جذور الانحراف عند بني إسرائيل – الفرق بين اليهود و بني إسرائيل
يُعَدّ بنو إسرائيل من أكثر الأقوام التي تناولها القرآن الكريم بالذكر والتفصيل. فمع أنّ أتباع النبي موسى عليه السلام يُعرَفون اليوم باسم “اليهود”، إلا أنّ القرآن أطلق عليهم في مراحل مختلفة تسميتين: بني إسرائيل و اليهود. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل الفرق بين هذين الاسمين مجرّد اختلاف لفظي؟ أم أنّ الله سبحانه وتعالى خصّ كلّ واحد منهما بصفات وملامح متميّزة؟ وهل يظلّ هذا الفرق محصورًا في زمن مضى، أم أنّ أثره ممتدّ إلى يومنا هذا؟ ثم إلى أيّ الفريقين ينسب اليهود المعاصرون أنفسهم؟
إنّ جذور هذا الاختلاف لا يمكن فهمها إلا بالعودة إلى تاريخ بني إسرائيل وتقلباتهم عبر العصور. فـ بنو إسرائيل كانوا في البداية قومًا يتبعون نبيّهم موسى عليه السلام؛ يثابون على طاعتهم ويعاقَبون على معاصيهم، بحسب ميزان الشرف والزلل. غير أنّهم ابتعدوا في مرحلة ما عن رسالتهم، فانحرفوا نحو الدنيا وزينتها، وتمرّدوا على أنبيائهم، واتخذوا أهدافًا جديدة لا تنسجم مع التعاليم الإلهية.
هذه الأهداف الفاسدة استدعت تجاوز حدود الله، بل بلغت بهم الجرأة إلى قتل أنبياء الله. ومن رحم هذا الانحراف تولّد تيار خطير وصفه القرآن باسم اليهود. ومن الطبيعي أن لا يشمل هذا الوصف أولئك المؤمنين المخلصين من أتباع موسى عليه السلام، في الماضي أو الحاضر، الذين ظلّوا على صلتهم بالوحي ولم يشاركوا في تلك الانحرافات؛ فهؤلاء يدخلون في إطار “أهل الكتاب”، ولهم ما لهم من احترام وحقوق.
من هنا، يأتي هدف هذا البحث: تسليط الضوء على الفرق بين اليهود و بني إسرائيل، وبيان الخصائص التاريخية والسلوكية التي مهّدت لظهور هذا الفارق، وذلك عبر استعراض المسار التاريخي لهذا القوم وكيفية تشكّل هويته وممارساته عبر الزمن.
لمحة تاريخية عن بني إسرائيل
إنّ أسباط بني إسرائيل هم في الأصل أبناء النبي يعقوب عليه السلام، وهم من نسل النبي إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام. وقد دخلوا أرض كنعان – وهي فلسطين اليوم – ببركة هجرة جدّهم إبراهيم عليه السلام إليها. وكان هذا القوم في بداياته يتكوّن من أبناء يعقوب وأُسرهم، ثم دفعهم الجفاف والمجاعة التي أصابت كنعان إلى الهجرة نحو مصر، وذلك في عهد النبي يوسف عليه السلام.
وفي زمن حكم يوسف عليه السلام، اكتسب بنو إسرائيل مكانة مرموقة لما كانوا يحملونه من نسبٍ نبويّ والتزام ديني، فحظوا بالاحترام والكرامة. لكن بعد وفاة يوسف عليه السلام، تهاونوا في وصاياه التي أوصاهم بها، سواء في الحفاظ على هويتهم الدينية، أو في الإكثار من نسلهم، أو في التهيؤ لليوم الموعود بظهور المنجي الذي يقيم دين الله. ومع مرور الوقت، فقدوا مكانتهم شيئًا فشيئًا، حتى استباحهم الفراعنة واستضعفوهم.
إنّ الأسباط والقبائل الاثني عشر من بني إسرائيل في زمن النبيّ يوسف عليه السلام كانوا جماعةً متديّنة، موحَّدة، مترابطة فيما بينها. وكان مطلب يوسف عليه السلام منهم أن يحافظوا – لا على هويّتهم الدينيّة وكرامتهم الإيمانيّة فحسب – وسط مجتمعٍ مصريّ غارقٍ في الشرك، بل أن يزدادوا عدداً وينموا قوّةً حتى يتحوّلوا إلى طاقة كبرى في مواجهة سلطان فرعون، علّهم بذلك يمهّدون الطريق للقيام بمسؤوليّتهم التاريخيّة في نصرة دين الله وإعلاء كلمته عند بعثة النبيّ الموعود.
غير أنّ الأوضاع، بعد وفاة يوسف عليه السلام، جرت على نحوٍ مغاير. فقد شنّ الفراعنة غزواً ثقافيّاً خطيراً على الهويّة الدينيّة لبني إسرائيل، وفي المقابل لم يبدِ بنو إسرائيل العناية الكافية بوصايا يوسف عليه السلام. فلم تثمر غاياته السامية، بل انقلب الحال حتى أُذلّ بنو إسرائيل وأُضعفوا، فأخضعهم الفراعنة للاستعباد، وحوّلوهم إلى قومٍ محقَّرٍ، عاجزٍ عن النموّ والتكامل. ولا شكّ أنّ تلك العبوديّة المذلّة وما رافقها من امتهانٍ، لعبت دوراً أساسيّاً في نشوء بعض الصفات والسلوكيّات السلبيّة التي ظهرت لاحقاً في بني إسرائيل.
بعد ظهور منجي بني إسرائيل
ظلّت أوضاع بني إسرائيل على حالها قرابة أربعمئة عام بعد عهد النبيّ يوسف عليه السلام، إلى أن بزغ فجر المنجي الموعود لهم، النبيّ موسى عليه السلام. فلم تكن مهمّة موسى عليه السلام مقتصرة على مواجهة فرعون فحسب، بل كان يحمل أيضاً عبء إنقاذ بني إسرائيل من قبضته، وتنظيم صفوفهم، وجمع شتاتهم. وكان يسعى إلى إعادة ما سُلب منهم من إرادةٍ وشجاعة تحت سلطان فرعون، وتقوية إيمانهم، وتطهيرهم من الأدران التي لحقت بهم جرّاء عيشهم الطويل بين المشركين. إذ لم يكن من سبيلٍ لتوحيد بني إسرائيل – وقد صاروا جماعاتٍ متفرّقة، مهزومة، فاقدة للاستقلال، ملوَّثة، ضعيفة الحيلة – إلا بهذا الإصلاح الروحيّ والإيمانيّ، تمهيداً لتهيئتهم لتأسيس حكومةٍ إلهيّة في الأرض المقدّسة تحت راية موسى عليه السلام.
ومن هنا استثمر موسى عليه السلام مدّة تقارب الأربعين عاماً في مواجهة فرعون. فاتّخذ جملةً من التدابير الحكيمة: فأمر بني إسرائيل أن يُميّزوا بيوتهم عن بيوت الفراعنة، وأن يقيموا مساكنهم متجاورة متساندة، ليخرجوا تدريجاً من تحت وطأة سيطرة فرعون. كما دعاهم إلى الصلاة، فغرس في قلوبهم الثقة بالله، وجدّد في نفوسهم قوّة الاعتماد على ربّهم، ليكون ذلك أساس خروجهم من مصر وتحقيق خطّة الله تعالى.
وكغيرهم من الأقوام، مرّ بنو إسرائيل في زمن النبي موسى عليه السلام بمحطات قوة وضعف، فأثنى الله عليهم حين أحسنوا، وعاتبهم حين قصروا أو تراجعوا.
تحوّل مسار القوم المختار
مع أنّ بني إسرائيل كانوا قوماً اختارهم الله – لما فيهم من خصائص واستعدادات – لإقامة حُكمه في الأرض، وأغدق عليهم نعمَه الفريدة وأيّدهم بالآيات والمعجزات الباهرة، إلّا أنّ مواقفهم إزاء تلك النِّعم والابتلاءات الإلهيّة أخذت تسير بهم في طريقٍ مغاير، حتى ابتعدوا تدريجاً عن مقصدهم الإلهيّ.
لقد بدأ انحرافهم، وبرز الفرق بين اليهود و بني إسرائيل، بعد خروجهم من مصر، في مرحلة التعليم والإعداد للقوّة. فما داموا منقادين لأوامر موسى عليه السلام، ملتزمين بما جاء به، ظلّوا موضع تأييد الله ورعايته. لكن ما إن تمرّدوا على وليّهم – موسى عليه السلام – وضعف إيمانهم، وأقبلوا على العقائد الباطلة، حتّى استحقّوا اللوم والعقاب بسبب أعمالهم. وهكذا لم يكن بقاء هذا القوم مختاراً إلا مشروطاً بإيمانهم وتصديقهم للأنبياء الذين جاؤوا بعد موسى عليه السلام.
وبصريح القرآن، فإنّ اليهود هم الذين زعموا أنّ بلوغهم السيادة العالميّة يمكن أن يتمّ بغير الطريق الإلهي، وأنّ يد الله “مغلولة” عن التصرّف في شؤون الكون. هؤلاء اعتقدوا أنّ الله قد وهب الحكم في الدنيا لليهود وحدهم، فلا مكان لمخالفيهم، أمّا الموافقون لهم فعليهم أن يخضعوا لخدمتهم. ومن هنا يمكن القول: إنّ اليهود الذين وصفهم القرآن يحملون فكراً يوازي فكر التيّار الصهيوني المعاصر.
وعليه، فمع أنّ القرآن لم يضع حدوداً لفظيّة صارمة بين اسمي اليهود و بني إسرائيل، إلا أنّ استقراء المسيرة التاريخيّة وقراءة مضامين الآيات تبيّن أنّ بني إسرائيل، بعد أن وقعوا في انحراف العقيدة، وعبادة الأوثان، وشرب الخمر، وغير ذلك من المزالق، تحوّلوا إلى يهود، وبذلك تشكّلت الفاصلة بين الاسمين.
عوامل انحطاط بني إسرائيل
لم يُصدر القرآن حكماً قاطعاً يُدين فيه نسل اليهود برمّته، بل وجّه خطابه إلى الأفعال السيّئة والممارسات المنحرفة التي ظهرت فيهم، كما أثنى في مواضع أخرى على طائفةٍ من بني إسرائيل لم تنضمّ إلى الأكثرية الفاسدة، بل سلّمت للحق وآمنت بالله. وقد عرض القرآن سماتٍ متعدّدة لهذا القوم؛ بعضها ارتبط بفترة رسالة موسى عليه السلام، وبعضها الآخر كان أرضيةً لانحرافاتهم اللاحقة والفصل بين مفهوم اليهود وبني إسرائيل. وفيما يلي أبرز هذه العوامل:
الميل إلى عبادة الأصنام وعبادة العجل
على الرغم من الجهود المضنية التي بذلها موسى عليه السلام لتثالصفحة الرئيسية التوحيد في قومه، يشير القرآن في الآية (138) من سورة الأعراف إلى لحظةٍ عبر فيها بنو إسرائيل البحر، فرأوا قوماً عاكفين على عبادة أصنام، فسارعوا إلى مطالبة نبيّهم أن يجعل لهم إلهاً كهؤلاء. وزاد الأمر سوءاً حين تأخّر موسى عليه السلام عنهم في عودته من طور سيناء، فانقلب أكثرهم – وهم الذين كانوا يبدون التوحيد ظاهراً – إلى عبادة عجلٍ من ذهب، فاجتمعوا حوله واتّخذوه معبوداً، ليهدموا بذلك جهد نبيّهم الممتدّ أربعين عاماً في غرس التوحيد وإعدادهم لحكومة الله.
حبّ التنويع والتطلّع إلى الكماليّات
مع أنّ بني إسرائيل كانوا – بعد خروجهم من مصر – يتنعّمون بما أنزل الله عليهم من رزقٍ سماويّ: المَنّ والسلوى، إلّا أنّهم لم يرضوا بما أُعطوا، وألحّوا على موسى عليه السلام أن يوفّر لهم ألواناً أخرى من النِّعَم لا ضرورة لها في حياتهم. هذه النزعة إلى التنويع والتكديس أرهقتهم اقتصاديّاً، فدفعتهم إلى الاستدانة، لتُعيدهم بذلك إلى قيود العبوديّة بصورة أخرى. ولم يتوقف أثر هذا الميل عند ذلك الحدّ؛ بل إنّ التجربة التاريخية جعلت اليهود لاحقًا يستغلون فكرة التنوع والتفنّن في المظاهر والتجملات كوسيلة لإضعاف خصومهم، وتحويلها إلى أداة لتحقيق مصالح المشروع الصهيوني.
التساؤلات العبثية والجدالات المتكررة
من السمات الأخرى التي ذمّها القرآن في بني إسرائيل انشغالهم بأسئلة لا جدوى منها، وأساليب من المماطلة لا تزيد القضايا إلا تعقيدًا. ولعلّ أبرز مثال على ذلك ما جاء في سورة البقرة عن قصّة البقرة: فقد تحوّل أمرٌ بسيط إلى قضية معقدة نتيجة اعتراضاتهم وأسئلتهم المتكررة التي لم يكن لها أساس.
وهذا الميل إلى الجدل العقيم لم يبقَ حبيس الماضي، بل تحوّل فيما بعد إلى أداة خطيرة بيد اليهود الصهاينة؛ إذ استثمروه في تضخيم الوقائع وتزييف الحقائق، ليمارسوا ضغوطًا على خصومهم ويشوّشوا وعيهم عبر الإعلام والحرب النفسية.
الترف والانسياق وراء الماديات
لقد كان بنو إسرائيل على موعدٍ مع لحظة تاريخية، بعد عقودٍ من جهاد نبيِّهم موسى عليه السلام، وذلك حين حان وقت دخول الأرض الموعودة. لكنّهم، وبكلّ أسف، أعرضوا عن دعوة نبيِّهم في دخول الأرض المقدّسة ومقاتلة العمالقة، فوقعوا في التيه والضياع. لقد آثروا حياة الراحة والدَّعة على امتثال أمر نبيِّهم، فكان أن عوقبوا بالتيه أربعين عامًا، رغم ما اكتسبوه من مهارات وتجارب بعد خروجهم من مصر.
وتكشف لنا الآية (24) من سورة المائدة عن حقيقة هذا التخاذل، إذ واجهوا نبيّهم بقول غريب: «فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ». في عبارة تحمل قمّة الجرأة على الله ورسوله، وكأنّهم أرادوا النصر بلا تضحية، والميراث بلا جهاد.
إن الميل إلى المادّيات والتعلّق بملذّات الدنيا بين أكثر اليهود أمر يكاد لا يخفى على أحد؛ فقد مهّدت هذه النزعة الأرضيّة لظهور أعمالٍ منحرفة كالرِّبا، الذي ما هو إلّا وسيلة لجمع الأموال وتكديسها، فجعلت حبّ المال والاستغراق في شؤون الدنيا سمتًا بارزًا في حياتهم.
النزعة العنصرية
صحيح أنّ القرآن أشار في بعض الآيات إلى تفضيل بني إسرائيل على سائر الأقوام، فإنّ هذا التفضيل إنما كان في الزمن الذي التزموا فيه بأوامر الله، واهتدوا بهدي موسى عليه السلام، وسعوا لإقامة دين الله في الأرض. أمّا حين تمرّدوا على نبيّهم، وتخلّوا عن طاعته كقائدٍ ووليٍّ لهم، فقد كان ذلك من أبرز أسباب انحرافهم وضلالهم. إذن فقد كان الاصطفاء مرتبطًا بالأداء والالتزام في مرحلة زمنية محدودة، لا بعرقٍ وليس بسلالة.
إنّ تلك المكانة التي نالها بنو إسرائيل في فترةٍ من التاريخ لم تكن امتيازًا عرقيًا ولا تفوّقًا قائمًا على النسب، بل كانت مرتبطةً حصراً بأعمالهم آنذاك وبمدى التزامهم بوصايا أنبيائهم. فالقرآن الكريم يقرّر قاعدة ثابتة لا لبس فيها: التقوى هي معيار التفاضل بين البشر، لا الدم ولا الأصل ولا العِرق.
غير أنّ بني إسرائيل ما إن وقعوا في فخّ العصبية العِرقية وجعلوا من النسب ستارًا لحفظ سلطانهم، حتى انحدروا إلى انحرافات أعمق. فالتشبّث بسلطةٍ تُبنى على غير الله لا يقود إلا إلى مزيدٍ من الضلال، إذ إنّ التعلق بقوةٍ غير الله يُمهّد للوقوع في مهاوي الضلال، كالكذب والافتراء، وعبادة الأوثان، وإشغال الناس بوسائل الإفساد من خمرٍ، وشهوةٍ، وعبادةٍ للمال.
روح التمرّد والعصيان
أحد أبرز السمات التي يذكرها القرآن عن بني إسرائيل هي نزعتهم إلى العصيان ورفض الانقياد. ففي مواضع عديدة، منها الآية (93) من سورة البقرة – يشير الوحي إلى أنّهم لم يستجيبوا إلا عندما أحسّوا أنّ حياتهم في خطر داهم. أمّا في غير ذلك فقد طبعهم الجحود والمخالفة.
ويزيد القرآن الأمر وضوحًا في الآية (70) من سورة المائدة، حيث يصف موقفهم من الأنبياء: “كلّما جاءهم رسولٌ بما لا تهوى أنفسهم فريقًا كذّبوا وفريقًا يقتلون”.
الخداع والتحريف
من أبرز مظاهر الانحراف التي عاتبهم الله عليها مسألة التحريف المتعمّد لكلامه. فقد ذكر القرآن أنّهم كانوا يكتبون بأيديهم نصوصًا ويزعمون أنّها من عند الله، ليشتروا بها ثمنًا زهيدًا من متاع الدنيا.
وقد شمل هذا التحريف قضايا أساسية مثل: أحكام القتل والقصاص، والقصص المتعلّقة بالأنبياء، كقصة يعقوب عليه السلام، وما تعلّق بداود وسليمان عليهما السلام. وبهذا ارتكبوا جريمة مزدوجة: تحريف الوحي، وخداع الناس باسم الدين.
نقض العهود
لقد أثبت بنو إسرائيل مرارًا غدرهم ونقضهم للعهد في ما عقدوه من مواثيق مع المسلمين. ومن أوضح الأمثلة على ذلك خيانةُ بني النضير وبني قريظة، بعد أن تعهّدوا بألّا يتعاونوا مع المشركين ولا يتآمروا ضدّ المسلمين، فإذا بهم ينقضون ما التزموا به.
ولم يقف نقض العهود عند هذا الحدّ؛ إذ تجاوزوا ذلك إلى نقضهم لعهدهم مع الله نفسه، فلم يثبتوا على التزاماتهم تجاه دينه، بل سعوا جاهدين إلى كتمان الحقائق الإلهيّة. بل إنّهم، بعدما أدركوا صدق آيات الله، عمدوا إلى تحريفها وتبديلها. واستمرّ عنادهم حتى بلغ بهم الأمر أن يصرّحوا علنًا بقولهم: “سمعنا وعصينا”، استهزاءً بأوامر الله وتحدّيًا لرسوله.
في هذا المقال وقفنا على الفرق بين اليهود و بني إسرائيل. وتبيّن لنا أنّ بني إسرائيل كانوا قومًا مصطفَين ما داموا مؤمنين، متمسّكين بأوامر الله، خاضعين لطاعة أنبيائهم وقادتهم. غير أنّهم، منذ اللحظة التي غفلوا فيها عن المبادئ الإلهية، وتخلّوا عن أوامر قائدهم السماوي، انحدروا في مهاوي الضعف والانحطاط، وفقدوا مكانتهم المرموقة. ومن بين صفوفهم برز مَن شكّل الفاصل الحقيقي بين مفهوم بني إسرائيل ومفهوم اليهود، ليكونوا شاهدًا على أثر الانحراف والابتعاد عن طاعة الله في تبديل الهوية والمصير.
إنّ اليهود الذين يتحدث عنهم القرآن ليسوا أولئك الذين تبعوا موسى عليه السلام بإخلاص، بل هم التيار المنحرف الذي شابه ـ في فكره وممارساته ـ ما نعرفه اليوم باسم الصهيونية: فكر يقوم على التحريف، والاستكبار، ونقض العهود، وتوظيف الدين أداةً للهيمنة والسيطرة.
في الحقيقة يمكن القول إنّ اليهود الذين يتحدّث عنهم القرآن الكريم، لا اليهود الذين وُصفوا بأنّهم أتباع موسى عليه السلام، هم قوم يختلف وصفهم؛ إذ يُراد بهم ذلك التيّار الفكري والعملي الذي يلتقي في سماته مع ما نسمّيه اليوم بالتيّار الصهيوني، حيث تتجلّى أوجه شبه كثيرة بينهما في العقيدة والسلوك والمنهج.