استكشاف مفهوم رغبة الإنسان فی اللانهائية وعلاقته بالكائن اللانهائي
من أين تنبع إنسانيّة الإنسان؟ لماذا يعتبر الإنسان أشرف المخلوقات؟ ما هي نقاط التّشابه والاختلاف بين الإنسان وبين باقي المخلوقات؟ تطرّقنا مسبقًا إلى مراتب النّفس وشؤونها المختلفة، وتعرفنا على أصل رغباتنا وميولنا. علمنا أنّ اهتمامنا بالكماليات والمادّيات ينبع من المرتبة الجمادية في وجودنا، و رغبتنا في الجمال، والإنجاب، والقوّة الجسديّة، وباقي الكمالات النّباتيّة، فتنبع من وجه الشّبه الذي بيننا وبين النّباتات. وتدفعنا المرتبة الحيوانية في وجودنا إلى تكوين الأسرة، والاتجاهات السّياسيّة والاجتماعيّة، وباقي الكمالات الحيوانيّة. أمّا المرتبة العقلية، والرغبة في اكتساب العلوم والتّصرّف في الطّبيعة، فهي وجه الشّبه الذي بيننا وبين الملائكة. إذنْ، لا یسمي الإنسان إنسانًا بسبب أيٍّ من هذه الرّغبات والميول. وإنّما تنتمي إنسانية الإنسان إلى مرتبةٍ في وجوده تُسمّى “ماوراء العقل” أو ماوراء التّجرد، وهي المرتبة التي ينفرد بها الإنسان عن سائر الكائنات وتجعله أشرفَ المخلوقات وأكرمها.
توجد أطر وحدود واضحة في مرتبة التجرد، حيث تحكم القوانين العقلية وجود الإنسان. فمثلاً، نتيجة ضرب اثنين في اثنين ستكون أربعة على الدوام، ولن تكون أقل أو أكثر أبداً. لأن العقل محدود، وحدوده محددة. أما القسم ماوراء العقلي، فلا يقبل أي أطر، ولا يساير أي قيود. بعبارة أخرى، فإن رغباتنا وتطلعاتنا في الجانب ماوراء العقلي لها مدى بعيد، ويُسيطر على وجودنا الالتزام بالكمال والرغبة في ما لا نهاية له.
إن طلب اللامتناهي هو حالة في نفس الإنسان، يمكن للجميع إدراكها دون وسيط. فلكي تدرك رغبتك في اللانهائية، يكفي أن تلقي نظرة على قائمة أمنياتك؛ كم من أمنية غير محققة لديك تتوق إلى تحقيقها؟ وكم من أمنية حققتها، ثم اكتشفت أن ما حققته لم يكن كما توقعتَه؟ كم من الثروة التي نحتاجها للوصول إلى جميع أحلامنا؟ وما أكثر قطع الثياب التي نحتاجها ليرضى طموحنا كاملا في الجمال والتألق؟
إذا كنا أصحاب أغلى سيارات العالم وأحدثها، هل يمكننا أن ندعي أننا لن نرغب أبدًا في سيارات جديدة؟ وماذا لو وصلنا إلى أعلى المناصب العلمية؟ هل سنكتفي بما نحن عليه ونكف عن التعلم؟
لقد أثبتت التجارب أنّ أمنيات الإنسان لا حدود لها. مهما بلغنا من درجات الكمال، سواءً أكانت مرتبة جمادية، أم نباتية، أم حيوانية، أم عقلية، تبقى فينا رغبة عارمة في اكتساب المزيد من الممتلكات والفضائل والارتقاء من المرحلة التي نكون فيها إلى مرحلةٍ أعلى. قدْ يقول البعض: “أنا لستُ شخصًا طموحًا، وتكفيني تلبية احتياجات حياتي الأساسيّة.” وهذا صحيحٌ بالفعل، فهذا هو ما نعتقده جميعًا في البداية. ولكن يكفي أنْ تتحقّق أولُ أحلامنا، وأنْ نتذوّق لذّتها، حتّى تصحو فينا الرّغبة الكامنة في طلب اللّامتناهي والسّعي إلى الكمال، وذلك ما يدفعنا إلى السّعي وراء المزيد من اللّذّات والإنجازات، حتّى أننا قدْ نصل إلى حدّ ارتكاب أعمالٍ خطيرةٍ لإرضاء رغباتنا، ونُعرّض سمعتنا وسُمعة الآخرين للخطر.
ولكنْ ما هي الرغبة في اللانهائية في الحقيقة؟ ومن أين تنبع؟
قوانین الأماني
في رحلة البحث عن الرغبة في اللانهائية، نصادف مفهومًا أساسيًّا وهو “الطلب”. والذي يحكمه خمسةُ قوانين أساسيّةٍ:
القانونُ الأوّلُ: إن طلب المعدوم المطلق مستحیل. فنحن لا نرغب أبدًا في شيءٍ غير موجود. عندما نرغب في شيءٍ ما، فهذا يعني أنّ المطلوب موجودٌ بالفعل، وأنّهُ قد تمكّن منْ إثارة الرّغبةِ فينا. فالطّلب أمر حقيقيّ، وليس أمرًا ذهنيًّا أو انتزاعيًّا.
القانون الثاني: إنّ طلب أيّ شيءٍ يدلّ على توافقه مع طبيعتنا. من المستحیل أن نتمنى شيئا لا نتوافق معه. فمثلاً، لن تخطر على بالك أبدًا الرغبةُ في أكل مناديل الورق أو الخشب! لأنّ ذوقَك لا يتوافق مع ذلك.
القانون الثالث: إنّ طلب أيّ شيءٍ يدل على معرفةٍ سابقةٍ به. إنّنا لا نطالب أبدًا بأيّ شيءٍ لا نعرفه. فمثلاً، إذا طالبنا بأكل فاكهة، فذلك لأنّنا نعرفُ ما هي الفاكهة، ولدينا معرفةٌ بطبيعتها.
القانون الرابع: كل رغبةٍ هي انعكاس لتجربةٍ سابقةٍ وفائدةٍ مُجنّى عليها. فلا نرغب في شيءٍ لم نُجرّبه من قبل، ولا نَتوق إلى ما لم نذقه طعمه. فعلى سبيل المثال، لو وُجد في بلدٍ بعيدٍ فاكهة لم نرها من قبل، ولم نسمع باسمها حتّى، فلن نرغب أبدًا في تذوّقها. إننا لا نطارد إلّا ما سبق أن جرّبناه، وما تذوّقنا حلاوته من قبل.
القانون الخامس: كلّ رغبةٍ هي شهادة على قدرتنا على تحقيق ما نريده. إنّنا نتمنی ما نحن مستعدون لقبوله، وإن لم تکن عندنا الإمکانية أو القدرة علیه فإننا لن نطلبه ولن نتمناه. کشخص شبعان من جراء امتلاء معدته فإنه لا يشعر بالجوع ولا يطلب طعاما ولكن بعد هضم الطعام و الشعور بالجوع فإنه سوف يبحث عن طعام.
بناءً على ما سبق، تُشير رغبة الإنسان في اللانهائية إلى وجود كائنٍ لامتناهٍ نتوافق معه، ونعرفه، وقد جرّبنا رفقته والاستفادة منه في الماضي، وأنّنا نمتلك السعة للوصول إليه. ولكن ما هو هذا الكائن؟
من هو الكائن اللّامتناهي؟
الكون هو وجودٌ واحدٌ متّصل غير محدود وبلا حدود، ولا يوجد هناك ما يُسمّى “العدم. فلو كان “العدم” موجودًا، لكان قد تحوّل إلى “وجودٍ”، ولما عُدّ “عدمًا” أبدًا. إنّ “العدم”، أو “الصفر”هو مجرّد اصطلاحٍ ابتكره الإنسان لدراسة المفاهيم الرياضيّة، لان الوجودُ هو كتلة واحدة لا ثقب فيها! بمعنى أنّنا لا نستطيع تصوّر وجودين أو أكثر، لأنّهُ لو حدث ذلك، لَكان قدْ نشأَ فاصل بينهما. هذا الفاصل لا يمكن ملؤه بالعدم، لأنّ العدم لا وجود له، وإنْ ملَأْناه بالوجود، فسيكون ذلك امتدادًا للوجود الأول، ولا يُصبح وجودًا ثانيًا.
من خصائص الوجود أنّه لا بداية له، فلو افترضنا وجود نقطة زمنية كبدء الوجود، فهذا يعني أنّ الوجود إما كان موجودًا قبلها، أو لم يكن. إنّ افتراض عدم الوجود قبلها يُشير إلى نشأته من العدم، وهو أمرٌ مُستحيل. لذلك، فإنّ الوجود أزليٌّ، لا بداية له. وبنفس المنطق، يرفض أصحاب هذا الرأي فكرة وجود نهاية للوجود، فلو افترضنا وجود نقطة زمنية تمثل نهاية الوجود، فهذا يعني أنّ العدم سيحلّ محلّه. لكن، كما سبق وذكرنا فإن العدم مفهومٌ لا وجود له في الواقع، وبالتالي لا يمكن للوجود أن ينتهي.
الوجودُ لا نهائيٌّ، وبالتالي لا يوجد له خارج. فإنْ أراد شيءٌ الخروج من الوجود، فإمّا أنْ ينتقل إلى وجودٍ آخر، وهو استمرارٌ لهذا الوجود، وإمّا أنْ يدخل وادي العدم، والعدم غير موجودٍ. وبسبب لا نهائيّة الوجود، فهو غنيٌّ عن الحاجة أيضاً. فالحاجة هي شيءٌ يجب توفيره من عالم خارجي، وكما قلنا، لا يوجد خارجٌ للوجود، أي لا شيء خارج الوجود يحتاج إليه الوجود.
وصلنا حتى الآن إلى فهم لخصائص الوجود، يمكن تلخيصه على النحو التالي:
- الوجود لا نهائي
- الوجود واحد
- الوجود لا أول له ولا آخر
- الوجود لا خارج له
- الوجود لا يحتاج إلى شيء
من المهم ملاحظة أنّنا استخرجنا هذا الفهم كلّه من أنفسنا، دون استخدام أي مصدر علمي أو ديني.
وذلك لأنّ فهم الوجود هو فهم داخلي يدركه جميع البشر، بغض النظر عن مستوى معلوماتهم. ما توصلنا إليه من فهم للوجود، والذي يُشار إليه في سورة في القرآن الكريم وهي سورة التوحيد، يُطلق عليه اصطلاحًا اسم “الله”. وإذن، فإنّ “الله” هو الوجود المطلق، الموجود في كل مكان، لا نهائيٌّ وواحدٌ، ليس له بداية ولا نهاية، ولا يحتاج إلى أي شيء.
تُعدّ سورة الإخلاص بمثابة هوية الله تعالى، تُقدّم لنا وصفًا دقيقًا لذاته وصفاته الجليلة. فلنُحلّل معا آياتها الكريمة:
- قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ: قل إنّ الكمال المطلق الذي تحبّه، واحد لا مثيل له.
- اللَّهُ الصَّمَدُ: ذلك الکمال المطلق، غنيّ مطلق.
- لَمْ يَلِدْ: لا ظهور خارجي لذات الله تعالى، ولا ينبثق منه شيء، أو بعبارة أخرى، لا يلد.
- وَلَمْ يُولَدْ: إنّ الله لا يحتاج إلى خالق، وليس مخلوقًا لأحد.
- وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ: لا يوجد له مثيل أو شریك.
في الحقيقة، لا تعلّمنا سورة الإخلاص شيئًا جديدًا، بل تُذكّرنا بما كنّا نعرفه مسبقا. فالله تعالى يصف القرآن الكريم ورسول الله(ص) بصفة “المذكّر”، أي أنهما وسيلتان لإعادة إحياء ما هو معلومٌ لدينا في أعماقنا وأنّ النّبيّ(ص) لم يأت بأيّ شيء جديد، بل هو مُذكّرٌ بمعانٍ راسخة في فطرتنا ونفوسنا، و تشهد بُنيّة وجودنا الرياضية على صحتها.
في ضوء ما تمّ تناوله، يتبين أنّنا جميعًا نُحِبّ الله تعالى في أعماقنا بالفطرة، وأنّ ذلك الموجود اللانهائي الذي نبحث عنه هو الله. فرغبتنا في اللانهائية، وفي وصله، وإقامة صلة روحية معه، غريزة فطرية مُتَأصّلة في كلّ إنسان. إلّا أنّ بعض الناس يخطئون في تحديد مفهوم اللانهاية، فيبحثون عنها في الماديات، معتقدين أنّ الثروة أو القوة اللانهائية ستُحقّق لهم السعادة وتُسكن اضطراباتهم. لكنّ هذا الاعتقاد خاطئ، فمهما عظمت الممتلكات المادية، تبقى محدودة ولا يمكن لكمال محدود أن يُسكِن روح الإنسان المُتطلّعة إلى اللانهائية.
لا يعني ذلك أنّ السعي وراء الماديات مُحرّم أو خاطئ، بل على العكس، فالكمالات المادية مقدسة وذات قيمة في جميع جوانبها، ولا يحقّ لأحد منع الناس من السعي وراءها. لكنّ الأمر يتعلّق بالأولويات، فالأهمّ هو ألاّ تُسيطر هذه الكمالات على قلوبنا، بل يجب أن يُحكم الله تعالى جميع أبعاد وُجُودنا بصفته محبوبنا الحقيقي. ففي هذه الحالة فقط، سنعيش حياة إنسانية حقيقية في الدنيا، وسوف ننعم بأبدية مُتَوَّجة بالسعادة والهناء في الآخرة.
من الخصائص المهمة في الحديث عن الرغبة في اللانهائية والتي تمّ التطرق إليها في “قوانين الطلب”، هي “السعة الكامنة للوصول إلى اللانهاية”. إنّ رغبتنا في اللانهائية و”سعينا إلى الله” – الكائن اللامتناهي – يدلّ على أنّ “السعة الكامنة للوصول إليه” موجودة في فطرتنا. أمّا كيفية تعبئة هذه السعة في فطرتنا وكيفية الوصول إلى الله فهما موضوعان نُخصص لهما مقالات لاحقة.
إنغمس هذا المقال في رحلة لاستكشاف بُعد الإنسان ماوراء العقلي، كمحور لرغبته اللامتناهية وطموحه نحو الكمال. تحدثنا عن قوانين الطلب، واستكشفنا كيف تُشير رغبة الإنسان في اللانهائية إلى وجود كائن لامتناه، وكيف يتوافق الإنسان مع هذا الكائن في خصائص جوهرية، وكيف سبق للإنسان تجربة رفقته والوجود إلى جواره، وكيف يحمل في طيّاته القدرة الكامنة للوصول إليه. كما أكّدنا على أن ذلك الكائن اللامتناهي، الذي تُسكن روح الإنسان رغبة مُلحّة للوصول إليه، هو الله تعالى وحده لا شريك له. مع إدراكنا لهذه الحقائق، تُطرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية:
- ما معنى سنخية الإنسان مع الله تعالى؟
- أين ك الإنسان رفيقًا لله تعالى حتى أصبح يكتنفه هذا الشعور بالمعرفة؟
- ماذا يعني القول بأنّ الإنسان يحمل في طيّاته السعة للوصول إلى الله تعالى؟
نُؤجّل الإجابة على هذه الأسئلة إلى مقالات لاحقة.