نظرة على شريعة عيسى المسيح وكيفية تحريف دينه عبر التاريخ
كان عيسى بن مريم عليه السلام رابع أنبياء الله أولي العزم، وقد لُقب بالمسيح. تتميز قصة ولادته بخصوصية عجيبة، وقد خصص القرآن الكريم سرداً مفصلاً لشريعته وأحداث حياته وطريقة عروجه إلى السماء. يؤمن الإسلام بأن عيسى عليه السلام كان نبياً صاحب كتاب وشريعة، ولكنه يرى أن كتابه قد تعرض للتحريف وتضاربت تعاليمه مع ما جاء به النبي عيسى عليه السلام من الحق والحقيقة.
ولد المسيح عليه السلام، بإرادة الله، من السيدة مريم العذراء دون أب. وقد بشر جبريل السيدة مريم بكيفية حدوث الحمل والولادة، وكيفية تحملها لهذا الأمر العظيم. وبعد ولادته، تكلم عيسى بإذن الله، وكذب من كذبوا أمه. وقد بدأ رسالته بشكل رسمي في الثلاثين من عمره. وكان له اثنا عشر تلميذاً يُطلق عليهم الحواريون، بالإضافة إلى عدد من التلاميذ الآخرين الذين تم تدريبهم على يده.
يُطلق على الكتاب السماوي الذي أنزل على عيسى عليه السلام اسم الإنجيل، وقد تم تدوينه بعد عروج المسيح على يد حوارييه وغيرهم. ويعتقد المسيحيون أن مؤلفي هذه الكتب استندوا في كتاباتهم إلى التعاليم الشفوية التي نقلها عيسى عليه السلام. ومع ذلك، فإن الكثير من محتويات هذه الأناجيل لا يتوافق ولا يتطابق مع التعاليم التوحيدية لشريعة عيسى عليه السلام وسائر الأنبياء. ويعود سبب هذا التناقض إلى شخصية بارزة تدعى “بولس”، الذي يُعتبر اليوم، ثاني أهم شخصية في المسيحية. أصبح بولس زعيمًا فكريًا وعقائديًا للمسيحيين بعد سنوات من رحيل عيسى عليه السلام، وقام بإعادة تفسير شريعة عيسى عليه السلام بما يتوافق مع أهدافه وأهوائه الشخصية. وبالتالي، فإن الفكر المسيحي الحالي لا يستمد جذوره بشكل أساسي من تعاليم عيسى عليه السلام، بل هو نتاج أفكار ومبادئ ابتكرها بولس.
لقد سلكت شريعة عيسى عليه السلام مسارين مختلفين قبل وبعد ظهور بولس. فقبل بولس، كانت شريعة عيسى عليه السلام متشابهة ومتوافقة إلى حد كبير مع شريعة موسى عليه السلام التوحيدية. أما بعد بولس، فقد رفع بولس من شأن عيسى عليه السلام وجعله إلهاً وأول مخلوق، وألحق بشريعته آراءه الشخصية حول صلبه ومفاهيمه الخاصة بشريعة عيسى عليه السلام وأحكامها.
ولادة عيسى علیه السلام
ينتمي نسب السيدة مريم بنت عمران إلى نسل سليمان عليه السلام وكان عمران من علماء بني إسرائيل الأتقياء. ذُكرت السيدة مريم ثلاثًا وثلاثين مرة في القرآن الكريم وسُميَت سورة باسمها. بشَّر الله السيدة مريم قبل ولادة السيد المسيح بميلاده عن طريق جبريل عليه السلام، بل وأخبرها باسمه أيضًا. فاستغربت السيدة مريم[1] وهي عذراء طاهرة من هذا الخبر، خوفًا من فتنة الناس وسوء ظنهم بها. فارتعبت كثيرًا من هذا الأمر، ولجأت إلى مسقط رأسها الناصرة، وعاشت منعزلة في بيت بسيط، وقللت من مخالطتها للناس قدر الإمكان لتجنب انتشار خبر حملها.
وحين حان وقت وضع حملها، عانت من آلام شديدة، فخرجت إلى البرية بعيدًا عن أعين الناس لتضع مولودها. ولما ولد الطفل، كانت مريم ضعيفة جدًا بلا طعام ولا شراب، ولا أحد يساعدها. فأنزل الله من عند قدميها نهرًا من الماء، وأخرج من نخلة يابسة كانت متكئة عليها رطبات، وأمرها أن تأكل وتشرب لتقوى. ثم أمرها بالعودة إلى قومها وألا تكلم أحدًا، وأن تقول إنها نذرت الصمت فلا تكلم أحدًا. [2]
عادت السيدة مريم إلى قومها حاملةً وليدها، فاستهزأوا بها ولاموها، قائلين: ﴿يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾[3] فإذا بِالوليد يكلمهم بإذن الله، يقول: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَني نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾[4]. وعندما بلغ المسيح الثلاثين من عمره، بعثه الله رسولا للناس فأعلن رسالته جهارًا.
شريعة عيسى عليه السلام
يُطلق على مجموعة القوانين والأحكام التي تشكّل كل دين وتنظمه “الشريعة”. لم يُدخل السيد المسيح عليه السلام تغييرات جوهرية على شريعة موسى عليه السلام، أي الشريعة اليهودية، بل صرح بقوله: “لم آتِ لأبطل الناموس”. والقرآن الكريم يؤكد أن المسيح عليه السلام أدخل تعديلات طفيفة على شريعة موسى، واستكملها بما يتناسب مع ظروف عصره، مع أنه صاحب شريعة خاصة به، إلا أن شريعته كانت قريبة الشبه بالشريعة اليهودية الأصيلة. وقد حظي المسيح عليه السلام بمكانة خاصة بين الأنبياء العظام، وكانت مهمته الأساسية تصديق التوراة وتعليمها، وبشائر بقدوم النبي الخاتم. وكانت فترة نبوة المسيح عليه السلام قصيرة، ولم يعلن عن نبوته حتى بلغ الثلاثين من عمره، واختفى عن الأنظار بعد ثلاث أو ست أو سبع سنوات. الأمر المهم هو أنه بما أن تعاليمه لم تكن مختلفة كثيراً عن التوراة، لم تكن هناك حاجة ماسة إلى فترة نبوة طويلة. وكانت مهمته الأساسية هي “البشارة”، وكان أهم المبشرين في عصره، حيث جاء ليُمهّد لقدوم النبي الخاتم. وقد تعرضت شريعة المسيح عليه السلام في المسيحية إلى الكثير من التغييرات والتبديلات، حتى اختلفت كثيراً عما جاء به المسيح عليه السلام.
حواريو عيسى علیه السلام
يُطلق لقب “الحواريون” على الاثني عشر تلميذاً خاصاً وصحابياً للسيد المسيح عليه السلام. وقد أطلق عليهم العهد الجديد لقب “الرسل”[5] كما أطلق عليهم القرآن الكريم(هل القرآن هو ميثاق الخلق؟ ما هي العلاقة بين القرآن وبقية المخلوقات؟) لقب “الحواريون”[6]. وقد فسّر الإمام الرضا عليه السلام هذا اللقب بأنهم طهّروا أنفسهم من الذنوب والأوساخ وسعوا في تطهير الآخرين، بينما يرى البعض الآخر أن سبب تسميتهم بالحواريون هو أنهم كانوا يشتغلون بغسل الثياب. [7] وكان أكبر حواريي المسيح هو شمعون الذي لقّبه المسيح بـ”بطرس” أي الصخرة، واعتبر شمعون حجر الأساس للكنيسة والمجتمع المسيحي. ويعتقد العهد الجديد وبعض المصادر الإسلامية المحدودة أن أحد حواريو المسيح وهو يهوذا الإسخريوطي، قد خان السيد المسيح وكشف مكانه لليهود. [8] وقد كان المسيح عليه السلام يمنح حوارييه القدرة على شفاء أنواع الأمراض المختلفة، وذلك وفقاً لما جاء في الإنجيل. [9]
وقد ورد في القرآن الكريم أن الحواريين سألوا المسيح عما إذا كان الله قادراً على أن ينزل عليهم مائدة من السماء، فشك المسيح في إيمانهم، ولكنهم كانوا يريدون تقوية إيمانهم فقط. وبعد أن طلبوا مائدة من الله ، قال لهم المسيح إن الله سينزلها عليهم، ولكن من يكفر بعد ذلك فسيعذبه الله عذاباً لم يطلع عليه أحد. [10]
وقد عانى حواريو المسيح كثيراً من مرافقتهم له، وعندما عرج المسيح وحرم المسيحيون من نعمة وجوده، حملوا على عاتقهم مهمة تبليغ وتفسير الدين المسيحي. ولم يذكر القرآن أسماء الحواريين، ولكن الأناجيل المختلفة ذكرت أسماءهم، إلا أن هذه الأسماء لا تعتبر موثوقة تماماً نظراً لتأليفها بعد عروج المسيح عليه السلام واحتمالية تحريفها.
رئاسة بولس
بعد فترة من الحواريين، تولى بولس زمام الأمور في المسيحية. كان بولس يهوديًا في الأصل وكان يضطهد المسيحيين بشدة. لكنه اعتنق المسيحية فيما بعد، وتأثر به كثير من الناس، وتجول في مناطق مختلفة كرسول لعيسى ينشر عقائده المسيحية المعدلة.
يعتبر بولس أهم شخصية بعد عيسى في نشر المسيحية. فقد أدت نظرياته المبتكرة إلى ظهور معظم عقائد المسيحية الحالية. فشريعة عيسى كانت في البداية جزءًا من اليهودية، لكن بولس فصل شريعة عيسى عن اليهودية، لدرجة أنه يعتبر مؤسسًا ثانيًا للمسيحية بعد عيسى عليه السلام. [11] حاول البعض زجره ضمن حواريي عيسى، لكن هذه النظرية باطلة.[12] زعم بولس أنه مكلف من عيسى بنشر هذه الأحكام والعقائد[13]، مع أن هذه التعاليم تتعارض مع ما جاء في الأناجيل الرسمية عن شريعة عيسى. [14] أدت هذه التناقضات إلى ارتداد بعض المسيحيين عنه، فاتبع طقس “التطهير” لكسب ثقتهم.[15]
يرى بعض العلماء المسيحيين أن عقائد بولس المبتكرة مستوحاة من العقائد والمعارف الوثنية اليونانية. [16] ويؤكدون أن “المسيحية التاريخية” هي نتاج أفكار بولس، وتختلف كثيرًا عن “المسيحية الحقيقية”.[17] بذل المفكرون المسيحيون في العصور الوسطى جهودًا كبيرة لتبرير المعتقدات المنحرفة في المسيحية الحالية وتقديم أسباب مقنعة لها، وكان “توماس الأكويني” هو قائد هذا النقاش المسيحي. أراد أن يستفيد من الفلسفة الأرسطية التي عرفها من خلال الثقافة الإسلامية وكتب ابن سينا، لإعادة بناء الفكر المسيحي وتغيير شريعة عيسى. كان يسعى لإيجاد نوع من التوافق بين اللاهوت المسيحي والفلسفة،[18] لكن بعض المفاهيم كانت صعبة التفسير ولم يتمكنوا من تفسيرها بشكل منطقي.
كان رجال الدين المسيحي في العصور الوسطى[19] يتبوؤون مكانة رفيعة في المجتمع، إذ كانوا يعتبرون أنفسهم وسطاء بين السماء والأرض، مما أهلهم للسيطرة على شؤون الناس وفرض قوانينهم الدينية مما منحهم حقوقًا خاصة مثل الحكم على الناس وإلزامهم بالطاعة. ولقد قاموا بوضع قوانين دينية خاصة بهم لخدمة مصالحهم الخاصة.
شريعة عيسى علیه السلام قبل بولس
سبق لنا القول إن السيد المسيح لم يأت بشريعة جديدة، بل أكد على شريعة سيدنا موسى وضرورة العمل بها، مع إجراء بعض التعديلات الطفيفة في بعض الحالات. كان يؤكد باستمرار أنه لم يأت ليلغي شريعة موسى ولا ينتهك التوراة، بل جاء ليتمها ويكملها. قال: “لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ.” [20]
شريعة عيسى علیه السلام بعد بولس
أحدث بولس تغييرات جذرية في المسيحية، لدرجة يمكن القول إن المسيحية المعاصرة هي ثمرة لأفكاره أكثر منها لأفكار المسيح عليه السلام. فقد أحدث ثورة سلبية في شريعة المسيح، وأشهر نظرياته وأهمها هي “نظرية النعمة”. وكان بولس أول من حاول إعطاء هذا المصطلح معنى لاهوتيًا، إذ زعم أن الله يهب الخلاص مجانًا لمن لا يستحقونه، وأن الإنسان يستطيع الحصول على النعمة من خلال المسيح، وأن النعمة لا تعتمد على الأعمال بل تأتي من ذات الله الخالصة، وسبيل الحصول عليها هو الإيمان بمكاشفة المسيح.
وأكد بولس أن المسيح هو ابن الله وقد قدم نفسه كفارة لخطايا البشر، وأن الإيمان بفدائه وحده هو ما يخلصنا. وقال: إن الإنسان لا يتطهر من الخطيئة بأعماله بل بالإيمان بالمسيح، ولذلك نؤمن به لننال قبول الله لا بفعل الشريعة، لأن أحدًا لا يخلص بالشريعة. [21]بل ذهب إلى حد نفي الشريعة واعتبار عاملها محرومًا من نعمة المسيح. [22]
وقد بنيت المسيحية المعاصرة على إيمان بولس ونظرياته، ورغم نفيه للشريعة إلا أن الدين الذي يعتمد على نظام كنيسي وكتاب مقدس لا بد أن يكون له طقوس وشعائر. ورغم اختلاف هذه الطقوس والشعائر بين الطوائف المسيحية إلا أن هناك طقسين رئيسيين متفق عليهما هما المعمودية[23] والعشاء الرباني. [24]
تشمل المعتقدات مثل ألوهية عيسى واعتباره ابن الله[25]، وصلبه كفارة لخطايا البشر[26]، والاعتقاد بأن شريعة موسى تعيق اليهود عن الوصول إلى العدالة[27]، والإيمان بأن الإيمان القلبي ب عيسى يكفي للوصول إلى الكمال دون الحاجة إلى الالتزام بالأحكام الشرعية[28]، ورفض طقس التطهير[29] والزواج الشرعي[30]، وقد تم طرحها أولاً من قبل بولس.
استنادًا إلى المصادر التاريخية، فإن قصة اعتناق بولس للمسيحية محل شك كبير. إذ يُعتبر اعتناقه نقطة تحول في تاريخ المسيحية وبداية الانحرافات الرئيسية التي طرأت على شريعة عيسى عليه السلام. كان بولس في البداية أحد علماء اليهود، وكان له دور بارز في اضطهاد المسيحيين، حيث يقول المسيحيون عنه: “شاول، كان يعيش في مدينة طرسوس، وكان والده من اليهود المتمسكين بالتقاليد والعادات اليهودية، وكانت والدته من الشخصيات البارزة التي قدمت إنجازات ملحوظة. لذلك فقد كانت الحكومة الرومانية تدعمه بمكافآت معنوية.”[31]
إدّعى بولس أنه واجه نورًا في طريقه إلى دمشق، مما منعه من الاستمرار في أفعاله، وبعد ذلك أصبح من أتباع المسيح ومروّجًا لدينه، وكان هو أول من استخدم لقب “ابن الله” للإشارة إلى عيسى.[32]
قدم بولس المسيحية كدين جديد، ومع تحول بعض اليهود إلى هذا الدين الجديد، زاد غضب الكهنة اليهود واضطهادهم للمسيحيين.[33] وقد أدت هذه الاضطهادات ضد أتباع الدين الجديد إلى هجمات عنيفة ضد المسيحيين الأوائل وزيادة نفوذ بولس بينهم.
من الصفات الأخلاقية المذكورة لبولس في الكتب التاريخية، يمكن الإشارة إلى ادعاء العصمة، والتفاخر بنفسه، وقلة الصبر، والرغبة في الانتقام، وإيذاء معارضيه، وحب السيطرة، وهو حب لم يكن من النوع الذي يخدم الأفكار الدينية، بل كان عكس ذلك.[34] كانت هذه الصفات تهيمن على أفكار بولس الدينية.
اعتقد بولس أن تعاليمه هي التعبير الوحيد عن المسيحية، وجادل بأن هذه التعاليم قد أوحي بها إليه مباشرة من الله. ولهذا السبب، اعتبرت تعاليمه مساوية لوحي الله، بل إن البعض ذهب إلى حد القول بأن أي تعاليم أخرى، حتى لو جاءت من قبل ملاك، تعتبر ضلالاً. وهكذا، فإن أفكار بولس قد حظيت بقبول واسع واعتبرت حقيقة مطلقة في العديد من الطوائف المسيحية حتى يومنا هذا وإذا بشر ملاك بإنجيل آخر، فهو ملعون. [35]
ویل دورانت يرى أن بولس الرسول قد استفاد من معلميه اليهود، مثل “جمالائيل”، في تعلم المنطق الجدلي والفلسفي لتفسير الكتاب المقدس. ورغم ذلك، فقد ظل بولس محافظًا على هويته اليهودية في تفكيره وأخلاقه.
يشير ويل دورانت إلى أن عقلانية بولس كانت قريبة من العقلانية اليهودية السائدة، حيث كان يؤمن بالإلهام الإلهي والمعجزات والقوى الخارقة. ويبني دورانت فرضيته على أن اللاهوت الذي أسسه بولس لا يجد سندًا قويًا في أقوال المسيح المنسوبة إليه في الأناجيل، بل يرى أنه مزيج من الفلسفة اليونانية (الأفلاطونية والرواقية) والتقاليد اليهودية والوثنية.
ويضيف دورانت أن بولس قد أضاف إلى هذا المزيج بعض الأفكار الصوفية المعقدة، مثل فكرة أن المسيح هو حكمة الله وابنه. ومع ذلك، يرى دورانت أن بولس، رغم فصل المسيحية عن اليهودية، ظل متمسكًا بالقيم الأخلاقية اليهودية. ويستند في هذه النظرة إلى تحليله لكتاب أعمال الرسل ورسائل بولس، بالإضافة إلى آراء بعض المفكرين الغربيين. [36]
إن ديورانت ليس وحيدًا في اعتباره أن المسيحية التي أسسها بولس تختلف جذريًا عن تعاليم المسيح الأصلية، ويرى أنها مزيج من اليهودية والعقائد الوثنية اليونانية. بل إن العديد من الباحثين المسيحيين يشاركونه هذا الرأي. على سبيل المثال، يرى يواخيم كال أن أصل كل سوء في المسيحية يعود إلى بولس، ويؤكد يوحنا ليمن أن بولس قد قلب تعاليم المسيح رأسًا على عقب. كما يرى القس البروتستانتي كورت مارتي أن بولس غير مسار رسالة المسيح بأكملها. ويشير البروفيسور فرانست فان اوفربك إلى أن كل الجوانب الإيجابية في المسيحية تعود إلى المسيح، بينما تعود كل الجوانب السلبية إلى بولس. [37]
يشكك البروفيسور روبرت تسلر، في أساسيات العقيدة المسيحية التي أسسها بولس الرسول، مؤكدًا أن المسيحيين على مر العصور أخطأوا في الاعتقاد بأن دينهم هو دين المسيح، بينما الحقيقة هي أنهم يتبعون دينًا آخر أسسه بولس، والذي لم يتوقف عن عداوة المسيح. وقد أكد العديد من العلماء المسيحيين البارزين هذه الحقيقة. ويضيف بول هيبرلين قائلًا إن تعاليم بولس الخاطئة تتعارض مع جوهر المسيحية، وأخطر هذه التعاليم هو ربط موت المسيح بغفران ذنوب البشر. ويتساءل هيبرلين: “ما مدى فهم بولس لجوهر الإنجيل؟” ويصف ربط بولس بين موت المسيح وغفران الذنوب بأنه “صفعة على وجه الإنجيل”، حيث أن المسيح هو المخلص، ولكن ليس بالطريقة التي فهمها بولس. [38]
من أشد الضربات التي وجهتها ادعاءات بولس لشريعة المسيح والمسيحية الأصيلة، هي ادعاؤه بتلقي إنجيل مباشرة من المسيح وتزكيته، وبالتالي إلغاء جميع الأناجيل الأخرى التي كتبها الحواريون. وقد زعم أن هذا الإجراء كان بهدف إكمال دين المسيح وشريعته. [39]
نتيجة لهذا التوجه التاريخي، ظهرت انحرافات كبيرة في المسيحية منذ بداياتها، حيث ابتعدت المسيحية التي أسسها بولس عن شريعة المسيح الحقيقية وتحولت إلى مزيج من عناصر متناقضة، مثل الأساطير والحكايات القديمة والمعتقدات اليهودية المشوهة. وقد لعب بولس دورًا أساسيًا في تأسيس الكنيسة الكاثوليكية بالتعاون مع أحد الباباوات اليهود. [40]
ما هو مؤكد هو تحريف شريعة عيسى عليه السلام في السنوات الأولى بعد عروجه، مما أدى إلى زوال المسيحية الحقيقية بشكل كامل وعدم بقاء أي شيء من تعاليم وعظات عيسى الحقيقية. الشريعة التي كان من المفترض أن تؤكد على التوراة وتبشر بقدوم النبي الخاتم تحولت بفعل انحرافات بولس إلى دين جديد مليء ببعض العقائد الشركية. وكان دور بولس في تحريف المسيحية كبيرًا لدرجة أنه ورد في حديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام في بحار الأنوار أنه من بين السبعة الذين يعذبون في أشد مكان في جهنم. [41]
[1] . مریم: 16-20/ آل عمران: 40-.44
[2] . مریم: 22-26
[3] . مریم، 28-27
[4] . مریم، 33-30
[5] . انجیل لوقا: اصحاح 7: 13/ انجیل متی: اصحاح 10: 2.
[6] آل عمران: 52/ مائده: 111 و 112/ صف: 14
[7] . الشیخ الصدوق، محمد بن علی، عیون اخبار الرضا، مهدی لاجوردی، طهران، نشر جهان، الطبعة الاولی، 1378 هجری، الجزء2، الصفحة 79.
[8] . انجیل متی، اصحاح10: 4 و اصحاح 4: 3/ ابن حبیب، کتاب المحبر، تحقیق ایلزه لیختن شتیتر، بیروت، دارالآفاق الجدیدة، بی تا، 2000 میلادی، ص 427.
[9] . انجیل متی،اصحاح 10: 1.
[10] . مائدة: 112-.115
[11] . ناس، جان باير، تاريخ جامع الأديان، علي أصغر حكّت، طهران، شركة نشر العلوم والثقافة، 1387 هـ، ص 614.
[12] . مسعودي، علي بن حسين، مروج الذهب، قم، مؤسسة دار الهجرة، 1409 هـ، ج 1، ص 325/ ناس، جان باير، تاريخ جامع الأديان، علي أصغر حكّت، طهران، شركة نشر العلوم والثقافة، 1387 هـ، ص 614.
[13] . الكتاب المقدس، رسالة كورنثوس الأولى، 1، ص 17.
[14] . الكتاب المقدس، إنجيل متى، 5، ص 17 و 18 / إنجيل متى، 19، ص 16 إلى 20.
[15] . إنجيل برنابا، ص 180.
[16] . إنجيل برنابا، ص 147.
[17] . إنجيل برنابا، ص 182.
[18] . ناس، جان باير، تاريخ جامع الأديان، علي أصغر حكّت، طهران، شركة نشر العلوم والثقافة، 1387 هـ، ص 660 و 658.
[19] . قبل عصر النهضة: شهدت أوروبا فترة من التحولات الجذرية شملت المجالات العلمية والثقافية والدينية، وأطلق على هذه الحركة الثقافية الهامة عصر النهضة
[20] متی، 5: 17-20
[21] . غلاطية، 2: 16.
[22] . رسالة بولس إلى غلاطية، 5: 1-4.
[23] . الطقوس التي تُعتبر من أركان الدين المسيحي هي نوع من أبواب الدخول إلى هذا الدين، ويجب على المسيحيين أن يُجروا معمودية في طفولتهم.
[24] . العشاء الرباني، عشاء الرب، هو طقس شكر يُعتبر واحدًا من سبعة طقوس مقدسة مشتركة في معظم فروع المسيحية. يعود هذا الطقس إلى آخر عشاء تناوله السيد المسيح مع تلاميذه، ويُحتفل به بشكل مختلف في كل طائفة. يعتبر العديد من المسيحيين أن الخبز والنبيذ من العناصر الأساسية في هذا العشاء.
[25] . الكتاب المقدس، أعمال الرسل، 9، ص 20-21.
[26] . الكتاب المقدس، رسالة كورنثوس الأولى، 5، ص 8.
[27] . الكتاب المقدس، رسالة رومية، 9، ص 30-33.
[28] . الكتاب المقدس، رسالة كولوسي، 2، ص 9-23.
[29] . الكتاب المقدس، رسالة غلاطية، 5، ص 2-6.
[30] . الكتاب المقدس، رسالة كورنثوس الأولى، 7، ص 1.
[31] . تفسير العهد الجديد، الفصل التاسع، هداية شاول.
[32] . آشتیاني، جلال الدين؛ تحقيق في الدين المسيحي، طهران، نشر نگارش، 1379 ش، ص 33-34.
[33] . لوريمر، جون؛ تاريخ الكنيسة، القاهرة، دار الثقافة، 1990 م، ص 48-53.
[34] . رشاد، يوسف؛ دور اليهود المتخفين في المسيحية، ص 70؛ نقلاً عن: غوستاف لوبون، عيش الحقائق، ص 187.
[35] . نفس المصدر، ص 32-33؛ نقلاً عن: الدكتور روبرت كيل تسلر، في كتاب: الخديعة الكبرى (ملحق الكتاب).
[36] . نفس المصدر، ص 33-35؛ نقلاً عن: ويل دورانت.
[37] . نفس المصدر، ص 64-66.
[38] . نفس المصدر، ص 64، أول انحراف.
[39] . نفس المصدر، نقلاً عن رسالة بولس إلى العبرانيين 6 / 1.
[40] . اقتباس من كتاب “بابوات من الأحياء اليهودية”، يواكيم برنز، ترجمة عربية: خالد أسعد عيسى، دراسة ومقدمة: الدكتور سهيل زكار، دمشق، دار إحسان، 1403 ق، ص 74-79.
[41] . ابن بابويه، محمد بن علي، “الخصال”، قم، نشر جامعة المدرسين، الطبعة الأولى، 1362، ج 2، ص 398؛
مجلسي، محمد باقر بن محمد تقى، “بحار الأنوار”، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، 1403 هـ.ق، ج 8، ص 310.