دراسة قواعد العلاقة بين الإنسان والخلق
منذ اللحظة التي نرى فيها النور ونفتح أعيننا، يبدأ تفاعلنا مع العالم من حولنا وتتوالد في دواخلنا تساؤلاتٌ عميقةٌ حول طبيعة وجودنا وموقعنا في هذا الوجود العظيم. فمن نحن؟ وما هي صلتنا بهذا العالم وما يزخر به من كائنات؟ أسئلةٌ إذا تم الرد عليها بشكل صحيح، نصل تلقائيًا إلى إجابة العديد من الأسئلة الأخرى التي تشغل أذهاننا.
الإجابة على هذا السؤال الجوهريّ ليست بسيطةً، ولا ننوي في هذا المقال الخوض في تفاصيلها العميقة. فلكي ندرك عظمة دورنا في هذا الكون الفسيح، يكفي أن نعلم أنّنا كبشرٍ نُمثّل أرقى درجات الخلقِ تعقيدًا ولهذا المخلوق المعقد مكانةٌ فريدةٌ في هذا النظام الوجوديّ، تميّزه عن سائر الكائنات. ونهدفُ في هذا المقال إلى تمهيد الطريق للإجابة على السؤال المذكور، وذلك من خلال التطرّق إلى بعض خصائص العالم الذي نعيش فيه، ودراسة العلاقة الوثيقة التي تربط الإنسان بالخليقة والكون. كما أننا سنُخصص مقالاتٍ لاحقةً للبحث المُتعمّق في ماهيةِ الإنسان، وتحديد احتياجاته، ورسم مسار تقدّمه، والكشفِ عن الغايات المنشودة له، والمستقبل الذي ينتظره.
يُقرّر القرآن الكريم أن الإنسان هو محور الخلق، وبعبارة أخرى إنّ جميع الموجودات والنظام الذي نراه من حولنا، أو حتى ما يخفى عن أعيننا ونفتقر إلى معرفته، قد خُلق كله لأجلنا ولخدمة وجودنا. فالأرض، التي نُطلق عليها اسم أقدم موجود في الوجود، والتي نُعدّها أول مخلوقٍ لله في العالم المادي، وأساسًا ومركزًا لخلق السماوات، وكلّ ما عليها، خُلق من أجلنا. لا شكّ ولا ريب أنّ الله تعالى قد وضع في وجودنا شيئًا خلق لأجله كلّ الموجودات.
من الواضح أننا سنظلّ في حالة من الحيرة والغموض العميق حتى نأخذ بعين الاعتبار مركزية الإنسان ونجعلها أساسًا لتفسير العالم من حولنا والعلاقة التي تربطنا به. فعندما نتجاهل هذه المركزية، نكون كمن يلغي الخيط الذي يربط جميع هذه المخلوقات والعلاقات ببعضها البعض، ونُصبح في مواجهة كم هائل من البيانات والعلاقات أو المخلوقات، لكلّ منها خصائص فريدة ونادراً ما نجد نقاط اشتراك واضحة بينها. بينما في الواقع، تتشارك جميع هذه المخلوقات في كونها خُلقت لأجلنا وأنّ وجودها متناغم مع وجودنا، بل قد تكون مكملة لبعضها البعض في هذا المسار.
المقادير في عالم الكون
نحن نعيش في عالم يعتبره الله تعالى بوصفه خالق كل الموجودات وربّهم، عالمًا رياضيًا تمامًا في القرآن الكريم الذي هو تجلي ظهوره الكلامي. إن الله تعالى يؤكد على أنه لا يوجد خلق أو تجلٍ أو خلق لا يتوافق مع المقدار والكمّ ولا يخضع لمبدأ رياضي. كل شيء في الكون قائم على العدد والمقدار، ولا يوجد أي شيء إلا في إطار بنية رياضية.
من أصغر ذرات هذا الكون، على مستوى الإلكترونات والنيوترونات والكواركات، إلى قواعد التفاعلات الكونية المعقدة، فإن كل شيء يخضع لسيطرة الكمية والمقدار، ولا يمكننا أبدًا العثور على شيء غير رياضي في الكون بأكمله. وبالطبع، لا تقتصر هذه القواعد الرياضية وسيطرة المقادير على العالم الفيزيكي والمادي فقط، بل تشمل أيضًا مراحل الخلق والعالم الميتافيزيقي وحتى وجودنا ذاته. هذا يعني أن وجودنا، سواء كنا على دراية بذلك أم لا، يخضع لبنية رياضية ويرتبط بالبنية الرياضية لعالم الخلق. حتى تحديد هذه القدرات والمقادير له قاعدة وقانون خاصين به ووقته الخاص. إن أقدار جميع الذرات والظواهر ومخلوقات الله، تُحدد تحديداً في ليلة القدر، أي ليلة المقادير. ليلة القدر هي أهم ليلة في السنة حيث أنها الليلة التي يتم فيها تحديد وقياس رياضيات كل شيء ومقادير نظام الخلق لمدة عام كامل.
العلم؛ كل متكامل موحد
فهمنا حتى الآن أن الإنسان هو المحور الرئيسي في الخلق، وأن وجوده يتبع نظامًا رياضيًا محددًا. بدأ الله تعالى بتحديد البنية الرياضية لوجودنا وحدودها، ثم نظم الخلق بناءً على هذه البنية واحتياجاتها وخصائصها. وبناءً على ذلك، فإن كل ما هو موجود على الأرض، أو بمعنى آخر، كل العلوم التي تعاملنا معها منذ بداية التاريخ و تعلمناها، ترتبط بشكل أساسي بوجودنا. يكمن جوهر كل العلوم البشرية في الموضوع الذي خُلق ذلك العلم من أجله، ولذا يمكننا القول إنه لا يمكن لجميع العلوم أن تحقق مكانتها الحقيقية وأهميتها إلا عندما تدرك علاقة الإنسان بالخلق وتضع الإنسان في محور هذه العلاقة.
في الواقع فإن نقطة انطلاق أخطائنا هي النظرة المستقلة إلى العلم، أي إذا نظرنا إلى مجالنا في أي فرع من فروع العلوم بشكل مستقل ودون صلة بموضوعات أخرى، وبالطبع الإنسان نفسه، فإننا لن نواجه صعوبة في فهم العلاقة بين الإنسان والخلق فحسب، بل سيحد ذلك من نموّنا وتقدمنا. بينما إذا نظرنا إلى موضوع أي علم في اطلر بنية رياضية منظمة ومنسجمة وهادفة ومرتبطة ببقية البنى الرياضية في العالم، فسوف ننجح في إنتاج للعلم بلا حدود. بمعنى آخر، إننا نصل إلى قفزة في نوعية مجال العلم والمعرفة عندما نتعرف على بنيتنا الرياضية بشكل صحيح أولا، وفي المرحلة التالية، سنكون قادرين على تنظيم وتكييف بنية مختلف العلوم مع بنيتنا الرياضية.
لفهم هذه المسألة بشكل أفضل، تخيلوا مدرسة. كل الأفراد والمرافق والمعدات الموجودة في هذه المدرسة، من المدير والمعلمين إلى المبنى والفصول الدراسية والسبورة والمختبر وما إلى ذلك، كلها موجودة في هذا المكان لسبب واحد فقط: إيصال الطالب إلى الهدف المحدد له. لنفترض الآن أننا أزلنا وجود الطالب من الصورة. مع إزالة الطالب كمحور رئيسي ونقطة اتصال لعناصر هذه المجموعة، ستتحول هذه المنظومة المنظمة بأكملها بالتأكيد إلى مجموعة بلا هدف ولا نهاية لها. وبالمثل، فإن كل شيء في هذا الكون مرتبط بوجودنا من خلال بنية رياضية تشكل العلاقة بين الإنسان والخلق.
ترتبط جميع فروع العلوم ببعضها البعض من خلال محور مشترك وهو الإنسان؛ فعندما نرتب هذه الفروع وفقًا لهذا الرابط المنطقي، سنتمكن من الوصول إلى هيكل معرفي واحد. إننا لن نصل إلى المعرفة الصحيحة إلا عندما ننظر إلى نظام الخلق بأكمله من “هو” إلى “الله” ومن “الله” إلى “المادة”، بشكل متكامل ووحدوي. أما إذا لم نفعل ذلك، فستظل معرفتنا قاصرة على جزئيات محددة، كمعرفة الفيل في الظلام في المثنوي المعنوي لجلال الدين الرومي، وسيغرق كلّ علم في حدوده الخاصة دون الوصول إلى جوهر السعادة. باختصار، قد يؤدي علمنا إلى راحة مؤقتة، لكنه لن يجلب لنا السلام الحقيقي.
إنّ التركيز على المعرفة والعلم دون الأخذ بعين الاعتبار النظام الرياضي والمحور المشترك الذي يربط جميع العلوم، قد يُحقق لنا تقدّمًا وراحةً نسبيّة، لكنّه في النهاية سيُقلّل من شعورنا بالسكينة. ففي حين قد وصل العلم إلى أعلى مستوياته حاليًا، إلّا أن البشرية تشهد أسوأ وأحلك أوضاعها. فهذا الحجم الهائل من القتل والحروب والطلاق وتعاطي المخدرات والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية هو نتاجُ تقدّمنا الأحاديّ البعد في كلّ فرعٍ من فروع العلوم. تقدّمٌ حدث دون اتّخاذ اتّجاهٍ صحيحٍ ودون تحديد هدفٍ منظّم، وهو نتيجة عدم فهمنا لعلاقة الإنسان بالخلق.
الفرق بين العلم والمعرفة
إنّ فهم العلاقة بين الإنسان والخلق، لا يقتصر على كونه مصدرًا للسعادة الأبدية فحسب، بل يُسهم أيضًا في تحقيق السلام النفسي الدنيوي. إلا أن أحد الأسباب الأخرى لفقدان السلام النفسي، يكمن في خطئنا في التعامل مع مفهومي العلم والمعرفة. ففي العادة، لا نميز بين العلم والمعرفة أو نتوقع أن يمنحنا اكتساب العلم صفات اكتساب المعرفة. بينما يختلف العلم والمعرفة في الواقع اختلافًا كبيرًا، وسنذكر في ما يلي بعض الأمثلة على هذه الاختلافات:
- العلم یعني المعلومات المكتسبة، بينما المعرفة تعني فهم هذه المعلومات والقدرة على استخدامها بشكل صحيح. العلم قابل للتعلم، بينما المعرفة قابلة للاكتساب. كما أن ازدياد مستوى العلم لا يرتبط دائمًا بزيادة المعرفة.
- مكانة العلم في عقلنا، ونستطيع تنمية عقولنا وذكاءنا من خلال القراءة والدراسة، أو الذهاب إلى الجامعة، أو بشكل عام من خلال زيادة معلوماتنا. أما مكانة المعرفة فهي في قلوبنا، وعندما نحول معرفتنا إلى ثروة حقيقية، نصل إلى قوة في قلوبنا تُسمى المعرفة.
- العلم هو أمر عام ونظري ينطبق على أمور مختلفة، بينما المعرفة هي أمر جزئي وفردي، وهي معيار شخصيتنا وإنسانيتنا. في الواقع، تعتمد قيمة كل منا في الدنيا وفي نظام الآخرة الأبدي على مقدار المعرفة التي نمتلكها.
- العلم سلاح ذو حدّين، فهو يُمثّل نورًا وكمالًا يُؤدّي إلى اكتساب المعرفة إذا استخدمناه بشكلٍ صحيح وقد يُصبح حجابًا أكبر وأشد من أي حجاب آخر. لذلك، للعلم وجهان متناقضان؛ فهو مقدس من جهةٍ ومدمّر من جهة أخرى. معنى ذلك أنّ ارتفاع مستوانا العلميّ لا يُضمن بالضرورة سعادتنا، بينما تُؤدّي المعرفة دائمًا إلى سعادتنا وخيرنا.
- يُمثّل العلم بوابةً لفهم العالم واكتساب المعرفة، لكنّه لا يُساوي بالضرورة القدرة على تطبيقه واستخدامه. فكثيرًا ما نجد أشخاصًا ذوي شهاداتٍ علميةٍ عالية، أو معرفةٍ نظريةٍ واسعةٍ بمجالٍ ما، لكنّهم يواجهون صعوبةً في استخدام علمهم. بينما المعرفة تشير إلى الصيرورة وخلق القدرة والثروة الحقيقية.
ففي الحقيقة، لا نصل إلى السعادة إلا عندما نُنمّي معرفتنا في دواخلنا ونُقرّب أنفسنا من معايير السعادة والرضا؛ فعلى الرغم من أنّ ارتفاع مستوى المعلومات قد يُؤدّي إلى زيادة الراحة، إلّا أنّه لا يُؤثّر بالضرورة على مستوى السعادة الذي يتمتّع به الإنسان.
تناولنا في هذا المقال موضوع العلاقة بين الإنسان والخلق، وقدمنا مقدمات لفهم هذه العلاقة. فقد أشرنا إلى أنّ الله سبحانه وتعالى قد بنى خلقه على أسسٍ رياضيةٍ دقيقةٍ، وأنّه نظّم الكون بأسره حول الإنسان وعلى أساس بنيته الرياضية.
فهم هذه العلاقة بين الإنسان والخلق لا يُمكّننا فقط من إدراك ارتباطنا بالعلوم المختلفة، بل يُمكّننا أيضًا من استخدامها في سبيل تحقيق السعادة والسكينة. لكنّ الوصول إلى السعادة لا يقتصر على فهم هذه العلاقة فقط، بل يتطلّبُ أيضًا معرفةً قلبيةً عميقة.