الوصول إلى لا إله إلا الله دليل على النضج والتوازن الإنساني
هل فكرت يومًا في معنى لا إله إلا الله؟ قد نظن أن هذه مجرد عبارة دينية يُثاب قائلها ويُجزل له بالعطاء. أو أنها تعبر عن أحد أهم المبادئ العقائدية لدينا وهو التوحيد. هذه الأقوال صحيحة بالتأكيد، ولكن هناك معنى أعمق من ذلك بكثير. إنها ليست مجرد عبارة دينية إسلامية بل هي عبارة إنسانية تشير إلى حقيقة تتعلق بنضج الجانب الإنساني لدينا.
ذكرنا أن وجودنا يتكون من أبعاد مختلفة، يُظهر كل منها، بحسب طبيعته، كمالات خاصة ويميل وينجذب إلى شيء من جنسه. ولكن مجرد امتلاك هذه الأبعاد لا يكفي، لأننا ما لم نصل إلى النضج في مجال ما، لن نظهر اهتمامًا به و لن تتشكل لدينا رغبة أو طلب له. على سبيل المثال لا نشهد اهتماما بالزواج لدى طفل لم يصل إلى النضج الجنسي بعد، ولا نرى انجذابًا نحو التعلم أو الدراسة أو الأنشطة العلمية لدى شخص لم يصل إلى نضجه العقلي، و لكن بمجرد الوصول إلى النضج المطلوب، فإننا سوف نرى انجذابًا نحو التعلم أو الدراسة أو الأنشطة العلمية.
صحيح أن وجودنا مُكون من أبعاد مختلفة، ولكن ما يميزنا عن سائر المخلوقات هو بُعدنا الإنساني. بما أننا لا نهائيون في بُعدنا الإنساني، فإننا نتوافق فقط مع لا نهائية الله الذي هو الوجود والكمال المطلق. هذا يعني أننا في بُعدنا الإنساني نُحب الله فقط، ونجد السكينة في ظل علاقتنا به والوصول إليه. إذاً فإن وصولنا إلى النضج الإنساني يعني أننا نُحب الله، وتظهر علامات هذا النضج فينا عندما نشتاق إليه و نسعى لكسب رضاه. عندها نقوم باختيار المأكل والملبس بطريقة خاصة احترامًا لعلاقتنا بالله، أو نقوم بأداء رغبات محبوبنا مثل الصلاة، والصيام، والخمس، والجهاد وغيرها و نشعر بمتعة كبيرة، وذلك لأن المُحب لا ينتبه لأحد إلا إلى محبوبه، ولكن طالما لم نصل إلى هذا النضج فإننا لا نشعر بحاجة إلى الله ونعتبر هذه الأعمال مهامًا صعبة وإلزامية.
إن حقيقتنا هي لا إله إلا الله، أي أنه ليس لنا معشوق ولا حبيب سوى الله، وعدم وصولنا إلى هذه الحقيقة يعني عدم وصولنا إلى النضج والباطن الإنساني، وبقاؤنا على مستوى الجمادات والنباتات والحيوانات أو في أحسن الأحوال على مستوى الملائكة. كل قصة خلقنا والعالم بأجمعه هي قصة حب ثنائي بيننا وبين محبوبنا الله والذي خلق كل المخلوقات لأجل الإنسان واصطنع الإنسان لنفسه. في هذا المقال ننوي أن نستعرض نتيجة الحب لله، وما عسانا أن نحب إذا لم نحب الله. ماذا يعني عدم حب الله وما هي النتائج التي تترتب على ذلك؟ من هو الإنسان المتوازن وما هي خصائصه؟ وفي النهاية، ما هي خصائص الحضارة المتوازنة وكيف تتشكل؟
الحب الذي يجعلنا نتشبه بالله
إن عمل الحب بطبيعته مثير وخطير على حد سواء، لأننا عندما نعشق شيئاً فإننا نرغب عفويًا في كمالات مماثلة له. على سبيل المثال، نسعى في الحب الجمادي وراء المال، والثروة و المنزل، بينما نتوق في الحب النباتي إلى الطعام والجمال، واللياقة البدنية، وأن نصبح أبطالا رياضيين وما إلى ذلك، وأما في الحب الحيواني فإن الاهتمام بالجنس الآخر، والأبناء، والوصول إلى منصب أو مكانة يكون غاية الهدف، وفي الحب العقلي فإن أولى أولوياتنا هو اكتساب المعرفة والتخصص. من خلال الحصول على كل من هذه الكمالات فإنها تُصبح من ممتلكاتنا، أي أن ذلك الكمال يصبح جزءاً من طبيعتنا ونتحد معه. وهكذا فإننا عندما نعشق الله في الجانب ماوراء العقلي ونصل إلى لا إله إلا الله، فإننا نريد أن نتحد ونتوحد مع الله وأن تصبح الكمالات اللامتناهية جزءاً من وجودنا. باختصار، فإننا نريد أن نتشبه بالله.
القلب هو المنبع والموطن للحب وهو الذي يحدد قيمة الإنسان. يصف الله في القرآن حال الأشخاص الذين سلكوا مسارًا مغايرًا لمسار التشبه بالله تعالى وانحرفوا عن اكتساب معنى لا إله إلا الله، وانشغلت قلوبهم بأحبة أخرى. لقد صنّفهم الله تعالى في خمس فئات رئيسيّة:
- الفئة الأولى مجموعة لها شأن جمادي و قلوب حجرية.
- الفئة الثانية مجموعة لها شأن أدنى من الجماد وتمتلك قلوب أصلب من الحجر، هذا لأنها قاسية ولا تتأثر بسماع اسم الله ولا تحدث فيها تغييرات.
- الفئة الثالثة مجموعة تعادل الحيوانات من حيث الشرف والنشاطات والطموحات، دون أن تملك كمالات تفوقها.
- الفئة الرابعة أشخاص هم أدنى من الحيوانات، لأنهم يفتقرون إلى كمالات مثل الغيرة والحياء والالتزام بالأسرة والأمانة والخدمة للنوع البشري وغيره، إذ أن جميع هذه الكمالات هي من صفات وكمالات الحيوانات، لكنها غير موجودة في هذه الفئة من الأشخاص.
- الفئة الخامسة هم شياطين الإنس وأسوأ أنواع البشر. هؤلاء لم يتركوا فقط السبيل مفتوحًا لسيطرة الشيطان عليهم، بل أصبحوا أداة لتحقيق أهدافه وسببًا في ضلال الآخرين وانحرافهم.
الشيطان هو السبب الرئيسي لغفلتنا، و كل موجود يجعلنا ننسى جانبنا الإنساني ويسلب منا السعادة والسلام والرحمة بمن حولنا، فإن القرآن يلقبه بالشيطان. لا يسمح لنا الشيطان أن ندرك حقيقة أن معشوقنا هو الله، ويعمل على الدوام كعائق يمنع اتصالنا بالغيب.
من هو الإنسان غير الطبيعي؟
يصنّف القرآن الكريم الإنسان إلى فئتين رئيسيتين: الفئة الطبيعيّة، والفئة غير الطبيعيّة أو الفاسقة. الإنسان الطبيعي هو من وصل إلى نضوج جانبه الإنساني أي أن يكون عاشقا لله. المجموعات الخمس من البشر الذين هم مشغولون بأحباب آخرين والتي ذكرناها سابقًا، لا يعتبرون طبيعيين من وجهة نظر القرآن؛ لأنهم ليسوا عاشقين للكمال المطلق، وعلى الرغم من أنهم على هيئة البشر، إلا أنهم يسعون للحصول على الكمالات المحدودة.
يجب أن يسعى الإنسان في حالته الطبيعية لبلوغ نضج الجانب الإنساني، أي الجانب الذي يعشق الكمال المطلق والذي يجعله مختلفا ومتميزا عن سائر المخلوقات. ولكن، تماما كما أن الأشخاص قد يتعرضون لتغيير في مزاجهم مثل حالات الزكام أو الحمل، فإننا قد نجد أنفسنا في ظروف تجعلنا نتصرف بطريقة غير طبيعية ونعشق الكمالات المحدودة والزائلة بدلاً من الكمالات اللامحدودة. قد تؤدي نوع تغذيتنا و سلوكنا وأفعالنا إلى انحراف البنية الرياضية لوجودنا والتصرف بشكل غير طبيعي. في هذه الحالة يعتبر الإنسان فاسقا، لأن الفسق يعني الخروج عن الحالة الطبيعية. تمامًا مثل الشخص الذي وصل إلى سن البلوغ لكنه ينفر من الجنس الآخر ولا يرغب فيه، أو شخص يشعر بالاشمئزاز من رائحة عطر الزهور، أو نمر يتغذى على النباتات بدلاً من لحوم الفرائس.
ولكن، لا ينتهي الأمر بالطبع بتغيير اسم فقط، بل إن الخروج عن الحالة الطبيعية له عواقب وخيمة جداً، ويؤدي إلى خسارة فادحة وفقدان للرأسمال الإنساني والدائم لوجودنا. أما الذين يمتلكون الإيمان، ويقومون بالأعمال الصالحة، ويدافعون عن الحق وينصحون الآخرين باتباع الحق فإن القرآن يستثنيهم من هذه الخسارة. هؤلاء الأشخاص ليسوا بفاسقين، وبما أنهم أهل الإيمان فإنهم يدركون شأنهم الإنساني ويفهمون أنهم بحاجة إلى الإله والمعشوق، ولذلك تراهم يقومون بالأعمال التي تمتلك الأهلية لتحقيق الوصول إلى مفهوم عبارة لا إله إلا الله، ومعشوقهم الله.
قد طرحت على نفسك هذا السؤال أيضًا: كيف نعرف إذا ما كنا في حالة طبيعية؟ كيف نتأكد من أننا لسنا بفاسقين؟ وما هي خصائص الإنسان المتوازن؟ الحقيقة هي أن الله قد وضع لنا في القرآن مرآة بحيث يمكننا بسهولة تحديد شكل باطننا وما إذا كنا فاسقين أو مؤمنين. من خلال مطابقة اختياراتنا وسلوكياتنا وأفكارنا وعلاقاتنا مع هذه المرآة، فإننا نقارن أنفسنا بمعايير إنسان طبيعي ومتوازن. هذه المرآة هي الآية ٢٤ من سورة التوبة، التي يُعرّف الله فيها حقيقة كل إنسان بقلبه ويقيس قيمته بالمحبوبات التي ملأت قلبه. المحبوبات الثمانية هي كالتالي:
- الآباء والأمهات
- الأبناء
- الإخوة والأخوات
- الأزواج
- العشيرة، أي الثقافة والروابط الاجتماعية التي ننتمي إليها
- الأموال
- الوظائف، والتجارة والمكانة الاجتماعية
- المنزل الذي نحبه
إن الله يعتبرنا طبيعيين ومؤمنين وقابلين للهداية فقط إذا اتخذنا المحبوبات الإنسانية الثلاثة، أي “الله”، و “أهل البيت عليهم السلام” و”الجهاد في سبيل الله”، أحب إلينا وأعلى أولوية من جميع المحبوبات الأخرى. الإنسان كائن يطلب الكمال المطلق وهو في حركة دائمة نحو ذلك. إذن لا يمكن لقلب يطلب المطلق أن يرغب في محبوبات محدودة ومؤقتة من الدنيا، إلا إذا كان قد تعرض لانحراف في بنية وجوده. تماما كما أننا في حالتنا الطبيعية لا نفضل شهادة الدبلوم على الليسانس ولا نعتبر الممتلكات القليلة أفضل من الكثيرة منها، فإنه لا يجدر بنا إذا كنا طبيعيين أن نضع المحبوبات المطلقة أو أهل البيت عليهم السلام، والذين هم تجليات كاملة لهذا المحبوب، في أولوية بعد المحبوبات الدنيوية.
إن حب هذه المحبوبات الثمانية ليس خطأ في حد ذاته، ولكن يجب أن يكون ذلك الحب في مكانه الصحيح و في مرتبة أدنى من محبوباتنا الإنسانية. وإلا، فإننا لن نعود إلى الحالة الطبيعية ما لم نقم بإعادة تقييم هندسة محبوباتنا وأحلامنا ويجد قلوبنا مكانتها الحقيقية التي هي الوصول إلى “لا إله إلا الله”. تمامًا كمن يتجه نحو الشمال بدلاً من الجنوب ولا يمكنه الوصول إلى وجهته إلاّ إذا عاد أدراجه وتصحيح خطئه، وسلك الطريق الصحيح.
إن الله يضعنا دائمًا في مواجهة اختبارات، لكي لنختار بين المحبوبات الجمادية، والنباتية، والحيوانية والعقلية و بين معشوقنا الإنساني. بعبارة أخرى إنه يضعنا في موقف لكى نرى هل نفضل الدنيا أم الله، أهل البيت(ع) والجهاد في سبيل الله. كما أن هناك أشخاص نافذون لدرجة تجعلهم لا يجدون كمالاتهم الجمادية والنباتية والحيوانية والعقلية كعائق بل يستخدمونها للوصول إلى أعلى درجات الكمال في مرتبة ماوراء العقل.
أهمية الجهاد، والتولي والتبري
قد يُطرح علينا هذا السؤال: ما هي أهميةُ الجهاد كأحد الشروط الأساسية ومقاييس التوازن الإنسانيّ؟ تماما مثل العديد من الأسئلة الأخرى، فإن الإجابة عن هذا السؤال يكمن في الرجوع إلى النفس. كيف يمكننا أن نحب شخصًا ونوافق في نفس الوقت على أعمال أعدائه؟ التولي والتبري هما وجهين لعملة واحدة، ليس بإمكاننا أن ندّعي أنه لا إله إلا الله ونقول إننا نحب الله، ولكن في الوقت نفسه نتوافق مع أعداء الله ونتبع أسلوب حياتهم وثقافتهم.
لقد أدى خطأنا في ترتيب أولويات الأصول والفروع في ديننا إلى عدم فهمنا الصحيح لأهمية موضوع الجهاد أو التولي والتبري. عندما نكون مغرمين بالعيش في مجتمع غير إسلامي ونتفاعل مع أُناس طبيعيين، فهذا يعني أن شخصيتنا فقدت توافقها مع الفطرة وتغيرت أولويات محبوباتنا من الله وأهل البيت والجهاد في سبيل الله إلى أولوية أخرى. الشخص الذي لم يفهم معنى لا إله إلا الله ولا يرى الله على رأس محبوباته ليس مستعدًا للتخلي عن دنياه من أجل هذا المحبوب، ولن يجد في حياته أيّ أثرٍ لأنواع الجهاد المختلفة.
إنّنا بصفتنا كائنات لا متناهية، لا نعتبر طبيعيين إلا عندما نعشق اللانهاية ومظاهرها مثل الله وأهل البيت(ع)، ونقوم باختيار محبوبات لانهائية خالدة. إننا نخرج من فئة الأشخاص الطبيعيين بمجرد أن نطلب الكمالات المحدودة.
بناء حضارة إسلامية حديثة ومتوازنة
عندما نكون ملمين بالخصائص الحقيقية للإنسان المتوازن، فإن فهم متطلبات بناء حضارة حديثة ومتوازنة يصبح أكثر وضوحًا لنا بطبيعة الحال. ما نعنيه بالحضارة الحديثة تلك التي يسعى المستكبرون والحداثيون إلى نشرها، بل هي حضارة لا مكان فيها للفسق، ويسودها الباطن الإنسانيّ، ويعاش فيها الحياة بشكلٍ طبيعيٍّ. وعلى الرغم من أن العلم والتكنولوجيا في أعلى مستوياته، إلا أن الإنسان يعتبر محورًا وأساسًا. في مثل هذه المجتمعات فإن الحب لله، و تجليات الكمال الإلهي والحب للجهاد يكون في صدارة محبوبات وأماني الناس، ولا يوجد فيه مكان فيها للظلم، والتمييز، والفساد، والخبث، والاعتداء.
تُظهر الحضارة الحديثة مجتمعًا إسلاميًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، وتختلف عن مجتمعنا الإسلاميّ الحاليّ الذي نجد فيه المساجد ونؤذّن ونقيم الصلاة ونذبح على الطريقة الشرعيّة ونراعي بعض مظاهر الدّين وشعائره، بينما نبتعد كثيرًا عن المعايير الأساسية للسعادة، ألا وهي الرحمة، و السرور والسكينة.
ناقشنا في هذه المقالة مفهوم “لا إله إلا الله” كعبارة إنسانية وعلاقة عاطفية بين الإنسان ومحبوبه الحقيقي و هو الله تعالى. أشرنا إلى أنّ وصول بُعدنا ماوراء العقليّ إلى “لا إلهَ إلّا الله” يُحقّق لنا الوحدة مع الله، ويشبهنا به تعالى. إنّ حبّ الله والوصول إلى “لا إلهَ إلّا الله” يتطلّبان، كأيّ حبٍّ آخرٍ، بلوغَ بُعدنا ماوراء العقليّ، ولا تظهر علامات هذا الحبّ فينا إلّا بانشغال قلبنا بمحبوبه الحقيقيّ، دون أنْ تشغله محبوبات الأقسام الأخرى.
ككائنات لانهائية، سنكون طبيعيين عندما نسعى لاكتساب الكمالات غير المحدودة والأبدية وعندما نضع الله، أهل البيت عليهم السلام، والجهاد في سبيل الله في صدارة جميع محبوباتنا، فإننا نصل إلى التوازن. الحب لله، كأي حب آخر، له جانبان: التولي والتبري؛ فحين نُحبّ الله، نكره بالطّبع كلّ ما يعاديه أو ينافيه. لا يمكننا أن نكون في الوقت نفسه محبين لله وندعي أن “لا إله إلا الله” ثم نصالح أعداءه. هناك في الحضارة الحديثة والمجتمع المتوازن أفراد متوازنين وطبيعيّين، حيث لا مكان فيه للظلم والفساد والتّمييز.