الشهيد السيد عباس الموسوي رمزًا بارزاً للمقاومة الإسلامية في لبنان، حيث كان دائمًا في الصفوف الأمامية لجبهة المقاومة. بالإضافة إلى شخصيته العسكرية، يُعرف أيضًا كقائد ديني واجتماعي في تاريخ لبنان. وهو أحد المؤسسين الرئيسيين لحزب الله، وقد تم انتخابه كأمين عام ثانٍ للحزب في عام 1991 بعد سنوات قليلة من تأسيسه. لعب الشهيد الموسوي دورًا مهمًا وفعّالًا في تشكيل أهداف المقاومة وصياغة سياساتها. كان للسيد الموسوي دور بارز في تشكيل وتعزيز حزب الله، حيث تمكن الحزب تحت قيادته من أن يصبح قوة عسكرية فعالة، وحقق عمليات ناجحة ضد القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان. وقد كان يؤكد بشدة على أهمية النضال المسلح ضد إسرائيل. بعد عامٍ من اختيار السيد عباس الموسوي أمينًا عامًا لحزب الله، وفي 16 فبراير 1992، استُهدفت قافلة سياراته من قبل مروحيات عسكرية إسرائيلية أثناء عودته مع عائلته من مراسم تأبين الشيخ راغب حرب في جنوب لبنان. وأسفرت العملية عن استشهاد السيد عباس الموسوي وزوجته وطفله الصغير وعدد من مرافقيه. مثّلت هذه الجريمة نقطة تحول هامة في تاريخ حزب الله ومنطقة الشرق الأوسط. لقد كان للسيد عباس الموسوي أثر بالغ في جبهة المقاومة، حيث عمل على توطيد أواصر الوحدة بين مختلف فصائل المقاومة، مستغلاً الإمكانات الاجتماعية والثقافية. وقد زادت شهادته من عزيمة المقاومين ووحدتهم.
سعت إسرائيل من خلال اغتيال السيد عباس الموسوي إلى إضعاف القيادة العسكرية والأيديولوجية لحزب الله، وتقويض محور المقاومة في جنوب لبنان. إلا أن الأحداث اللاحقة أثبتت عكس ذلك تمامًا، حيث أدى استشهاده إلى تعزيز جبهة المقاومة وتقوية إيمانها أكثر من أي وقت مضى. وقد أشار قائد الثورة، آية الله خامنئي، في رسالة تعزية بمناسبة استشهاد السيد عباس الموسوي، إلى هذا الأثر بقوله: “إن الدماء الطاهرة التي أُريقت ظلمًا لهذا الشهيد العظيم ورفاقه المظلومين ستجعل نضال الشعبين اللبناني والفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني أكثر جدية وعمقًا.” [3]
كان لاستشهاد السيد عباس الموسوي تأثير عميق على تعزيز الأيديولوجية وروح المقاومة في حزب الله، وزيادة العزم والثبات على مواصلة النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، مما أدى إلى تعبئة أكبر لأعضاء الحزب وتعزيز هويته وقوته العسكرية والسياسية وزيادة شرعيته بين الشعب اللبناني.
ردًا على هذا الاغتيال، زاد حزب الله من شدة هجماته ضد القوات الإسرائيلية على الحدود الشمالية. كما قام الحزب بسرعة بانتخاب السيد حسن نصر الله كأمين عام جديد، الذي قاد الحزب نحو مزيد من القوة والنفوذ. مع تولي السيد حسن نصر الله القيادة، لم يواصل حزب الله نشاطاته العسكرية فحسب، بل بدأ أيضًا في تعزيز شبكاته الاجتماعية والسياسية في لبنان. تعكس كلمات قائد الثورة حول جبهة المقاومة واقعًا موجودًا منذ زمن بعيد، حيث يقول: “جبهة المقاومة ليست جهازًا يمكن كسره أو انهياره أو تدميره. المقاومة إيمان، وفكر، وقرار قلبي حاسم. إنها مدرسة، مدرسة عقائدية. ما يؤمن به بعض الناس ليس شيئًا تعاقديًا… هذا، مع الضغط، لا يضعف فحسب، بل يصبح أقوى.”[4]
أدى اغتيال السيد عباس الموسوي إلى تصعيد النزاعات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل، وفي النهاية، إلى انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في عام 2000. ومع ذلك، قبل انسحابها، شنت إسرائيل هجمات وحشية على المدنيين، ومن بين آخر تلك الهجمات كانت عملية “عناقيد الغضب” في قانا.
عمليات “ عناقيد الغضب” وتأثيرها على تعزيز حزب الله
شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي في 11 أبريل 1996م عدوانًا شرسًا على جنوب لبنان، أطلقت عليه اسم عملية “العناقيد الغضب”. استهدف هذا العدوان المدنيين والبنية التحتية اللبنانية، وراح ضحيته المئات من الشهداء والجرحى. تزعم قوات الاحتلال أن هذا العدوان جاء ردًا على هجمات صاروخية لحزب الله، لكن الحقيقة أن هذه الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على لبنان مثل “عملية الليطاني”[5]، و”عملية السلام للجليل”[6]، و”عملية التسوية”[7]، هي جزء من سياسة عدوانية طويلة الأمد تهدف إلى احتلال الأراضي اللبنانية وإخضاع شعبها.
إن الهدف الرئيسي من عملية “عناقيد الغضب” التي شنتها إسرائيل هو تقويض قدرات حزب الله العسكرية، ووضع حد لهجماته الصاروخية على شمال إسرائيل. كما زعمت إسرائيل أنها تسعى إلى استعادة الأمن والاستقرار لسكان الشمال. شهدت قرية قانا في 18 أبريل 1996م مجزرة مروعة خلال عملية “عناقيد الغضب”. فبعد أن لجأ مئات المدنيين إلى قانا هرباً من القصف الإسرائيلي، تعرضوا لغارة جوية إسرائيلية أسفرت عن استشهاد أكثر من مئة مدني. كانت هذه الجريمة من أفظع الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل حربياً.
لم تتسبب هذه الجريمة البشعة في خسائر مادية وبشرية فحسب، بل أثارت غضبًا عارمًا في العالم أجمع. فقد صدمت العالم صور الأطفال والمدنيين الأبرياء الذين سقطوا ضحايا لهذه المجزرة، مما زاد من العداء ضد الكيان الصهيوني. وعوضًا عن إضعاف حزب الله، زادت هذه الجريمة من شعبيته ودعمه، وتحولت إلى نقطة تحول في تاريخ المقاومة.
أدت عملية “عناقيد الغضب” إلى ترسيخ مكانة حزب الله في نفوس اللبنانيين، لا سيما الشيعة في الجنوب، كحركة مقاومة بطولية تواجه الاحتلال والعدوان الإسرائيلي. فبعد أن استهدفت إسرائيل المدنيين وألحقت بهم خسائر فادحة، زاد ذلك من تعاطف الشعب اللبناني مع حزب الله ودعمه له. وقد تمكن الحزب من خلال هذه الأزمة من أن يثبت نفسه كمدافع عن لبنان في وجه العدوان الخارجي، مما زاد من شعبيته في السنوات اللاحقة.
لم تكن مجزرة قانا سوى حلقة جديدة في سلسلة جرائم النظام الصهيوني، والتي يقف وراءها الدعم والتخطيط الأمريكي. وقد كشف خطاب قائد الثورة الإسلامية عن حقيقة هذه الجريمة، مؤكداً أنها ليست سوى جزء من مخطط أكبر يهدف إلى الهيمنة على المنطقة والعالم الإسلامي. حيث قال في جزء من رسالته: “ما حدث في لبنان عكس حقوق الإنسان الأمريكية للجميع، وأظهر الشرق الأوسط الذي تسعى إليه الحكومة الأمريكية. اليوم، أصبح واضحًا للجميع أن الهجوم على لبنان كان خطة مسبقة وأمرًا أمريكيًا-صهيونيًا كخطوة أساسية نحو السيطرة على الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. يتحمل بوش ورفاقه الأمريكيون نفس القدر من المسؤولية عن فظائع لبنان مثل زعماء النظام الصهيوني الخبثاء، وصمت الأمم المتحدة ومعظم الحكومات الغربية، ودعم بعض الحكومات مثل الحكومة البريطانية السيئة السمعة، لا یعني غير أنهم جميعًا شركاء في الجريمة في حكم اليوم والغد للبشرية وفي العقاب الإلهي العظيم.”[8]
استعرضنا في هذا المقال سلسلة من الأحداث البارزة التي شكلت حزب الله، بدءًا من الانفجارات المتتالية عام 1983، مروراً باستشهاد القائد عباس الموسوي، ووصولاً إلى مجزرة قانا. هذه الأحداث لم تكن مجرد وقائع عابرة، بل كانت محطات فارقة في تاريخ المقاومة الإسلامية، حيث ساهمت كل منها في صقل شخصية الحزب وتقوية عزيمته.
إن حزب الله، الذي ولد من رحم المعاناة والصراع، أثبت للعالم أجمع أنه قوة لا تُقهر، وأن دماء الشهداء هي وقود انتصاراته. فكلما واجه تحديًا جديدًا، ازداد قوة وصلابة، حتى بات اليوم أحد أهم رموز المقاومة في العالم.
[1] UNIFIL; United Nations Interim Force in Lebanon
[2] أفراد ومجموعات مختلفة تعبر عن انتقادات تجاه مؤتمر الطائف.
[3] رسالة تعزية في أعقاب استشهاد العلامة السيد عباس الموسوي؛ 28/11/1370
[4] بيانات خلال لقاء مع آلاف من مختلف شرائح المجتمع حول التطورات الإقليمية؛ 21/9/1403.
[5] Operation Litani
[6] Operation Peace for Galilee
[7] Operation Accountability
[8] رسالة في أعقاب جرائم الكيان الصهيوني في فاجعة قانا في لبنان؛ 10/05/1385.