ماذا حدث لخلافة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الغدير؟
تُعتبر حكومة أمير المؤمنين(عليه السلام) بعد وفاة النبي أصعب فترة تاريخية لحكومات الأئمة. إن تجاهل مكانة أمير المؤمنين(عليه السلام) بعد الغدير قد غيّر مسار حركة الإسلام ونمو المسلمين بشكل مفاجئ. بعد أن تذوّق الناس طعم حكومة المتخصص المعصوم في زمن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ووعوا موضوع ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) في الغدير، وقعوا في شباك الدسائس العشائرية بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لدرجة أنهم، باستثناء عدد قليل، نسوا أهمية حكومة إمام المعصوم وعادوا إلى معتقداتهم وسلوكياتهم السابقة. ما زال الشيعة بعد أربعة عشر قرناً يدفعون ثمن تفويت هذه الفرصة النادرة لحكم الإمام المعصوم وعدم معرفة مكانة الإمامة والولاية الإلهية بعد الغدير.
كان ذلك في وقتٍ لم تکن فضائل أمير المؤمنين، علي(عليه السلام)، خافية على أحد سواء في المجال الإيماني والأخلاقي أو في مجال الشجاعة والفروسية، و تم ذكرها والاشارة إليها مراراً وتكراراً من قبل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبرئيل الأمين. ففي وقت لم يجرؤ فيه أحد على إظهار دينه، كان علي (عليه السلام) السابق في ايمانه برسالة النبي، وفي أصعب البيعات مثل “بيعة الشجرة” التي أخذ النبي فيها البيعة من أصحابه على الموت، كان هو أول من بايع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).[1] كما أنه خاطر بحياته عن طيب خاطر في ليلة المبيت، ونام في مكان النبي. وعندما هاجر النبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم) ولى وكالة رد الأمانات والديون وجمع مطالباته إلى علي(عليه السلام)، وكلفه بمهمة إحضار أعز أفراد عائلته إلى المدينة، وهم “الفواطم”. وفي حادثة المباهلة، رافق علي(عليه السلام) النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره نفس النبي[2]، و من أهل بيته الذين نزلت في شأنهم آية التطهير.[3] لم يسبق للامام علي (عليه السلام) أن ولّى وجهه عن العدو في الحرب قط، وكان يدافع عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بشجاعة، إلى أن نادت الملائكة مراراً في فضله: “لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي”، [4] وعندما كانت الأمور تشتد، كان دائماً في المقدمة لمساعدة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، هو فاتح خيبر وقارئ آية البراءة للمشركين. كان يعسوب الدين[5] ويعسوب المؤمنین[6]، جامعاً بين قمة الرحمة وقوة الصلابة. لم ينقص حكمه القوي شيئاً من زُهد حياته. كان عالماً وارثاً للأنبياء، وولي الله وسيد الوصيين[7]، وقد مُنح بلقب أمير المؤمنين من قبل الله.[8]
هذا غيض من فيض فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام)، وقد اختاره النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر الله في غدير خم وصياً وخليفةً للأمة من بعده، ليقود المسلمين وكل البشرية إلى مقام خليفة الله. ولكن بعد الغدير، ومع رحيل النبي، تغيرت الأمور وتم إزاحة علي(عليه السلام) عن مكانته كخليفة لرسول الله، وسلك مجتمع المسلمين مساراً مختلفاً جلب معه خسائر وتكاليف باهظة الثمن، ليس فقط في ذلك الحين بل للإنسانيّة أجمعها.
نشأة الإسلام وظهور القبلية بعد حادثة الغدير
عند تثبيت عقيدة ناشئة يحتاج الإنسان إلى الممارسة والتثبيت أكثر من أي زمان آخر. على الرغم من وجود النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) القيم، لم يملك المسلمون فرصة كبيرة لتثبيت العقائد والقيم الإسلامية النقية. إن فترة الـ 23 عاماً من نبوّة النبي(صلى اللّه عليه وسلم) قُيدت بثلاث سنوات من الدعوة السرية والمحدودة، وثلاث سنوات من الحصار في شعب أبي طالب، والهجرة إلى الحبشة، والهجرة إلى المدينة، والحروب والغزوات المتعددة.
لقد استغل النبي(صلى الله عليه وسلم) كل الفرص التي كانت تتيح له المجال للكشف عن الأحكام والقيم الإلهية للإسلام خلال حياته، إلا أن القبلية والقيم العشائرية كانت متجذرة في نفوس الناس في شبه الجزيرة لسنوات طويلة، وعندما توفي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، عادت هذه القيم إلى الظهور مرة أخرى. فأصبح الناس الذين كانوا محيطين برسول الله، ويهاجرون بأمره، ويساعدون إخوانهم في الدين بأرواحهم وأموالهم، ومستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيله، ناكرين لكل ما جرى في الغدير، ومالوا إلى القيم العائلية والقبلية بعد رحيل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وجهلوا أمير المؤمنين و حقه، و تغاضوا عن فضله وتخصصه الإلهي، ثم اختاروا من بينهم شخصاً للخلافة، وكأن الرسول(صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يعيّن لهم خليفة في الغدير.
كانت هذه بداية قصة ابتعاد المجتمع عن المتخصص المعصوم، وهي قصة لا تزال مستمرة، فقد تذوقت الإنسانية مرارة الابتعاد عن الهداية الإلهية مرات عديدة، وعانت من ظلم وجراح الحكّام غير المتخصصین مرات عدة، بينما العيش بجوار المعصوم يعادل تحقيق هدف الخلق والتشبه بالله.
ضرورة الحفاظ على الحكومة الإسلامية بعد الغدير
إن تشكيل الحكومة الإلهية كان هدفًا سُعيَ إليه منذ زمن أول نبي، وكان دوماً في مقدمة الأهداف عند كل نبي ومعصوم (عليهم السلام) إلى جانب البرامج العقائدية والتربوية. كل عاقل يقبل أن تنفيذ البرنامج الإلهي لإيصال الناس إلى هدف الخلق، لا يمكن أن يتم دون توفير الظروف المناسبة وبدون وجود حكومة إلهية يتناسب هيكلها مع أحكام وتعاليم الدين، و إذا لم يتوفر ذلك فإن تنفيذ أوامر الدين سيكون ناقصًا أو مستحيلًا، ومن الطبيعي أننا لن نصل إلى الهدف المنشود.
بعد الغدير ورحيل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، واجه أمير المؤمنين حكومة إسلامية قد كافح من أجل تشكيلها رسول الله لمدة 23 عامًا، وتحمل أنواع الصعوبات والحصار والتعذيب والإهانات، وفقد ثرواته وأعز أصدقائه في سبيل إنشائها. ومع ذلك، بات المجتمع يضم عددًا قليلاً من الأشخاص الذين وقفوا مع الإمام علي (عليه السلام)، إذ أن أغلب الناس نسوا ما قاله الرسول في الغدير ولم يظهروا أي رغبة تجاه الحكومة الإلهية، رغم معرفتهم بفترة حكومة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتجربتهم بحلاوتها. في مثل هذه الظروف، وبالنسبة لأمير المؤمنين(عليه السلام) كان الحفاظ على بقاء الإسلام والسعي للحفاظ على الحكومة الإسلامية أهم من الأولويات الأخرى.
بما أن المعصوم يدرك ضرورة وجود متخصص إلهي لهداية الناس وإيصالهم إلى مكانتهم الحقيقية، فقد كان الأمر مؤلماً لأمير المؤمنين(عليه السلام) أن يرى القوم يتهافتون على القيم غير الإلهية والعشائرية، والسعي لتحقيق الكمالات الجمادية والنباتية والحيوانية، على حكومة الإمام وسعادة الدنيا والآخرة. لكنه (عليه السلام) لم يكن لديه خيار سوى الصبر والسكوت الطويل أمام انحراف الناس والظلم الواضح بعد الغدير ورحيل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، للحفاظ على الإسلام والمجتمع الإسلامي الناشئ. استمر هذا الصبر لمدة 25 عامًا، وكما ورد في خطبة الشقشقية للإمام[9]، هَرِمَ فيها الكبير، و شاب فيها الصغير، و كَدِحَ فيها المؤمن حتى يلقى ربه. ولكن، لم يعنِ صبر أمير المؤمنين(عليه السلام) انسحابه من الساحات الاجتماعية أو السياسية أو المشاورات العسكرية، بل ظل الإمام طوال هذه الفترة عند شعوره بضرورة تقديم المشورة، كوزير إلى جانب المسؤولين في الحكومة، وكان يساعد في دفع المخاطر عن الإسلام والمجتمع المسلم سواء في المجال العلمي أو السياسي بقدر استطاعته. بمعنى آخر، إن تجاهل حق الإمام بعد الغدير والظلم الذي وقع على السيدة فاطمة(سلام الله عليها) والذي أدى إلى شهادتها، ورغم أنه أحدث ألمًا شديدًا للإمام، لم يمنعه جميع ذلك من دعم الإسلام وأهدافه.
أهمية توجه الناس إلى المتخصص المعصوم باختيارهم
إن القوم الذين تفرقوا عن أمير المؤمنين(عليه السلام) وتركوه وحيداً بعد رحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، واختاروا خليفة آخر بناءً على معاييرهم القبلية، لم يروا خيرًا في اختيارهم الذاتي فحسب، بل انغمسوا في ميولهم النفسية ورغبات أبعاد وجودهم السفلى، إلى أن وصل بهم الحال إلى نسيان مسار الحركة نحو هدف الخلق تدريجياً، وفي أفضل الأحوال، لم يحتفظوا إلا بظاهر الإسلام. كان الابتعاد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في الحقيقة يعني الابتعاد عن الصراط، الصراط المستقيم الذي كان من المفترض أن يرفعهم إلى الله وأسمائه وصفاته.
كما أن ثمن نقضهم للبيعة التي عاهدوا الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عليها، كان تحمل 25 عامًا من حكم الجور والخضوع لحكم غير المعصوم، مما أدى بالطبع إلى ظهور انحرافات عميقة ومشاكل أساسية في المجتمع المسلم. هذه المشاكل لم تبعد المسلمين عن الخصائص الحقيقية للسعادة وأسس الإسلام العميقة في تلك الفترة الزمنية فحسب، بل وأجبرت أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يتحمل تكاليف مالية وبشرية لمواجهة الجماعات الفاسدة التي نشأت مثل الناكثين والمارقين والقاسطين، و البدع والانحرافات التي ظهرت في المجتمع.
هذه هي سنة الله، إنه لا يغير مصير أي قوم إلا إذا أرادوا ذلك[10]، ويتطلب الأمر أحيانا عقودًا بل وحتى قرونًا للوصول إلى نضوج الرغبة في حكومة المختص المعصوم وفهم مكانته الفريدة ودوره الأساسي في إيصالنا إلى هدف الخلق.
إن كل من شهد حكومة الخليفة الثاني، رغم تأكيد القرآن على مساواة البشر، لاحظ التمييز العنصري في تقسيم بيت المال[11]، وتفوق العرب على العجم، وعرب قحطان على عرب عدنان، وقريش على غير قريش. كما شاهد الناس أن عدم التشاور مع صحابة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الأمور المهمة، يؤدّي إلى استيلاء أشخاص غير مناسبين مثل يزيد بن أبي سفيان[12]، ومعاوية[13]، وسعيد بن العاص[14] و غيره، على المناصب[15]، و شهدوا كيف مُنع نقل أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحرقها بحجة اختلاط الأحاديث بالقرآن، وظهور البدع في الدين. عندها بدأ الناس يدركون خطأهم في تفضيل الحكومة غير الإلهية على الحكومة الإلهية.
تزايد هذا الاستياء العام في زمن الخليفة الثالث عثمان. فقد أدى تعيين الحكام والولاة غير الكفوئين من بني أمية في المناصب، بسبب قرابتهم إلى الخليفة[16]، إلى تقديم الكثير من الهبات لعائلة بني أمية[17]، ونهب بيت المال[18]، والتعامل بشكل غير لائق مع صحابة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، واستخدام أشخاص قد طردهم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل في شؤون الحكومة[19]. كل ذلك أدى إلى ثورة الناس ضد عثمان، مما دفع مجموعة من الناس من مصر والكوفة والبصرة والمدينة للتمرد عليه[20]، وقاموا بقتله بعد أربعين يومًا من الحصار[21] .
لقد سأم الناس التمييز والفوضى، وبعد مضي 25 عامًا بعد الغدير، توجهوا إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) وأصروا على اختياره خليفة في سنة 35 هجرية، ليس لأنه معصوم متخصص وله القدرة على إيصالهم إلى مقام خليفة الله، بل كالخليفة الرابع. خلال هذه السنوات، لم يعترف سوى عدد قليل من صحابة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مثل سلمان وأبو ذر والمقداد وعمّار بمكانة أمير المؤمنين كوصي حق للنبي، ولم يستفد الناس من وجوده.
تطهير الحكومة من أفعال أئمة الجور بعد مضي 25 عامًا من الغدير
تسببت إجراءات عثمان التي مهدت لقتله، في اندلاع الحروب في فترة خلافة أمير المؤمنين(عليه السلام). كانت خلافة أمير المؤمنين بعد سنوات من الغدير فرصة لإعادة تأسيس الحكومة الإسلامية في مجتمع مختل ظاهره إسلامي، لتكون خالية من البدع والانحرافات إلى الأبد. وعلى الرغم من أن فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام) لا تعد ولا تحصى إلا أن ما يبرز بين صفاته بشكل خاص هو عدله. فقد كان(عليه السلام) يقاوم الظالمين مهما كانوا، ويسترد حق المظلومين في أي مكان.
لذلك، فإنه فام بعد إصرار العديد من الفئات والمجموعات من الناس على قبول الخلافة، وألقى خطبة أوضح فيها موقفه. ومن كلامه في تلك الخطبة[22] فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان: والله لو وجدته قد تُزُوّج به النساء، و مُلك به الإماء، لَرَدَدته…” وهكذا، تم توزيع أموال بيت المال في زمن خلافة خليفة النبي وفقًا لأسلوب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالتساوي ودون النظر إلى الأنساب أو القبائل أو حتى كونهم عربًا أو غير عرب. بينما في زمن خلافة الخليفة الثاني كانت أسماء الأفراد تُسجّل في الديوان بناء على النسب و القبيلة و الأسبقية في الإسلام و ميزان المشاركة في غزوات صدر الإسلام.
على الرغم من أن الإمام علي(عليه السلام) كان يظهر أقصى درجات التسامح والمرونة في التعامل مع الأمور المتعلقة بنفسه، إلا أنه لم يقصّر أبدًا في تنفيذ الحدود والأحكام الإلهية، حتى وإن أدى ذلك إلى نزوح بعض الأفراد من جيشه وانضمامهم إلى جيش العدو. من الأمثلة على ذلك حادثة محاسبته لعبد الله بن عباس وتنفيذ حد الجلد على حسان بن ثابت الشاعر بسبب مخالفته في شهر رمضان. وعلى الرغم من أنه صبر لمدة 25 عامًا بعد الغدير للحفاظ على وحدة المسلمين والحكومة الإسلامية ولم يظهر رد فعل قوي، إلا أنه خلال فترة حكمه بذل قصارى جهده لتنفيذ القيم و الأسس الاعتقادية والعملية لحكومة رسول الله في المجتمع، بالإضافة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وإحياء مبادئ حكومة رسول الله وإعادة بناء الأسس الإسلامية القوية التي تركها النبي كإرث. وبالطبع، فقد دفع ثمن ذلك أيضا بوقوع ثلاث حروب خلال فترة حكمه التي استمرت خمس سنوات.
الحرب مع الناكثين والقاسطين والمارقين
لقد أُجبر الإمام علي (عليه السلام) في السنة 36 هـ، أي حوالي عام بعد توليه الخلافة، على خوض حرب مع الناكثين أو المتمردين. وقد وقعت حرب الجمل بقيادة طلحة والزبير، اللذين طمعوا في حكومة البصرة والكوفة في خلافة أمير المؤمنين دون جدوى، وبتشجيع من معاوية و انضمام عائشة بحجة الثأر لقتل عثمان. أسفرت هذه الحرب عن فقدان العديد من المسلمين من الجيشين وانتهت بانتصار جيش أمير المؤمنين(عليه السلام).
بعد ذلك، قرر علي(عليه السلام) نقل مركز خلافته إلى الكوفة. وفي السنة 37 هـ، اندلعت حرب بينه وبين معاوية بن أبي سفيان، حاكم الشام، الذي كان يرفض البيعة لأمير المؤمنين بحجة الثأر لعثمان، ووقعت حرب صفين في وقت كان فيه النصر قريبًا من جيش الإمام، إلا أنه قام أفراد من جيش الإمام بعدم اتباع الأوامر بالقتال ضد جيش معاوية، وقاموا برفع المصاحف على الرماح وتم تحويل الحرب قبل نهايتها إلى التحكيم، وانتهت بتذرع البعض من جيش أميرالمؤمنين وسذاجة أبي موسى الأشعري خلال التحكيم.[23] وهكذا هرب معاوية من الهزيمة، ورغم جدارة جيش أمير المؤمنين بالنصر، إلا أنهم لم يحققوه.
بعد حرب صفين، بدأ عددا من الناس الذين لم يوافقوا التحكيم في إثارة الفتن وكفروا به وتابوا منه، مطالبين بمواصلة الحرب ضد معاوية ونقض التحكيم. إلا أن الإمام (عليه السلام) الذي لم يكن موافقًا على التحكيم من البداية، لم يقبل نقض التحكيم وقال: “ما قبلنا شيئًا لا يمكننا نقضه”[24] . بالإضافة إلى ذلك، اشترط الإمام عليهم أنه إذا حكموا بكتاب الله، فعليه الالتزام بحكمهم؛ لأنهم قبلوا بتحكيم القرآن وليس بتحكيم الناس. وهكذا خرجت هذه المجموعة من جيش الإمام وذهبت إلى مكان يسمى النهروان وارتكبوا جرائم عديدة وقتلوا العديد من الناس. وعندما وصل خبر هذه الجرائم إلى الإمام(عليه السلام)، وجه جيشه من معسكر الحرب ضد معاوية نحو نهروان[25] وحاول أن يثني الخوارج عن عزمهم بالحديث دون جدوى. وأقدم الخوارج على إشعال فتيل الحرب،[26] عندها تلقى جيشهم شرّ هزيمة من قبل جيش الإمام (عليه السلام).
عدم تعاون المسلمين مع المعصوم المتخصص
على الرغم من أن الناس في زمن حكومة الإمام علي(عليه السلام) شهدوا عدالة وقضاءً لم يشهدوه في زمن أي من الخلفاء السابقين، إلا أن الترف وعدم الطاعة لدى أغلب المسلمين حال دون تحقيق أهداف الإمام(عليه السلام). حتى أنه عبّر عدة مرات وفي مواقف مختلفة عن استيائه من تصرفاتهم. كانت الجماعة الإسلامية للمسلمين في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) محصورة في المدينة التي لا يتجاوز عدد سكانها عدة آلاف نسمة لمدة عشر سنوات، والتي أضيفت لاحقًا إليها مدينتا مكة والطائف بعد فتح مكة. خلال هذه السنوات، كان المسلمون يعانون دوماً من الفقر ونقص الإمكانيات بسبب الضغوط والعقوبات المفروضة عليهم. إن حكومة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أُسّست مبادئها في مجتمع كهذا و في هذه الظروف.
أما في زمن حكومة أمير المؤمنين(عليه السلام) تغيرت أوضاع العالم الإسلامي تمامًا. فقد مضى حوالي 25 عامًا على وفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، و زادت مساحة وحجم الحكومة الإسلامية بشكل هائل لتشمل مناطق شاسعة من آسيا الوسطى إلى مصر في شمال إفريقيا. كما كانت إمبراطورية إيران وجزء كبير من الإمبراطورية الرومانية تحت سيطرة الحكومة الإسلامية أيضاً، مما يعني زيادة الثروات والإمكانات والرفاهية للمسلمين. لم يكن بإمكان أي قائد إلهي غير أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يقيم العدالة في مثل هذه الظروف ويطبق مبادئ الإسلام في المجتمع ويضمن سعادة المسلمين في الدنيا والآخرة.
مع ذلك، فإن الوصول إلى هذا المستوى من الثروة والرفاهية للمسلمين كان له عواقب أخرى أيضًا. فقد بدأ بعض الناس الذين شاركوا يومًا ما جنبًا إلى جنب مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الحروب وعشقوا التوحيد والعدل والمساواة وغيرها من مبادئ الإسلام، بعد هذه الفترة الطويلة، وبما خدعتهم مظاهر الدنيا، وانغمسوا تدريجيًا فيها ناسين المبادئ الإنسانية للإسلام. لقد ملأ الرفاه الزائد قلوبهم بالرغبات النفسية والكمالات غير الإنسانية لدرجة أنهم لم يعودوا يسمعون أوامر المعصوم المتخصص. لقد قام هؤلاء في زمن حكومة أمير المؤمنين(عليه السلام) ببيع حياة الدنيا المحدودة بحياة الآخرة الأبدية، ولم توقظهم حتى أشد كلمات الإمام تأثيرًا من غفلتهم.
لم يكن أفق رؤية الإمام(عليه السلام) يقتصر على الناس في زمانه فقط، بل كان يشمل جميع البشر لكي يستفيدوا من نعمة الهداية الإلهية إلى يوم القيامة، ويعيشون متشبّهين بالله في مجتمع إسلامي حقيقي بجوار وليهم وقدوتهم. لكن، للأسف، كانت قلوب الناس مثقلة بالدنيا وأعينهم مخدرة، و أعماهم عن مساعدة الإمام، وبالتالي لم يساعده إلا عدد قليل في تحقيق أهدافه.
إعلان الإمام عن براءته من أعمال الناس تحت سلطة حكومته، وحدته واستشهاده
في فترة حكمه التي استمرت خمس سنوات، انتقد الإمام(عليه السلام) ضعف وعدم كفاءة أصحابه. في خطبة له من نهج البلاغة حيث يأمر فيها أصحابه بالقتال ضد أهل الشام، ولكن يستجيب إليه عددًا قليلاً، يخاطبهم قائلاً: “…مَا أَنْتُمْ لِي بِثِقَةٍ سَجِيسَ اللَّيَالِي[27] وَ مَا أَنْتُمْ بِرُكْنٍ يُمَالُ بِكُمْ وَ لَا زَوَافِرُ[28] عِزٍّ يُفْتَقَرُ إِلَيْكُمْ. مَا أَنْتُمْ إِلَّا كَإِبِلٍ ضَلَّ رُعَاتُهَا فَكُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ انْتَشَرَتْ مِنْ آخَرَ…”. [29]
كما أنه عندما تحرك نعمان بن بشير بأمر معاوية مع ألفين من الرجال لتخويف أهل العراق من الشام، قام الإمام في جزء من خطبته وعبّر بحزن قائلاً: “… مُنِيتُ بِمَنْ لاَ يُطِيعُ إِذَا أَمَرْت، وَلا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ، لاَ أَبَا لَكُمْ! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ؟ أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ، وَلاَ حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً، وَأُنادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً، فَلاَ تَسْمَعُونَ لي قَوْلاً، وَلاَ تُطِيعُون لِي أَمْراً، حَتَّى تَكَشَّفَ الْأُمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ الْمَساءَةِ…”. [30] وفي خطبة أخرى عبر فيها عن استيائه من تصرفات أصدقائه قال: “… صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللهَ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ، وَصَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللهَ وَهُمْ يُطِيعُونَهُ، لَوَدِدْتُ وَاللهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَني بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ، فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةً مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي رَجُلاً مِنْهُمْ…”.[31]
هكذا حاول أميرالمؤمنين(عليه السلام) خلال فترة حكمه ورغم المؤامرات والضعف، أن يقرب المجتمع إلى المبادئ والقيم الإلهية وسنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وينقيه من الانحرافات والبدع. لكن العوائق والمكائد من الأعداء وكسل وغفلة أصدقائه حالت دون وصول الإمام إلى الدولة الكريمة والمدينة الفاضلة التي كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يهدف إليها للمجتمع الإسلامي بعد غدير خم. و وصلت وحدة الإمام علي(عليه السلام) إلى ذروتها في الواحد والعشرين من شهر رمضان عام 40 هجريًا باستشهاده على يد أشقى الأشقياء، ابن ملجم المرادي[32]. حُرم بذلك المجتمع المسلم لقرون طويلة من وجود حكومة إسلامية ودولة كريمة تحت قيادة متخصص معصوم یمهد الطريق للحركة نحو الله والتشبّه به.
[1] . بحار الأنوار – العلامة المجلسي، ج ٣٨ ،ص ٢١٧
[2] سورة آل عمران، الآية 61
[3] سورة الأحزاب، الآية 33
[4] امینی، الغدیر، ۱۴۱۶ق، ج۲، ص۱۰۴؛ الكافي (ط – الإسلامية)، ج8 ، ص11
[5] امینی، الغدیر، ۱۳۹۷ق، ج۲، ص۳۱۳
[6] ابن شهر آشوب، مناقب، ۱۳۷۶ق، ج۲، ص۱۴۷
[7] . موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج1
[8] کافی، ج 1، ص 412
[9] . نهجالبلاغة، الخطبة 3
[10] سورة الرعد، الآية 11
.[11] تاریخ الیعقوبي، ج ۲، ص ۱۰۶
.[12] أبو خالد يزيد بن أبي سفيان الأموي القرشي، كان أخاً لمعاوية بن أبي سفيان، أسلم يوم فتح مكة وشارك في غزوة حنين. عيّنه عمر بن الخطاب والياً على فلسطين ودمشق.
[13]. ابن أبي سفيان الذي أسلم يوم فتح مكة وكان من الطلقاء.
.[14] من أقرباء عثمان الذين عيّنه والياً للكوفة.
.[15] شرح نهجالبلاغة، ج ۹، ص ۲۹
[16]. غريب، خلافة عثمان بن عفان، ص 105.
.[17] البدایة و النهایة، ج 7، ص 171
[18] . نهجالبلاغه، الخطبة 3
[19]. غريب، خلافة عثمان بن عفان، ص 106-105
[20] .أسد الغابة، ج 3، ص 490
[21]. الکامل، ج 3، ص 172
[22] . نهج البلاغة، الخطبة 15
[23]. وقعة صفین، ص 545
.[24] انساب الاشراف، ج 2، ص 359
[25]. تاریخ الطبري، جلد 5، صفحه 92-80
[26] . اخبار الطوال، ص 210
[27] سجيس الليالي: كناية عن الأبد، أي مدى الليالي
[28]زوافر: جمع زافرة، وزافرة الرجل: أنصاره وعشيرته.
[29] نهج البلاغة، الخطبة 34
[30] نهج البلاغة، الخطبة 39
[31] نهج البلاغة، الخطبة 96
[32] من الخوارج