دور الاختيار في مسار التكامل الإنساني في الدنيا
نحن قد انطلقنا جميعًا من نقطة بداية، وسلكنا مسارًا عبر الزّمن حتى وصلنا إلى الدنيا في مسار التكامل الإنساني وعلى أساس مخطط الخلق. كما أننا سنعيد سيرنا بعد الدنيا على نفس المسار، عائدين إلى نقطة البداية. يكمن الاختلافُ الأساسيّ بين حركتنا في هذين المسارين في أنّ نقطة البداية كانتْ غنيةً بالنّور والطّهارة لجميعنا، فقد كنّا جميعًا في ذروة السّعادة والنّظام الأفضل والاعتدال والقيمة.[1] أمّا في زمن العودة إلى المكان الذي قد أتينا منه، فلن نكون جميعًا في نفس الحالة. ويرجع أحد أسباب هذا الاختلاف إلى قوة الاختيار التي منحنا إيّاها اللهُ تعالى. ففي فترة وجودنا في الدنيا، نحدّد من خلال نوع خياراتنا الظروفَ التي سنعود فيها إلى نقطة البداية، والحالة التي سنكون عليها عند ذلك.
رغم أنّ الله سبحانه وتعالى قد أرسل الرسل والأنبياء لتبيين طريق الحقّ والباطل لنا، وإتمام الحجّة على جميع الخلق، إلّا أنّنا في نهاية المطاف نختارُ طريقنا بإرادتنا الحرّة. وممّا يجدر التنبيه إليه أنّ عاقبة الإنسان الجاهل القاصر في هذا الطريق تختلف عن عاقبة المقصّر. فمن قصّر في سعيه لمعرفة طريق الرشد يختلف كثيرًا عن من لم يمتلكْ أيّ معلوماتٍ حول طريق السعادة والخلاص وكان محرومًا من هذه المعرفةَ أصلاً. وبالتأكيد، لن يُحاسب الله تعالى هاتين المجموعتين على نفس المنوال.
إننا نواجه مراحل متعدّدة في مسار تكامل الإنسان، من أهمّها الحياة في عالم الدنيا. وتتميّز الدنيا بخصائص فريدةٍ، من أهمّها أنّها تُمثّل رحِمًا جديدًا للإنسان. فكما كان رحِمُ الأمّ حاضنًا للجنين ومُعدًّا إيّاه للحياة، كذلك تُمثّلُ الدنيا رحمًا للإنسان في مرحلة تطوره الروحيّ والنّفسيّ. ويمتلك هذا الرحم قدرة هائلة على التّشكيل والتّغيير، تمامًا كما هو رحم الأمّ. وبِناءً على مستوى استعدادنا ونوعه في هذا الفضاء الرحميّ، تُحدّد نوعيةُ “ولادتنا” إلى العوالم اللاحقة. ولذا، فإنّ معرفة أفضل أنواع “الولادة” والسّعي لتحقيقه، يُمثّلان مفتاح النّجاح في عبور المسار الذي نواجهه.
البنية الرحمية للدنيا وقدرتها البناءة
تمثّل رحلة التكامل الإنسانيّ مسارًا يتّسم بالتّدرّج من نقطة البدء الأبديّة إلى غاية الخلود. وتتضمّن هذه الرحلة مراحل متعدّدة، منها:
- مرحلة قبل الدنيا
- المقطع الدّنيوي وهو مرحلةُ الحياة في عالمِ الدنيا، وتستمرّ من لحظة الميلاد إلى لحظة الوفاة.
- عالم القبر أو الملكوت: وهو مرحلةُ الحياةِ في البرزخ، وتستمرّ من لحظة الوفاة إلى يوم القيامة.
- القيامة والحياة الأبديّة
من خصائص عالم الدنيا الفريدة أنّه يُمثّل رحمًا للإنسان في مرحلة تطوره الروحيّ والنّفسيّ. وبناءً على قاعدة النّسبة والشّبه بين عالم الدنيا ورحم الأمّ، نستطيع القول بأنّنا نعيش حياتنا الدّنيوية في بيئةٍ رحميّةٍ مُماثلةٍ لتجربة الجنين في رحم الأمّ. فكما يخرج الجنين من رحم الأمّ ليدخل عالمًا جديدًا أوسع وأكثر تقدّمًا وجمالا، كذلك الأمر بالنسبة لنا في عالم الدنيا. فالموت لا يُمثّل نهاية لوجودنا، بل هو انتقال إلى عالم الملكوت والبرزخ، وهو عالمٌ أوسع وأجمل وأكمل وأكثر جاذبية وتقدّمًا من عالم الدنيا. وتُشبه علاقة عالم الملكوت بعالم الدنيا علاقة عالم الدنيا برحم الأمّ. وبالتالي، فإنّ سير تكامل الإنسان يقتضي منهُ أن يهيّئ شروط وأدوات الحياة في عالم البرزخ خلال عمره المحدود في الدّنيا، وأن يُعدّ روحه للانتقال إلى ذلك العالم.
إنّ سير تكامل الإنسان يشبه سير جنينٍ ينمو ويتطوّر في رحم أمّه، مُستعدًّا للولادة ودخول عالم الدنيا. وكما أنّ نوع ولادة الجنين يعتمد على مدى استعداده ونموّه في رحم أمّه، كذلك فإنّ نوع “ولادتنا” إلى عالم البرزخ يعتمد على مدى استعدادنا وجهدنا في رحم الدنيا.
قد يتوقف الجنين في رحم الأمّ عن تكوين الأعضاء المتناسقة مع شروط الدنيا، ويبدأُ ببناء أشياء لا فائدة لها لا في الرحم ولا في الدنيا، مثلَ: رأس اضافيّ، وأصابع زائدة، وايدي إضافية. حتى لو لم يُكمل الجنين تكوّنه ليكون متناسقا مع شروط الدنيا، فإنّ نموه لا يتوقف. لكنّ هذا النموّ سيكون في اتجاهٍ غير ضروريٍّ، بل قد يكون ضارًّا أيضًا. الإنسان في “رحم الدنيا” يتغيّر وينمو أيضاً ويتشكّل باستمرارٍ ويعتمد بناء وجوده الإنساني وغير المادّي على نوع ومقدار جهده في هذا الفضاء. كلّما زاد تناسق تكوين أعضاء الإنسان الروحية وجهوده في “رحمِ الدنيا” مع شروط الحياة في عالم الآخرة، اقترب من الأشكال الإنسانية والسماويّة.
إذا غفل الجنين عن قدرة بناءة لرحم الأم ولم يُسخّرْ هذه القوة لبناء ما يناسبه في عالم الدنيا، سيواجه مشكلاتٍ جمةً عند ولادته في الدنيا قد لا يكون حلّ لها، أو قد تتطلّبُ منه علاجًا طويلًا ومُكلفًا. وكذلك نحن في رحم الدنيا، محاطون بفرصٍ هائلةٍ للتّطور والتّغيير. فلنكن واعين بقوة هذا الرحم، ولنسخّرْها لبناء ما نحتاج إليها في عالم الآخرة.
انواع الولادات في مسار التكامل الإنساني
في مسار التكامل للإنسان، توجد ستة أنواع من “الولادة” إلى عالم الدنيا بناءً على نوع ونشاط ومستوى استعداد الجنين في رحم الأم. كما أنّنا ندخل عالم الملكوت والبرزخ بنفس العدد وبنفس أنواع الولادة. تتضمن هذه الأنواع الستة: الولادة الصحيحة، والصحيحة القوية، والضعيفة، والمريضة، والناقصة، والمعاقة. كما ينمو الجنين في رحم الأم، نحن أيضًا في نمو وتطور مستمرين في رحم الدنيا. إذا كان هذا النمو والتطور متناسبًا مع ظروف الحياة اللاحقة، فسيؤدي إلى “ولادة سليمة” أو “ولادة قوية سليمة”. خلاف ذلك، سيؤدي إلى ولادة ضعيفة أو مريضة أو ناقصة أو معاقة. في هذا المسار للتكامل الإنساني، لا يعتبر مرغوبًا ومطلوبًا إلا “الولادة السليمة” و “الولادة القوية السليمة”. إذ تكون أنواع الولادة الأخرى مزعجة وشاقة، وتتطلب تحمل معاناة العلاج حسب نوع المرض وشدة وتعدده.
في رحلة الجنين نحو عالم الوجود، لا يولد الأجنّة سالمین الأقوياء إلا الذين يبدأون بتجهيز أنفسهم للحياة الدنيويّة منذ اللحظة الأولى لوجودهم في رحم الأمّ. وكأنّهم يحوّلون الطعام الذي يتلقّونه من الأمّ باستمرارٍ إلى مليارات الخلايا بأشكالٍ مختلفةٍ تتناسب مع بنية الدنيا، ويُعدّون الأعضاء اللازمةَ للحياة في الدنيا. في “الولادة السالمة القويّة”، يدخل الجنين إلى عالم الوجود بقوةٍ تفوق قوة الأجنّة الآخرين، ويسبقهم. وأبرز مثالٍ على هذا النوع من الولادة هو الرضع الذين يتمتّعون بجمالٍ فريدٍ، أو بقوةٍ بدنيّةٍ خارقةٍ، أو بذكاءٍ لامعٍ.
في مسار التكامل الإنساني، يولد بعض الأجنّة “ضعفاء” أو “مرضى” ممّا يؤدّي إلى تحمّل “معاناة التّقوية والعلاج” والذي تعتمد مدّته وصعوبتُه على درجة الضعف ونوع المرض وشدّته وعدد الأمراض.
الجنين الذي يولد مصابًا باليرقان، أو لم تنمُ بعض أعضاء جهازه البديّ، مثل الرئتين، بشكلٍ كاملٍ، يجبُ أنْ يوضع في جهاز لمدّة بضعة أسابيع أو أشهر حتى يتخلص من المرض ويصبح أقوى. كلّما زادت شدّة مرض الجنين وضعفه، زادت بالتأكيد مدّة العلاج.
يواجه الجنين أوجه قصور عندما يولد غير مكتمل، لأنه لا يمتلك بعض الأدوات الضرورية للحياة في الدنيا، مثل اليدين أو القدمين أو العينين. هذه النواقص لا يمكن تعويضها في هذا العالم، لذلك فإن الجنين الناقص يحمل معه معاناة هذه العيوب دائما. وفي بعض الحالات، قد يولد الجنين بأعضاء زائدة عن الحاجة، مثل أصابع إضافية، أو رأسين، أو أربع أرجل، أو عدة أيدي. تُسبب هذه الأعضاء الزائدة مشاكل للجنين، ولا يُعرف ما إذا كان يمكن علاجها أم لا.
يواجه الجنين في الولادة المعاقة أيضًا مشاكل بسبب وجود عيوب في المكونات اللازمة للحياة في الدنيا؛ على سبيل المثال، يصعب على الشخص المصاب بالشلل في الساقين المشي والسفر مقارنة بالشخص الذي يتمتع بساقين سليمتين.
العلاقة بين نوع الولادة وحقيقة الجنة والنار
تكمن النقطة الأساسية في فهم عالم الدنيا والآخرة في أنّ استعدادنا ومدى ملاءمتنا للشروط الحياتية في العالم اللاحق الذي سندخله، يخلقان جنتنا وجهنمنا عند مغادرة عالم الرحم ودخولنا إلى العالم الأعلى. الجنة والنار ليستا مكانين منفصلين، بل هناك فضاء أساسي واحد وهو الجنة نفسها. ودخولنا إلى الجحيم ينجم عن عدم ملاءمتنا للبنية الحياتية في الآخرة، مما يحول فضاء الآخرة إلى جحيم بالنسبة لنا. مثل الطفل الذي لم تتكون لديه الأعضاء الضرورية للتنفس في الدنيا فإنه سوف يعاني من الألم مع كل شهقة يتنفسها لحظة دخوله العالم. وبالمثل فإنّ الجحيم هي نتيجة عدم ملاءمتنا للبنية الحياتية في الجنة.
فعلى الرغم من أنّ فضاء الدنيا واحد لجميع الأطفال سواء كانوا أصحاء أو مرضى، إلاّ أنّ إدراك الطفل المريض وتفاعله مع الدنيا يختلف من الطفل السليم بسبب عدم تلائمه مع هذا الفضاء. سيكون فضاء الدنيا بالنسبة لهذا المولود جحيمًا لا يتحمل العيش فيه. وعالم الآخرة كذلك، ذو وجهين: وجه بهجة وجنة، ووجهه الآخر عذاب وجحيم.[2]
في مسار الإنسان نحو التكامل، يمثل الاندماج مع الجنة والتوافق معها الحد الأدنى لولادة سليمة، دون حمل أي تناقض أو عدم تناسب معها. فكما أنّ الجنين، رغم وجود عضو ناقص أو إضافي، لا يواجه مشكلة داخل رحم الأم، إلا أنه سيعاني في عالم الدنيا. ذلك لأنّ عالم الدنيا يفتقر إلى القدرة على بناء عضو لم يُولد معه، كما أنّ إزالة الأعضاء الزائدة تُسبب الألم. وبالمثل، فإنّ الأفكار والمعتقدات الخاطئة والباطلة تشبه تلك الأعضاء، فقد تُشكل تحدياتٍ لنا عند ولادتنا إلى العالم التالي. لذا، يتوجب علينا إدارة خياراتنا وعلاقاتنا وأفكارنا وسلوكياتنا في رحم الدنيا بوعي وحكمة، بهدف تهيئة أرواحنا للعيش في عالم البرزخ وظروفه الخاصة. فذلك هو أقل ما يمكننا فعله لأنفسنا، تحضيرًا لولادةٍ إلى الآخرة، ولادةٌ لا موعد محدد لها، بل قد تحدث في أيّ لحظة.
تساؤلات وجودية في مسار التكامل الإنساني
إنّ وجودنا بمراحل خلقه المتعددة يفرض علينا عند التخطيط لحياتنا أن ننظر إلى سير تكامل الإنسان بشكل كامل. وتظهر أهمية ذلك في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): “رَحِمَ الله امْرَاً عَرِفَ مِنْ اَيْنَ و في اَيْنَ وَ اِلي اَيْنَ”[3]
ففي حياتنا اليومية، عندما نتلقى دعوة لحضور مناسبة ما، يكون أول سؤال نطرحه هو: “أين ستقام المناسبة؟” ويهدف هذا السؤال في الحقيقة إلى الاطلاع على خصائص المكان المقصود. وتلعب إجابة هذا السؤال دورًا مهمًا في كيفية استعدادنا للمناسبة. فعلى سبيل المثال، إذا تلقينا دعوة لحضور رحلة ترفيهية في شمال البلاد والمناطق الغابية، فإنّ نوع استعدادنا سيختلف عن استعدادنا لرحلة علمية في أعماق الصحراء.
يُشير مسار تكامل الإنسان إلى رحلة وجودية تتجاوز حدود العالم الدنيويّ لتشمل عالمي البرزخ والقيامة. ويدعو العقل والمنطق السليم إلى الاستعداد لهذه الرحلة العظيمة، بما يتناسب مع طبيعة كل عالم من عوالمها. عند دخول كل من هذه العوالم، نواجه أسئلة وجودية تتخطى حدود اللغة المكتوبة أو المنطوقة. وتشبه هذه الأسئلة تلك التي تطرحها الدنيا على الجنين، حيث تُجاب عليها فورًا وبشكل تلقائي. لا يمكننا إنكار هذه الأسئلة باستخدام لغة العالم الدنيويّ، لأنها تتعلق بجوهر وجودنا ونوعية حياتنا.
لنأخذ على سبيل المثال جنينًا لم تتكون لديه عينان في رحم أمه. فبينما أن هذا النقص لا يُسبب أي ألم أو معاناة للجنين طالما هو في رحم أمه، إلا أن دخوله إلى عالم النور والألوان سيجعله يُدرك هذا النقص وآثاره السلبية. فعدم تمكن الجنين من الرؤية يشير إلى أنّه لم يكمل سير التكامل الإنساني بشكل سليم أثناء تواجده في رحم أمه، مما أدى إلى إصابته بهذا النقص.
يُعدّ عالم الدنيا بالنسبة للجنين مكانًا للحساب والمراجعة. فمع لحظة الولادة، تُفتح مليارات من الحسابات على أعضاء جسم الجنين القطعية. وبمجرد دخوله إلى الدنيا، يتمّ حساب النواقص والثغرات بشكل سريع وتحويلها إلى ألم ومعاناة.
عالم الدنيا يُشبه رحمًا ثانيًا بالنسبة لنا. فهو يُمثّل عالم البناء والعمل، حيث لا وجود للمساءلة أو الألم ولكن مع الانتقال إلى عالم البرزخ والآخرة، تبدأ أسئلة المحاسبة. وتدور هذه الأسئلة حول العوامل التي أدت إلى تكوين قلب سليم. فكلّ ما نبنيه خلال فترة الجنين، سواءً كان داخل رحم الأم أو داخل رحم الدنيا، يجب أن يتوافق مع خصائص البيئة التي سننتقل إليها، بغض النظر عن خصائص البيئة التي نعيش فيها.
شرط الولادة السليمة من منظور القرآن: قلب سليم
إذا تأملنا حركات الجنين داخل رحم الأم بدقة، سنلاحظ أنّه يفكر بشكل متواصل في الدخول إلى الدنيا وأنّ جميع أفعاله تُوجه نحو ولادة سليمة. في الحقيقة، تُشكل كل الأعضاء والأجهزة الموجودة داخل رحم الأم مقدمة لبناء جسم سليم.
وبالمثل، نحن أيضًا نسير نحو عالم جديد له متطلبات وقوانين خاصة للحياة. وللدخول إلى هذا العالم، يجب أن نمتلك اللوازم الضرورية تمامًا كما يولد الطفل بعد انتهاء مرحلة الجنين بأعضاء كاملة مثل اليدين والقدمين والجسم وحواس مثل البصر والسمع.
تُعدّ سلامة الروح شّرطًا أساسيًا لعبورنا بسلام إلى عالم البرزخ والقيامة. فلا شيء في هذه الحياة يُضاهي أهمية الحفاظ على سلامة الروح. وكل أفعالنا يجب أن تُوجّه نحو تحقيق ذلك. تمثّل مراحل الحياة كالزواج وإنجاب الأطفال وإقامة العلاقات الإنسانية فرصًا وتهديدات لروحنا في نفس الوقت. فإذا تمكنا من التحكم بمشاعرنا في هذه المراحل وعدم الاستسلام للحزن والخوف والقلق والاضطراب في أي ظروف، مع الحفاظ على علاقاتنا الروحية وسعادتنا وطمأنينتنا، فإنّنا نكون قد نجحنا في تحويل التهديدات إلى فرص وخطونا خطوة مهمة نحو سلامة روحنا ونفسنا.
في رحلة تطورنا الإنساني، عندما نولد في عالم البرزخ والقيامة، لن تُرافقنا الأشياء التي كنا نسعى جاهدين للحصول عليها طوال حياتنا في الدنيا، مثل الثروة والعلم والمكانة والشهادات والزوج أو الزوجة والأبناء، ولن تفيدنا بأي شيء. وفقًا لكلام الله تعالى، فإنّ الثروة الوحيدة المفيدة التي تُؤدّي إلى ولادة سليمة في الآخرة هي القلب السليم.[4] القلب السليم هو القلب الذي يُكيّفنا مع ظروف الحياة الآخروية. فإذا اعتبرنا أنفسنا إنسانًا حقيقيًا، فعلينا أن ندرك أنّ القلب السليم هو أهمّ حاجة الإنسان في مسار تكامله في الحياة الدنيا والآخرة.
لذلك، يجب أن تكون جميع خياراتنا وعلاقاتنا وسلوكياتنا وأفكارنا في رحم الدنيا مقدّمة لبناء قلب سليم. القلب هو ثروتنا الوحيدة وجوهر وجودنا، وهو الكائن الذي يُولد بعد موت الجسد في عالم الآخرة، ويجب أن يكون مستعدًا للعيش في ظروف الآخرة المختلفة. يمكننا اعتبار مصطلح “القلب السليم عند الولادة في الآخرة” مُعادلًا لمصطلح “الجسم السليم عند الولادة في الدنيا”. فالجسم السليم هو الثروة الوحيدة وجوهر وجود المولود، وبالمثل، فإنّ القلب السليم هو الثروة الوحيدة وجوهر وجودنا في مسار تكاملنا الإنساني نحو الآخرة.
يُعرّف الإمام الصادق(عليهالسلام) القلب السليم بأنّه القلب الذي يَلْقَى رَبَّهُ وَ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ سِوَاهُ[5] وبحسب تعريف القرآن الكريم، فإنّ الله تعالى وأهل البيت(عليهمالسلام) والجهاد في سبيل الله تعالى يحتلون المرتبة الأولى في هذا القلب السليم.[6] وأيّ مُحبوب آخر غير هؤلاء يجب أن يُستخدم كأداةٍ لبناء القلب السليم.
هندسة المحبوبات: الواجب الأهمّ لتحقيق الولادة السليمة
ذكرنا أن أهمّ أداةٍ لبناء الباطن الإنسانيّ في مسار تكامل الإنسان وتحقيق الولادة السليمة إلى عالم الآخرة هو امتلاك قلبٍ سليمٍ. ولتحقيق ذلك، يجب علينا وضع ثلاثة محبوبات في رأس كلّ محبوبٍ و معشوقٍ لدينا: اللهُ تعالى، أهل البيت(عليهم السلام)، والجهاد في سبيل الله، وإلّا فإن الإنسان يخرج من دائرة الإنسانية ويصبح فاسقًا، سبقَ و بيّنّا أنّ الفاسق هو الإنسان غير الطبيعيّ الذي يُفضّل اللذّة الزّائلة على اللذّة اللامحدودة والخير المطلق، ولا يشعرُ بحاجةٍ أو عشقٍ للذّواتِ العليا أبدًا. بينما شرحنا أن اللهُ تعالى، وأهلُ البيتِ عليهمُ السلام، والجهاد في سبيل الله هم خارطة الطريق لوصولنا إلى المعشوق الحقيقيّ اللامتناهي.
كما أشرنا سابقا إلى أنّ الجنين في رحم الأم يملك الفرصة لتكييف نفسه مع عالم الدنيا والتحضير للوصول إليه سالمًا. وبالمثل فإنّ عالم الدنيا بالنسبة لنا يشبه رحم الأم، فهو المكان الذي نحتاج فيه إلى التحضير للوصول إلى عالم آخر أكثر جمالًا وسعةً، وهو عالم الآخرة. من أهمّ مبادئ التحضير لعالم الآخرة التي يجب علينا العمل بها في هذه الحياة هي إعادة ترتيب أولوياتنا ومحبوباتنا والتخطيط لحياتنا بشكل جدي مع مراعاة اهتماماتنا وخياراتنا وعلاقاتنا وأفكارنا وتصرفاتنا. ففي سياق التكامل الإنساني، تُعدّ الوظيفة الأهمّ الموكلة إلينا في هذه الحياة الدنيوية، هي تطوير أنفسنا والاستعداد للحياة الأبدية. فكلّ ما نفعله في هذه الحياة لا يعدّ إلاّ مقدمة ووسيلة للوصول إلى هذا الهدف النهائي.
إهمال الارتقاء بالذات وتنظيم نظام المحبة يُفضي إلى إهدار ثروة العمر والشباب، التي يمكن بها شراء الخلود والآخرة، في مُتَع دنيوية تقلّ عن مستوى الإنسانية. وتُفضي هذه الغفلة إلى ولادة غير طبيعية في عالم الآخرة والبرزخ، بجسد لا يتمتع بالصفات الإنسانية الكاملة. مثل الجنين الذي يُهمل وظائف أعضائه في رحم الأم لازماً للتكوين السليم للوصول إلى الولادة المتكاملة، فيولد في النهاية مع أعضاء ناقصه أو مريضة أو معتلة.
يُسلط هذا المقال الضوء على مقطع هام من مسار تكامل الإنسان، ألا وهو الانتقال من عالم الرحم إلى عالم الدنيا، مُقارنًا بيئة الدنيا ببيئة رحم الأم. في البداية، تحدثنا عن أدوات الاختيار والانتقاء ودورها المحوري في توجيه هذا التطور. أشرنا هنا إلى أن عالم الدنيا، يشبه رحم الأم من حيث قدرته على البناء والإبداع. فكما يوفر الرحم بيئة مُهيأة لتطور الجنين واكتسابه الأدوات الضرورية للحياة، يُمثل عالم الدنيا محطة أساسية لتجهيز أدوات الانتقال إلى عالم البرزخ والآخرة. فكل ما نحتاجه من مهارات ومعرفة وقيم ومشاعر يجب أن نكتسبه ونطوره في هذه الحياة. كما قدّمنا في هذا المقال شرحًا مُفصلاً لولادات الإنسان الستة، بدءًا من الولادة من رحم الأم وصولًا إلى الولادة في العوالم الروحانية اللاحقة وسلطنا الضوء على بعض من خصائص كل من هذه العوالم.
بعد أن استكشفنا أسئلة الوجود، يُطرح علينا في كل عالم ندخله منذ لحظة ولادتنا أسئلة لا تُطرح بواسطة الكتب أو الكلمات المتكلمة، بل من خلال نوع الحياة التي نعيشها ومقدار الجهد الذي نبذله في الرحم الذي كنا فيه. وتُحدد نوعية إجابتنا على هذه الأسئلة جودة حياتنا في الآخرة.
ذكرنا أيضاً أنّ من بين أنواع الولادات المختلفة، لا يُعد مطلوبًا إلاّ الولادة السليمة، والتي هي من وجهة نظر القرآن الكريم امتلاك قلب سليم يكون الله سبحانه وتعالى في رأس محبوباته. على هذا الأساس فإنّ أهم مهمة تقع على عاتقنا في هذا العالم هي تنظيم محبوباتنا ونظام محبتنا والتي يمكن أن تؤدي في النهاية إلى بناء قلب سليم.
[1] . لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ؛ سورة التین، الآیة4
[2] . بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظَاهِرهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ؛ سورة الحدید، الآیة 13
[3] . الوافی، ج 1، ص 116
[4] . سورة الشعراء، الآية 89: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
[5]. الکافی، ج 2، ص 16
[6] . سورة التوبة، الآيه 24.