تقديم معاییر السعادة في المجتمع ورمز المجتمع السعيد
ما هي أهمّ مؤشرات السعادة ومعاييرها؟ متى يمكننا القول إنّ مجتمعًا أو فردًا قد وصل إلى النجاح والسعادة الحقيقية؟ هل هناك معايير محددة لقياس مستوى السعادة والرفاهية للأفراد في المجتمع؟
يُعدّ بلوغ السعادة والهناء أعظم أهداف البشرية في مسيرة الحياة، إلاّ أنّه في الوقت ذاته یمثّل أكبر ما يفقده الإنسان. فمنذ لحظة الاستيقاظ صباحًا إلى وقت النوم ليلًا، نسعى جاهدين لتحقيق السعادة والرضا، ونُقدّم كلّ ما نملك من تضحيات وصبرٍ في سبيل إهداء الشعور الحلو بالرضا لأنفسنا وعائلاتنا ومجتمعاتنا. لكنّنا، وبنظرةٍ متفحّصة، نُلاحظ أنّ كلّما ازداد سعيُنا وراء هذا الهدف، ابتعدنا عنه. ولذلك، نلجأ في محاولةٍ للتخلّص من هذا الشعور المُرّ وجبرًا لِما نُحسّه من فشلٍ داخلي، إلى خلق معايير وهمية للسعادة نخدع بها أنفسنا. فالحقيقة هي أنّنا لا نزالُ نفتقر إلى فهمٍ دقيقٍ لملامح السعادة والهناء، ونفتقد إلى تعريفٍ واضحٍ لها. السبب وراء ذلك يكمن في عدم معرفتنا الكاملة بجوهر الإنسان، أي أننا نتحدث عن ملامح سعادة كائنٍ لا نزالُ نجهله.
يكمن جذر معظم مشكلات المجتمعات البشرية، في غياب معرفة الإنسان بنفسه. كما أشرنا في مقالات سابقة، فإنّ الإنسان هو محور الخليقة، وقد نظّم الله تعالى كلّ بنية في الكون بناءً على بنية وجود الإنسان. وبالتالي، عندما يسعى الإنسان إلى مختلف العلوم دون معرفة نفسه، فإنه لا يستطيع فهم العلاقة بين هذه العلوم وهدف الخلق وبنية وجوده، ممّا يجعله يسلك الطريق الخطأ ويبتعد يومًا بعد يوم عن معايير السعادة. هذا هو ما أدّى إلى الأزمات التي تعصف بالمجتمعات البشرية اليوم. فبينما لم يسبق للبشرية أن شهدت مثل هذا التقدم الهائل في مختلف مجالات العلم والمعرفة في أيّ حقبة تاريخية سابقة، لم تواجه أيضًا مثل هذا الكمّ الهائل من المشكلات الاجتماعية والعائلية والفردية، مثل القتل والاغتصاب والطلاق وتعاطي مضادات الاكتئاب والانتحار والجنون والمشكلات الاقتصادية والجوع وغيرها الكثير.
تُشير هذه المشكلات بوضوح إلى أنّ التقدم العلمي قد يجلب الراحة المادية، ولكنه إذا لم يكن مصحوبا بمعرفة الاحتياجات الأساسية للإنسان وهدفه من الوجود، قد فإنه لن يُحقّق السعادة الحقيقية والسكينة النفسية التي يسعى إليها الإنسان. تُعدّ السكينة النفسية من أهمّ معايير السعادة، وتُشير إلى نضج شخصية الفرد والمجتمع، كما تُعدّ من أهمّ معايير الحضارة المتوازنة والحضارة الإسلامية، والتي تُبنى على محور “الأنا الحقيقية والإلهية” للأفراد، بينما تُبنى الحضارة الغربية على محور “الأنا الحيوانية” للأفراد.
ما هو المجتمع السعيد؟
يُعدّ الاهتمام بالشؤون الثقافية والتربوية أمرًا شائعًا في البلدان التي تُعطي أهمية لسعادة شعبها الدنيوية والأخروية، وعادةً ما تُخصص ميزانيات ضخمة لهذا الغرض. ومع ذلك، لا تُحقق العديد من هذه الجهود النتيجة المرجوة؛ لأنّ القائمين على الأمر لا يعرفون بالضبط معايير القياس لمخرجات العمل الثقافي. بعبارة أخرى، لا تعرف العديد من المنظمات والمؤسسات الثقافية معايير السعادة بشكل صحيح على الرغم من سعيها لسعادة المجتمع، ولا تعرف ما يجب أن تكون عليه ثمرة جهودها بالضبط، مما يضمن تأثير مبادراتها. هذا هو أصل العديد من الاضطرابات الثقافية: لا نعرف الإنسان ونخطط لسعادة كائن لا نعرفه! لذلك من الطبيعي تمامًا أن تكون جهودنا في إيصال الناس إلى السعادة والشعور بالرضا عن الحياة غير مثمرة كما ينبغي، وأن يضيع عمليًا جزء كبير من الميزانية والوقت الذي خصصناه. ولكن، ما هي أهم معايير السعادة؟ متى يمكننا التأكد تمامًا من سعادتنا الدنيوية والأخروية، وسعادة من حولنا، والمجتمع الذي نعيش فيه؟
تُعرّف معالم سعادتنا بالنظر إلى بُعدنا الأصليّ، وهو بُعدنا الإنساني ومعشوقنا الحقيقيّ وهو الله تعالى، وهدف خلقتنا، وهو التشبه بالله. ولذلك وبما أنّ فإن المعيار الأول لسعادتنا، والذي يدل أيضاً على نمو شخصيتنا، هو اکتساب صفة “الرحمانیة”. تُشير الرحمانية إلى الرحمة الشاملة التي تُحيط بجميع المخلوقات، من البشر إلى الحيوانات والنباتات، وحتى الجمادات. ويُعدّ اسم “الرحمن” من أهمّ أسماء الله تعالى، حيث أنّ الله تعالى ذكره في القرآن الكريم مُقارناً باسم “الله” بقوله: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)[1]، ممّا يُشير إلى أنّ كلا الاسمين يُشير إلى الله تعالى.
يُمثّل اسم “الرحمان” بمثابة الأساس الذي تُبنى عليه سائر أسماء الله تعالى، وإذا لم يتجسّد هذا الاسم في قلب الإنسان، يصعب عليه أن يُجسّد باقي الأسماء الإلهية في حياته. من يبلغ مقام “الرحمانية”، تُصبح صفاته مشعة بصفات الله تعالى الأخرى، فيُصبح رئوفًا، وجوادًا، وغافرًا، وستارًا للعيوب، وحليمًا، وصبوراً. يغمر صاحب “الرحمانية” كل ما حوله بمشاعر المحبة والتواضع العميقة، فيُقدّر ويحترم كل مخلوقات الله، من أحجار وصخور إلى نباتات وحيوانات، ناهيك عن احترامه وتقديره للناس.
يُشكّل الوصول إلى “السكينة” و”السرور” ثاني وثالث معايير السعادة الإنسانية، فما من سرور حقيقي أو سكينة دائمة إلاّ من خلال الاتصال بالله تعالى، كمحبوبنا الحقيقي. لا يمكن أن يرتبط الإنسان بالله ارتباطًا عميقًا ودائمًا ثم يشعر بالخوف والقلق والحزن. إنّ الشعور بالحزن الدائم ليس شعورًا طبيعيًا، بل هو معيار على وجود خلل أو مرض في الروح. كلّ مرة نشعر فيها بالحزن على أمور دنيوية تافهة، أو ينتابنا الحقد والحسد والتنافس مع الآخرين، نُضيف ذنبًا جديدًا إلى رصيدنا في الآخرة وضغط القبر وعذاب جهنم. حذّرنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من عواقب الحزن على أمور الدنيا التافهة، فقال: “مَن بکی علی الدّنیا دخل النّار”.[2]
لا شكّ أنّ تربية أجيال رحيمة سعيدة هادئة هي غايةُ أيّ تربية ثقافية فاعلة وعلامة نجاحها. فإذا تمكّنّا من تحقيق ذلك، فسوف نكون قد خطونا خطواتٍ واسعةً نحو بناء مجتمعٍ مثالي يجسّد قيمَ الإسلامِ الحضاريّة. إنّ مجتمعًا يخلو من الرحمة والسعادة والسكينة، مهما تقدّم علميًا أو تكنولوجيًا، سيكون مجتمعًا مرعبًا يثير النفور والاشمئزاز.
مسیرة الأربعين: رمز المجتمع المثالي ونموذج للحضارة الإسلامية الحديثة
تجسّد مسيرة الأربعين صورة نموذجية لمجتمع مثالي وراق، يتدفق فيه جميع معالم السعادة، ويُعتبر نموذجًا مصغرًا للحضارة الإسلامية الحديثة في العصر الراهن. تتيح مسيرة الأربعين مساحةً فريدةً من نوعها لمشاركة أشخاص من مختلف أنحاء العالم، حيث يُضفي عليه أجواءً من أكثر درجات السعادة والهدوء والودّ. تجذب مسيرة الأربعين العديد من غير المسلمين، مثل اليهود والمسيحيين والهندوس والبوذيين والسيك، بل وحتى أولئك الذين لا ينتمون إلى دين مُحدّد ولا يعرفون الإمام الحسين(عليه السلام)، ليشاركوا في هذا الحدث العظيم. لا يمكن تفسير هذا التجمّع الفريد من نوعه، وذلك التناغم بين أشخاص من مختلف الأعراق والجنسيات والمعتقدات حول أحد أئمة الشيعة، وفقًا لقواعد الدنيا وحساباتها. إنّما هو مبدأ معرفة النفس والوعي الذاتي، إنه وحده القادر على تفسير هذا الحدث الاستثنائي.
يُمثّل الائمة المعصومون(عليهم السلام) الأساس الحقيقيّ، والجذور، والعائلة السماوية لجميع البشر على وجه الأرض عبر مختلف العصور والأزمنة. يرتبط أصل هذا الارتباط ببداية الخلق، ففي فجر الكون، تجلى الله تعالى لأول مرة، وخلق نور المعصومين(عليهم السلام) قبل أن يخلق سائر البشر من هذا النور المبارك. لذلك، يشعر جميع البشر، مهما كانت أعراقهم أو جنسياتهم، برابطة عميقة وحبّ جارف وشعور بالانتماء الروحيّ للمعصومين(عليهم السلام) عندما يتعرّضون لنورهم الشريف.
هذا ما يحدث بالضبط في مسيرة الأربعين، حيث يرى المشاركون في هذا التجمع العظيم ذواتهم المتكاملة في وجود الإمام الحسين(عليه السلام). فالإمام الحسين(عليه السلام) هو تجسيد لجميع الكمالات التي تُوجد بشكل كامن في نفوس جميع البشر. ونتيجة لذلك، لا يستطيع أتباع الفطرة السليمة من مختلف الأديان، إخفاء حبّهم العميق للإمام الحسين(عليه السلام)، ولا يمكنهم إلا أن يُحبّوا هذا التجسيد الكامل للصفات الإلهية. وإذا تحوّل هذا الحبّ اللاواعي في نفوس البشر إلى حالة واعية، وازدادت معرفتهم به، فسوف يسعون جميعًا إلى أن يصبحوا حسينيين، ويسعون جاهدين للوصول إلى مقام المعیة والمصاحبة له في الدنيا والآخرة. وتُبنى الحضارة الإسلامية الحديثة في الواقع على هذا الأساس، أي على تشبّه البشر قدر الإمكان بالكمالات والخصائص التي يتمتع بها الإنسان الكامل.
[1] . سورة الإسراء، الآية 110
[2] . النوادر (للراوندی) ج۱، ص 210.