موسى علیه السلام في ضوء القرآن الكريم: قصة ولادته وحياته

من أين تبدأ قصة بني إسرائيل وموسى عليه السلام في القرآن، وأين تنتهي؟

تحليل آيات قرآنية عن قصة ولادة موسى علیه السلام ونبوّته

یعدّ موسى بن عمران، قائد بني إسرائيل وأعظم أنبيائهم، وثالث الأنبياء أولي العزم الذين أنزل الله عليهم شريعة وكتابًا. وقد ذُكر اسم موسى في القرآن الكريم 136 مرة، وتفصّلت فيه قصته أكثر من قصص الأنبياء الآخرين. وشريعته هي الأقرب إلى الإسلام من بين جميع الشرائع السماوية. وتتضمن قصة موسى في القرآن الكثير من الأحداث المتقلبة، وهناك اختلافات كبيرة بين قصصه في القرآن والكتب السماوية الأخرى كالتوراة والإنجيل. وقد بلغ حب الله لموسى درجة عظيمة، حتى قال الله تعالى له: “وَاصْطَنَعْتُكَ‏ لِنَفْسي”[1]. ويتضح حب الله لموسى على مدار حياته من لحظة ولادته حتى وفاته.

قصة موسى عليه السلام حافلة بالأحداث المعجزة، بدءًا من ولادته وانتهاء ببعثته النبوية وکتابه المقدس ومعجزاته التي أذهلت قومه. يصف القرآن الكريم موسى عليه السلام بأنه رسول الله ونبيه، وقد فضله الله على بني إسرائيل بمنحه الشريعة واتخاذه كليما. لقد أولى القرآن الكريم اهتمامًا بالغًا بقصة بني إسرائيل، وبالتالي فإن شخصية موسى عليه السلام، كقائد ورسول لهذا القوم، تحتل مكانة بارزة في النص القرآني.

بني إسرائيل هم من أولاد يعقوب عليه السلام وأحفاده الذين كانوا يسكنون أرض كنعان. وحين أصاب القحط أرضهم، هاجروا إلى مصر بدعوة من يوسف عليه السلام، واستوطنوا هناك. إلا أنهم عانوا من ظلم فرعون الذي اضطهدهم بسبب إيمانهم بالله. وقد أرسل الله تعالى موسى عليه السلام منقذا لهم، و كان أخاه هارون سنده وعونه في تلك المهمة الشاقة.

من أين تبدأ قصة بني إسرائيل وموسى عليه السلام في القرآن، وأين تنتهي؟ سنجري في هذه السلسلة من المقالات أهم المحاور المتعلقة بهذه القصة العظيمة، كشريعة موسى ومعجزاته وتاريخ بني إسرائيل، وذلك بهدف تقديم رؤية شاملة لهذا التاريخ العريق، وفهم الدور الذي لعبه بني إسرائيل في الحضارة الإنسانية العالمیة، والأحداث الجارية حاليًا في ضوء هذه الأحداث التاريخية.

قصة ولادة موسى في القرآن الكريم

تبدأ قصة موسى عليه السلام في القرآن بواقعة مأساوية، وهي أمر فرعون بقتل الذكور من بني إسرائيل. وتعددت الروايات حول أسباب هذا الفعل الشنيع، منها أن فرعون رأى في المنام نارًا تخرج من القدس لتلتهم مصر، ففسر ذلك بأن رجلاً سيخرج من هذه الأمة ليقضي على ملكه. لذا أمر بقتل الذكور خوفًا من تحقق هذا التنبؤ.

كان الأنبياء السابقون قد بشروا بقدوم موسى عليه السلام ووصفوه بصفات عظيمة، مما أثار هلع فرعون وقومه خشية زوال ملكهم. ولذلك سعوا إلى إبادة الذكور من بني إسرائيل خوفًا من أن يكون أحدهم هو الرجل.

كانت لحظات ولادة النبي موسى وطفولته، شأنها شأن بقية حياته، مليئة بالتحديات والصعاب، إلا أنها كانت أيضًا محفوفة بعناية الله ورعايته. فقد لطف الله به منذ نعومة أظفاره، وأمدّه بمعونة سماوية واضحة. فقد ولد موسى على يد قابلة كانت صديقة لأمه، وكانت هذه القابلة تنوي إبلاغ فرعون بالمولود الجديد، ولكنها عندما نظرت إلى موسى الرضيع، ملأه الله محبته في قلبها فعدلت عن قصدها. حين غادرت القابلة بيت أم موسى، لاحظها بعض عملاء الفرعون فدخلوا المنزل. فأخبرت أخت موسى والدتها بقدومهم. فمن هول الموقف، فقدت الأم وعيها، فلفّت طفلها بقطعة قماش ووضعته في التنور.

دخل الرجال الدار فلم يجدوا إلا تنورًا مشتعلاً، فخاب أملهم وانصرفوا. فإذا بصوت بكاء يخرج من التنور، فنظرت الأم فإذا بطفلها سالماً غائصًا في النار الباردة.

ومن المعجزات الإلهية التي نصرت موسى عليه السلام أن أمه أرضعته ثلاثة أشهر خفية، ولم يبك خلال هذه المدة، مما حال دون أن يكتشفه الجواسیس. ورغم ذلك، كانت الأم قلقة خافة أن يفضح بكاء الطفل أمره. فدعت ربها أن يلهمها الحل، فاستجاب الله لها وأوحى إليها أن ترضع طفلها ثم تلقيه في النيل عند الشعور بالخطر، وبشّرها بأن يعيده إليها ویجعله من الرسل.

أطاعت أم موسى أمر ربها، فذهبت إلى نجار مصري سراً، وطلبت منه أن يصنع لها تابوتًا صغيرًا. فسألها النجار عن سبب طلبها هذا، فأجابت بصراحة وصدق، مبينةً أنها تريد أن توضع فيه طفلها لكي تحفظه من بطش فرعون. فلما سمع النجار هذا الكلام، عزم على إيصال الخبر إلى جلادي فرعون، وتوجه إليهم، إلا أن رعبا عظيما استولى على قلبه وفقده القدرة على الكلام، فأراد أن يشير بيده ليوضح مقصده، فظن الحراس أنه يسخر منهم، فضربوه وأخرجوه من عندهم. وتكرر هذا الأمر ثلاث مرات، فاقتنع النجار بأن هناك إرادة إلهية تحمي الطفل، فصنع لها التابوت.

عودة موسى علیه السلام إلى حِضن أمه

وضعت أم موسى عليه السلام طفلها الرضيع في التابوت، ثم ألقته في فجر يومٍ هادئ في نهر النيل. ولولا لطف الله، لصرخت الأم حزناً على فراق وليدها، ولتوصل الجواسيس إلى أمرها. ولكن تذكيرها بوحي الله الذي يقول: “لا تخافي ولا تحزني، إنا رادّوه إليكِ”[2] قد طمأن قلبها.

في سياق قصة سيدنا موسى علیه السلام في القرآن الكريم، وتحديداً في الآية 39 من سورة طه، نجد كيف أطاع الله تعالى البحر لأمره، وحمل سيدنا موسى إلى الشاطئ ليلتقطه أعداؤه. وتحكي القصة أن فرعون وزوجته آسية رصدا صندوقاً يتحرك على وجه النيل، فأمر فرعون بإحضاره. وعندما فتحته آسية وجدت فيه طفلاً رضيعاً، فاستولى الحب على قلبها تجاه موسى عليه السلام. وعندما رأى فرعون الطفل غضب، وقال: لماذا لم يُقتَل هذا الصبي؟ وتذكر القرآن رد زوجته عليه بقولها: ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لي‏ وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ‏ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدا﴾[3]

وبالمقابل، قالت أم موسى لابنتها: اتبعي الصندوق وتتبعي الأمر. ففعلت أخت موسى ما أمرتها به أمها، وتبعت الصندوق من بعيد، فرأت من بعيد أن المصريين قد انتشلوا الصندوق من الماء. وبأمر من آسية وفرعون، لیبحث الحرس عن ممرضة لإرضاع الطفل، ولكن الطفل لم يرضع من أي امرأة، حتى عرضت أخت موسى أمها لتكون ممرضة للطفل.

جاء الحرس بأم موسى إلى قصر فرعون لترضع طفلها، ومنذ ذلك الحين، أرضعت أم موسى عليه السلام ابنها بنفسها. وهكذا، وفى الله وعده، وأعاد موسى عليه السلام إلى أمه.

بعثة موسى علیه السلام في القرآن

يذكر القرآن الكريم أن النبي موسى عليه السلام، في فترة شبابه، دخل مدينة ورأى رجلاً من الفراعنة يتشاجر مع رجل من بني إسرائيل. ونظراً لظلم الفراعنة لبني إسرائيل، تدخل موسى للدفاع عن المظلوم فوجه ضربة قوية إلى الرجل الفرعوني، مما أدى إلى قتله.

فلما علم فرعون وحاشيته بالأمر، اجتمعوا وتآمروا على قتل موسى عليه السلام. ولكن رجلًا من آل فرعون مؤمنًا، يُعرف بحزقيل، أبلغ موسى عليه السلام سرًا بخبر المؤامرة وحذره من البقاء في المدينة، وحثه على الفرار قبل أن يلقى القبض عليه.

آثر موسى عليه السلام الهجرة إلى مدين، والتي كانت تقع جنوب الشام وشمال الحجاز، بعيدًا عن أيدي فرعون وقومه. وقد وصف القرآن الكريم هذه الهجرة بأنها كانت شاقة وطويلة، إلا أن موسى عليه السلام قد قطعها متوكلًا على الله.

وصل موسى علیه السلام إلى مشارف مدينة مدين بعد رحلة شاقة، فاستراح هناك. ولما رأى رعاة يروون أغنامهم من بئر، ورأى امرأتين تمنعان غنامهما من الشرب، سألهما عن السبب. فأجابتاه بأنهما ينتظران رحيل الرعاة. فما كان من سيدنا موسى إلا أن سقى غنامهما، فرحبتا به على ذلك.

عادت ابنتا شُعيب النبي علیه السلام إلى بيتهما، فقصتا عليه ما جرى، واقترحتا عليه استئجار موسى عليه السلام للعمل في مزرعته، إذ بدا لهما شابًا وحیدًا. وهكذا، وبحسب قصة موسى عليه السلام في القرآن الكريم، تزوج من إحدى ابنتي شُعيب – أو ربما من كليهما – وأقام في مدين عشر سنوات. وبعد مرور عشر سنوات، انطلق عليه السلام وزوجته الحامل – التي كانت على وشك المخاض – متجهين إلى مصر لزيارة أهله.

تدور قصة سيدنا موسى في القرآن الكريم حول رحلته إلى جبل طور طلبًا للنار. لم يذكر القرآن الكريم شيئًا عن حمل زوجة موسى، ولكن الشائع أن زوجته كانت حاملًا وأصابها ألم المخاض في ذلك الوقت، مما أثار قلق موسى عليه السلام. وعندما وصل إلى النار[4]، سمع صوتًا يناديه من وادي طوى قائلاً: ﴿ إنّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوَى﴾[5]. اقترب موسى -عليه السلام- من النار ونظر إليها، فإذا هي بنار تتلألأ من شجرة خضراء، يزداد ضياؤها وجمالها في كل لحظة. فأخذ عصا صغيرة في يده، وانحنى لياخذ منها شرارة، فإذا بالنار تندفع نحوه، ففزع النبي -عليه السلام- وتراجع إلى الخلف. كان يتقلب بين الذهاب والنظر إلى النار، فإذا به يسمع صوتًا يناديه، فبشّره بالوحي. فطمأن قلبه أن هذا الصوت هو صوت ربه. فأوحِىَ إليه: ﴿إنّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوَى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى.﴾[6]

وهنا تبدأ قصة نبوة موسى عليه السلام في القرآن الكريم، وسنستمر في تتبع هذه القصة في مقالنا عن شريعة موسى علیه السلام في القرآن.

موسى علیه السلام في القرآن: نبي لم يُقدَر حق قدره

دراسة سيرة النبي موسى عليه السلام في القرآن الكريم تكشف عن حقائق جليلة. فقد أظهر النبي عليه السلام خلال مدة نبوته معجزات عديدة لإثبات صدقه ولتحرير بني إسرائيل، وكانت كل معجزة من تلك المعجزات تحمل في طياتها دلالة عظيمة، إلا أن الکثیر من بني إسرائيل، رغم هذه المعجزات، لم يشكروا الله ولم يقيموا وزنًا لنبيهم، بل ساروا في طريق الكفر والنكران. وعندما شق الله البحر بعصا موسى وعبر بني إسرائيل، التقوا بقوم مشركين، وما أن وطأت أقدامهم الأرض حتى طلبوا من موسى أن يصنع لهم إلهاً كآلهتهم. وبعد خروجهم من مصر، وبينما كان موسى عليه السلام في الميقات أربعين يوماً، صنعوا عجلًا من ذهب وعبدوه.

كان البقر يُعتبر مقدسًا عند المصريين، حيث كانوا يرون فيه رمزًا للحياة والزراعة. وتأثر بنو إسرائيل بهذا الاعتقاد، فاتخذوا منه إلهاً. وعلى خلاف ما جاء في التوراة التي تُلقي باللائمة على هارون النبي في صناعة وترويج عبادة العجل، فإن القرآن يرجّح أن هذا العمل الشركي كان من فعل السامري.

یعتبر بني إسرائيل في القرآن نموذجا للبُعد عن الأدب والتمرد والضعف والترف. فعندما طلب منهم موسى عليه السلام الدخول إلى مدينة والقتال مع الظالمين قالوا: ﴿يا مُوسى‏ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فيها فَاذْهَبْ أَنْتَ‏ وَ رَبُّكَ‏ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُون‏﴾.[7]

على الرغم من انتظار بني إسرائيل طويلاً لظهور منجيهم، فإنهم لم يشكروا نعمته ولم يقدروه حق قدره، بل لجّوا وتمردوا وعصوا فصاروا بذلك قدوة سيئة للأمم الأخرى. وسنتناول في مقالاتنا القادمة بالتفصيل دور بني إسرائيل في عنادهم وتحديهم لله وللملائكة وللأنبياء.

[1] . طه، 41.

[2] . القصص،7

[3] . القصص،9

[4] . نار خالية من الحرارة واللهيب، كلها نور وصفاء، وفي هذه الأثناء كان موسى في دهشة عارمة

[5] . طه، 12

[6] . طه، 12 و 13

[7] . المائدة، 24

المشارکة

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *