تحليل أسباب ضعف الحضارات البشرية و انهيارها على مر التاريخ
لفهم أسباب ضعف الحضارات البشرية وانهيارها، علينا أولاً فهم جوهر الحضارة.[1] فالحضارة مجموعة من المعتقدات والأخلاق والعادات وجميع السمات التي تسود في المجتمع ويكتسبها الإنسان من خلال نشأته في بيئتها. تُعرف الحضارة بأنها مجموعة من القوانين والعلوم والتقنيات التي تنظم الحياة الاجتماعية في المجتمع، وتحدد هوية المجتمع وثقافته وأخلاقياته وديانته. إنها تنظيم متناغم للمعتقدات والهياكل التي يتم تشكيل شخصية الأفراد وهويتهم فيها. يتعاون الأفراد في ظل كل حضارة على تحقيق أهدافهم الروحية والمادية بروح جماعية. تمثل حضارة كل أمة نمط التفكير والنمو الفكري والثقافي السائد فيها.
يبرز سؤال جوهري في تحليل الحضارات المختلفة وهو: هل يمكن لأي حضارة أن تُحقق النجاح الدائم وتُنير دروب السعادة لأفرادها؟
يُعدّ الإنسان أعظم خلق العالم و يزخر بتعقيدات روحية وتحديات كبيرة. إذا لم تدرك الحضارة جوهر الإنسان بشكل صحيح، ولم تُراع مبادئها وأهدافها ومعاييرها وفقًا لاحتياجاته الأساسية، فلن تُفلح في بناء شخصيات سعيدة ومستقرة وحنونة، حتى وإن حُظيت برفاهية فائقة وموارد وافرة.
من بين العوامل الرئيسية التي تُسقط الحضارات وتُضعفها هو قصرها عن فهم الإنسان بدقة وعدم بيان قوانينها وأهدافها على أساس الجانب الجوهري والأكثر تعمقًا في وجود الإنسان، ألا وهو القلب(ما هو ماوراء العقل؟ وما هو الجزء الإنساني من وجودنا وما هو دوره؟)، أو بعبارة أخرى، الجانب الإلهي لروح الإنسان. تدفع هذه الأزمة الحضارات إلى استثمار غالبية وقتهم وجهودهم في تقدم العلوم المختلفة، دون أن يولوا الاهتمام الكافي لعلم الإنسان(مقارنة الأساليب المختلفة لعلم الإنسان، أفضل أسلوب لتحقيق السکینة)، بينما الهدف الأسمى لأي حضارة ليس سوى تحقيق بناء الإنسان.
من دواعي ضعف الحضارات البشرية وانهيارها، هي أنّها قد اعتبرت القوة والتقدم والثقافة علامات فارقة للنجاح ودليلاً على قدرتها على البقاء، بينما دُفنت حقيقة الإنسان وسعادته بين طيات قوانينها وأهدافها الضيقة، لإشباع رفاهيته الجسمانية وأهدافه العابرة ولم تأخذ بعين الاعتبار الحقيقة الإلهية للإنسان. هذا ما جعل أقوى الحضارات على مر التاريخ تختفي تدريجيًا، ولم يصل الإنسان بعد إلى حضارة يمكنها أن توفر له السعادة الحقيقية والسلام الدائم والرحمة المستمرة.
عند البحث عن حضارة تتمتع بنجاح ثقافي حقيقي، تبرز ثلاثة مقاييس أساسية: اللطف، والسكينة، والسرور. هذه العوامل الثلاثة هي دلائل قوية على جودة الحضارة وسلامتها، وهي إذا نجحت حضارة في جعل شعبها لطفاء، سعداء، و مطمئنين فهذا يشير إلى نجاحها الفعّال وقدرتها على تعزيز القيم الإنسانية. تُعدّ هذه القيم الثلاثة التي سعى إليها الناس جميعًا منذ الأزل وحتى الآن، معيارًا لقياس نجاحهم وسعادتهم في الحياة. لقد شاهدنا مرارًا وتكرارًا كيف أن الأثرياء والعلماء والفنانين والرياضيين وغيرهم الكثير من جميع الطبقات الاجتماعية انتهوا بحياتهم بحالة من الانحدار بسبب ضعف في مستوى السرور والسكينة والحب لحياتهم.
للوصول إلى فهمٍ أعمق لما تعاني منه الحضارات البشرية من ضعف وانهيار، لا بدّ من التأمل في نماذج ناجحة من الحضارات العظيمة عبر التاريخ ونتعلم عوامل نجاحها واستقرارها. يُمكننا استشراف نموذجٍ مشرق من الحضارة التي تبرز بسموها ورقيها، في موكب الاربعين في العراق. ففي كل عام، تُجسّد على أرضها تجربة فريدة من نوعها بمدة أسبوعين، تعكس أسمى معاني السعادة والسلام والتعاون بين الأفراد.
سبب تعاسة البشر في معظم الحضارات
تُهمل معظم الحضارات حقيقة جوهرية وهي أنّ الحضارة بمثابة البيت للإنسان. فكما يُربي البيت أفراده ويُوفر لهم الأمان ويُشكل شخصياتهم، كذلك تفعل الحضارة مع أبنائها. لفهم أسباب ضعف الحضارات وسقوطها بشكل أعمق، علينا أن نتأمل في الدور الذي يلعبه البيت في حياتنا. البيت هو المحل التي تنمو فيه العقائد وتتغذى فيه أنواع المشاعر والطاقات لدى الإنسان.
بما أن الحضارة هي بیت الإنسان، يتشكل مصيره بين جدرانها. إذا لم يتم التعرف على احتياجات الإنسان في هذا البیت بشكل صحيح، ولم یتم فهمها بعمق، فلن يتمتع بحياة سعيدة ومستقرة، ولن يُزهر إبداعه وتُبنى شخصيته بشكل سليم.
لنتأمل مثال الغذاء، ذلك العنصر الأساسي للحفاظ على حياة صحية ومتداومة. ماذا لو اقتصرت الأسرة على توفير الملابس الفاخرة والمستلزمات الرفيعة والمشروبات الفاخرة، دون أن تولي الاهتمام الكافي للاحتياجات الغذائية؟ على الرغم من جمال وجاذبية هذه الإمكانات، فإنها لن تغنينا عن الحاجة إلى الغذاء والعناصر الغذائية الضرورية. فبدونها، سنشعر بالضعف وانخفاض مستوى الطاقة، ويبقى مصيرنا غامضاً حيث لا نعرف متى سنظل أحياء!
لننتقل إلى مثال آخر: تخيّلوا والدين يوفران منزلاً متقدماً مع كافة وسائل الراحة وأفضل الأنشطة الترفيهية والظروف التعليمية المتميزة لطفلهما، ولكنهما لا يوليان اهتماماً لاحتياجاته العاطفية والروحية. ماذا سيحدث للطفل، وما هو مصيره؟
يُعدّ إهمال الاحتياجات الأساسية للإنسان من أهم أسباب ضعف الحضارات وسقوطها. فالإنسان هو أكرم الكائنات، وخلق الله له كل ما في السماوات والأرض. إنّه كائن معقد يتألف وجوده من خمسة مستويات ومراتب (میزات الکائنات الذاتیة کیف تقسّمها إلى خمسة أقسام؟). إنه في الحقيقة نموذج مصغر لجميع المخلوقات في الكون، ويتمتع بجميع الامتيازات الأخرى للمخلوقات. ما يُميز الإنسان عن باقي مخلوقات العالم هو ذلك الجانب الخاص والفريد من وجوده المعروف باسم الجانب الإنساني والإلهي، أو ببساطة “القلب”.
تُظهر لنا مسير ضعف الحضارات البشرية وانهیارها حقيقة جوهرية، وهي أن الإنسان في ظل الحضارة التي لا تأخذ بعين الاعتبار حاجته الأساسية في الجانب الإلهي من وجوده، فإنه سوف يظل في حالة عدم الرضا وقد يغرق في حالة مؤقتة وعابرة قد تدمره بأدنى اضطراب، حتى ولو قام بتحقيق نجاح ظاهري.
ضالّة البشر في تصميم الحضارات
تناولنا في سياق سابق أصول وأسباب ضعف الحضارات وانهيارها عبر التاريخ، واتضح أن السبب الجوهري يكمن في أن مبادئ هذه الحضارات لم تتمحور حول شخصية الإنسان الإلهية، بل ركزت معظم أهدافها على تحقيق الرفاهية والراحة المادية والدنيوية، دون الالتفات إلى الروح والقلب.
بالطبع، لا يُمكن إلقاء اللوم على مؤسسي تلك الحضارات فحسب، إذ أنّهم تماما مثل غيرهم من البشر، لا يتمتعون بسلطة كافية أو فهم كامل للحقيقة الإنسانية ولم يدركوا الأهمية الجوهرية لهذه المعرفة، فقاموا ببناء أسس حضاراتهم على أساس آمالهم وتطلعاتهم. كما أنهم كانوا يعتقدون أن الهدف الوحيد ينبغي أن يكون تحقيق رفاهية وتطور الإنسان، حتى ولو كان ذلك على حساب إيذاء الآخرين. ولذلك فإنهم ركزوا على التقدم العلمي و الرفاه والتطور في مجالات الطب والتكنولوجيا وغيرها لمجتمعاتهم.
كلما تقدم الإنسان في العلوم والمعارف دون أن يفهم محورها الرئيسي، فإنه سوف يتحول إلى كائن أكثر فضاعة وبشاعة، وقد تتحول منتجات علومه إلى أدوات دمار، مثل الفيروسات المختبرية والقنابل والحروب المتكررة. إذن لا يكفي العلم وحده لبناء حضارة سعيدة، بل يجب علينا فهم المحاور الأساسية لوجود الإنسان، لكي نتمكن من توجيه وإدارة العلوم نحو تعزيز سعادتنا وتحسين نمونا اللانهائي. رغم تحقيق أعلى مستويات العلم، إلا أن الإنسان يعاني من أسوأ حالاته اليوم. فهذا يدل على أن العلم قد يوفر الراحة والسرعة، لكنه لا يجلب السلام الداخلي والسكينة، بل كلما ازدادت راحتنا، قد ينقص سلامنا.
في رحلتنا لاستكشاف أدق أسباب زوال عظمة الحضارات البشرية، برزت لنا معرفة أساسية: لا تستطيع أي حضارة أن تزهو بالنجاح وتغمرها السعادة دون معرفة علم الإنسان. بما أنّ التقدم العلمي يسير بخطواته بلا هدى أو نظام، يجد نفسه عاجزًا عن مساعدة الإنسان وتحقیق سعادته الحقيقية.
النظام الخاطئ الذي يسود في معظم الحضارات، خاصة الحضارات الحديثة، هو استغلال ذكاء الإنسان بأي ثمن من أجل الثروة والرخاء. وما ينتج عن هذا النهج غالبًا هو أن الإنسان، مهما بلغ من مراتب العلم كطبيب ماهر، أو مهندس مبتكر، أو عالم رائد، إلا أنّه بسبب نضجه أحادي الجانب، يجد نفسه غير قادر على أن يكون شريك حياة محب، أو والد حنون، أو أن ينعم بقلب مطمئن وروح مفعمة بالسعادة والرقة.
للأسف، تُعاني الحضارات المعاصرة من خللٍ فادح وهو التركيز المفرط على جانب واحد من جوانب الإنسان وإهمال الجانب الأساسي الآخر، وهو الجانب الروحي. فالإنسان ليس سوى مجموعة مُنظّمة ومُهندسة، یمرّ بمراحل مُختلفة من النضج والتطور بهدف تحقيق السعادة.
تُشبه حياة الإنسان رحلةً طويلة تمتد من قبل الولادة حتى الولادة وتحقيق اللانهائية. يجب على الحضارة التي تسعى إلى سعادة الإنسان أن تُدرك هذه الحقيقة، وأن تُراعي جميع مراحل تكوين الإنسان وجوانب وجوده المختلفة. فبدون ذلك، لا يمكن لأي حضارة أن ترتقي بالإنسان إلى مكانة الإنسان الكامل وسعادته المستحقة. ولا يمكن لأي حضارة أن تزهر وتزدهر دون تفكير عميق في الجوانب الإنسانية، وبدون توجيه الجهود نحو فهم الذات وعلم الإنسان. فعلم الإنسان هو مفتاح السعادة، وهو السبيل إلى بناء حضارة إنسانية تُلبي احتياجات الإنسان الأساسية وتُحقق له الرفاهية والسعادة.
[1] . المدنیّه، الحَضَر، الحضارة: civilization