تعريف مراتب وجود الإنسان ووظيفة كل منها
إنّ أهم المعارف التي يحتاج إليها الإنسان في حياته وأنفعها هي معرفة النفس. یسعی جميع البشر دون استثناء إلى السعادة والسرور والسلام والكمال بشكلٍ لا نهائيٍّ في المدّة والكمّ. لكنْ لا يصل إلى السعادة الحقيقية الدائمة إلّا مَن بلغ معرفة النفس. يعتمد مستوى السرور والسلام والسعادة الحقيقية لكل شخص على مدى معرفته بذاته الحقيقية وعمله بمقتضى سعادته الحقيقية. بعبارةٍ أخرى، كلّما كانت معرفةُ الذات أدقّ وأعمق، كانت السعادة أكبر وأكثر دومًا.
ومع ذلك، فإن مفهوم معرفة النفس الحقيقية يختلف عن التعاريف السطحية الموجودة في المواقع والكتب والمجلات المعاصرة. إنه يتجاوز مجرد فهم الميول الجينية والخصائص العاطفية والأخلاقية. فهو يشمل فهمًا عميقًا يشمل مختلف جوانب وأبعاد ومستويات الوجود الإنساني، ومكانته في نظام الوجود والهدف الذي خُلق من أجله. هنا، لا يشير مصطلح “الهدف” إلى الطموحات الدنيوية مثل اكتساب المعرفة، أو النجاح، أو الثروة، أو حتى خدمة الإيثار للآخرين. فهذه الأهداف وعلى الرغم من أنها التطلعات تحمل أهمية بالتأكيد، إلا أنها ليست سوى أجزاء من هدف أسمى بكثير سنتطرق إليه لاحقاً.
في هذا المقال نقدم تعريفاً لأبعاد ومراتب وجود الإنسان كجزء مهم من علم معرفة النفس. إنّ معرفة مراتب وجود الإنسان هي الخطوة الأولى في المسير نحو الكمال والسعادة والسلام، والتي تمكننا من تمييز الاحتياجات الحقيقية عن الاحتياجات الزائفة في وجودنا. من خلال تمييز مراتب وجود الإنسان عن بعضها البعض، يظهر الكمال الحقيقي للبشر فنرشد جهودنا في الحياة إلى الاتجاه الصحيح للوصول إلى السعادة والسلام الدائم والأبدي.
معرفة مراتب وجود الإنسان
بصفة عامة فإن أبعاد أو مراتب وجود الإنسان اثنان: المرتبة المادية أو الجسم، والمرتبة غير المادية أو الروح، والتي يُطلق عليها أيضاً النفس أو القلب. الروح هي التي تشكل حقيقة وجودنا وأعمالنا وسلوكياتنا ونوايانا، وليس الجسم. الجسم كائن بلا حياة تماما كالحجر والخشب، لا يستطيع الأداء بعمل لحظة انفصال الروح عنه عند الموت. لذا يمكننا القول بأن الجسم مرتبة من الروح أيضاً والذي بسبب تشابهه مع الجمادات، يُصَنّف في مرتبة الجماد. تتضمن باقي مراتب وجود الإنسان بالترتيب: المرتبة النباتية، والمرتبة الحيوانية، والمرتبة العقلية أو الملائكية والمرتبة الإنسانية أو الأنا الحقيقي.
المرتبة الجمادية
يميل الإنسان في المرتبة الجمادية إلى الجمادات ويعتبرها أساساً ومعياراً للعزة والشرف والنجاح لنفسه وللآخرين. تشمل المرتبة الجمادية حب المساكن، والسيارات، والهواتف المحمولة، والمجوهرات وكل ما يتعلق بالأشياء. في هذه المرتبة تعتمد القرارات، والاختيارات، والعلاقات، والترتيبات الفكرية، وحتى الحب والكراهية للفرد على القيم والكمالات الجمادية، فهم يقيسون معايير نجاحهم وسعادتهم والآخرين بناءً على موديل السيارة، ومساحة البيت وأمور مشابهة، ويعتبرون أنفسهم ناجحين فقط إذا كانوا يتمتعون بهذه الكمالات.
ليست الكمالات الجمادية سيئة بالطبع، بل هي ذات قيمة وفائدة في مكانها، ولكن من منظور رياضيات الخلق فإن قيمة وثمن هذه الكمالات تعادل الجمادات ولا تعتبر من كمالات الإنسان.
المرتبة النباتية
الفئة الثانية من الكمالات التي تتمتع بقوة وشرف ونورانية أعلى، تُعرف بالكمالات النباتية. تتميز الكمالات النباتية بالنمو والتغذية والتكاثر والقوة البدنية وجمال الشكل والأطراف وما إلى ذلك، وبعبارة أخرى الخصائص التي تمتلكها النباتات. الجمال بشكل عام يُصنف ضمن الكمالات الجمادية، لكن عندما يتحد مع اللطافة فإنه غالباً يُعتبر ضمن الكمالات النباتية، مثل الزهور الطبيعية.
يُقيّم الأشخاص في الجانب النباتي بناءً على القوة البدنية ومعدل الإنجاب والتكاثر والمتع المتعلقة بالطعم والنكهة والموائد الملونة وما شابه. بعبارة أخرى، كلما كان الشخص أكثر تمتعاً بهذه الكمالات، يعتبر نفسه أعلى وأثمن من الآخرين. تضعنا المرتبة النباتية في نفس مستوى النباتات، و نُعتبر بسبب امتلاك هذه الخصائص نبات، ولا إنسان.
المرتبة الحيوانية
الفئة الثالثة من مراتب الوجود الإنساني والتي لها نورانية و قيمة وقدسية وقوة، تُعرف بالكمالات الحيوانية. الجنس، والميل للجنس المخالف، والزواج، والحب والعواطف الأرضية، والالتزامات والمسؤوليات الاجتماعية والعائلية والسياسية، وتكوين الحكومة والحياة الاجتماعية، التراتبية الاجتماعية أو المنصب، الحياء والغيرة على الناموس والوفاء والأمانة وما إلى ذلك، كلها تعتبر من الكمالات الحيوانية وجزء من الجانب الحيواني للإنسان. حتى خدمة الآخرين سواء كان انساناً أو غير ذلك، تُعتبر أيضا ضمن الكمالات الحيوانية وليست من الكمالات الإنسانية. وقد تفوق الحيوانات من البشر في هذه الكمالات، لأنها تقدم مساعداتها دون منّة أو انتظار مقابل.
المرتبة العقلية
الفئة الرابعة من مستويات وجود الإنسان تتعلق بالمقام العقلي أو الملائكي للإنسان. الكمالات الملائكية أقوى وأشرف وأنور من الكمالات السابقة. يكون الإنسان في هذه المرتبة معادلاً للملائكة، لأن الملائكة لديهم عقل أيضاً وخُلقوا من العقل الخالص. يسعى مقامنا العقلي إلى اكتساب المعرفة والتحكم في الطبيعة، وهو الدور الذي تتولاه الملائكة في الخلق بالضبط. “المَلَك” في اللغة هو ما يمتلك الملكية والقوة.
يتولى الملائكة جميع الأعمال في النظام الفيزيائي. على سبيل المثال فإن كافة مراحل تكوين الجنين بدءًا من حركة الحيوان المنوي وتكوين وانقسامات الخلايا وتكوين الأعضاء إلى تشكيل جسم كامل ونقله إلى خارج الرحم، وإدارة ما بعد ذلك، كلها من عمل الملائكة. وكذلك نسج وتركيب الفاكهة، وتلوينها وإعطائها طعمًا ورائحة ونكهة، كل ذلك يُنفذ بواسطة الملائكة. تخضع جميع التحولات التي تحدث في النظام الفيزيائي، مثل قانون نيوتن الأول، وقانون الخمول أو القصور الذاتي وغيرها، للقوى الخارقة للطبيعة التي تتولّاها الملائكة، لأن المادة بذاتها لا تمتلك هذه القوى، بل تُدار بواسطة القوى الخارقة للطبيعة.
الإنسان في مجال المعرفة يشبه الملائكة، أي أنه مع اكتساب العلم، يمتلك القوة والتحكم في الطبيعة، تماما مثل الملائكة.
المرتبة ماوراء العقلية أو الإنسانية
نلاحظ أن المراتب الأربعة التي ذكرناها تفتقر إلى أي معيار إنساني مما يجعلها غير كافية لقياس قيمة الإنسان الحقيقية. على سبيل المثال، لا يمكننا القول أن الأغنى أو الأجمل هو أكثر إنسانية؛ أو من لديه مكانة اجتماعية أو شهادة أكاديمية أعلى هو أكثر إنسانية. على الرغم من أن كل هذه الكمالات ذات قيمة، إلا أنها ليست كمالات إنسانية. تتعلق الكمالات الإنسانية بالمستوى الخامس من وجود الإنسان وهو المستوى ماوراء العقلي أو فوق التجريدي. يُطلق عليه ماوراء العقل لأنه مستوى أعلى من العقل ويُطلق عليه فوق التجريد لأنه أعلى من مقام الملائكة الذي هو مقام التجريد.
يتحدى البُعد ماوراء العقلي جميع الأطر والحدود العقلانية ويرفض الخضوع لأي قيود. في الحقيقة فإن جذور طموحنا المتنوعة واللامتناهية في المجالات المختلفة تعود في الأساس إلى هذا البُعد. حيث ترانا نتوق إلى جميع أنواع الكمالات سواء كانت جمالا أو علما أو قوة أو ثروة أو شعبية أو أي سمة مرغوبة أخرى بشكل دائم ولامتناهٍ ولا نرغب في أن يعوقنا أي عامل.
سنناقش في المقال التالي، المزيد من خصائص هذه المرتبة الوجودية، والتي هي المرتبة الأكثر أهمية وأساسية من وجود الإنسان.