رحلة عبر حياة الإمام المهدي(عج) من الميلاد إلى الغيبة الكبرى
وُلِدَ الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ابن الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) والسيدة نرجس خاتون، في منتصف شهر شعبان سنة عام 255 هـ ق. في مدينة سامراء بالعراق. إنّه يحمل اسم جده رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وتختلف حياته(عج) عن حياة سائر الأئمة (عليهم السلام)، حيث تنقسم إلى مراحل متعددة تميّزت كلّ مرحلةٍ منها بتحدّياتٍ وظروفٍ خاصة؛ من قبل ولادته، وبعد ولادته حتى استشهاد والده، ثم فترة الغيبة الصغرى والغيبة الكبرى.
کانت ولادة الإمام المهدي(عج) في الخفاء لأسباب أمنية وخطر على حياته، وقام الإمام العسكري(عليه السلام) بإخفائه عن أعين الجميع، وذلك لحفظ نسل الإمامة. بعد خمس سنوات من ولادة الإمام المهدي(عج)، استشهد الإمام العسكري(عليه السلام) وحدثت فتنة كبيرة بين الشيعة، حيث وقعوا في حيرة وارتباك حول تحديد وقبول إمامهم الجديد.
بدأت حياة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في فترة الغيبة من هذا الوقت ودخل في فترة الغيبة الصغرى. خلال هذه الفترة، كان الناس يتواصلون مع الإمام عن طريق أربعة أشخاص موثوقين ومعتمدين عليه يُعرفون باسم “النواب الخاصين”. كان هؤلاء النواب يتلقون المسائل والمشاکل، وأحيانًا يلتقون بالإمام نيابة عن الناس. بعد وفاة آخر نائب خاص للإمام، انتهت فترة الغيبة الصغرى بعد حوالي 69 سنة وبدأت فترة جديدة من حياة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) تُعرف باسم “الغيبة الكبرى” والتي هي أطول من الغيبة الصغرى، حيث مضى عليها حوالي 12 قرنًا ولم يُعرف نهايتها. في هذه الفترة لا يوجد نائب خاص، والنائبون العامون للإمام یواصلون مسیرة النواب الخاصين للإمام إلى حد ما. يحمل هؤلاء النواب العامون حكم النيابة والوكالة عن الإمام في عصر الغيبة الكبرى. يتولى علماء الشيعة وفقهاؤهم، وعلى رأسهم ولي الفقيه، نيابة الإمام العامة في هذه الفترة.
على الرغم من حرمان الناس في هذا العصر من اللقاء الجسدي للإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف)، إلا أن كل العالم ورزقه متعلقان بوجوده، فهو عماد العالم. إن كنتَ مشتاقًا لمعرفة المزيد عن حياة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وفهم فترة غيبته بشكل أفضل، فانضم إلينا.
أحوال الشيعة بعد شهادة الإمام العسكري (عليه السلام)
كان العباسيون يعتبرون أنفسهم ورثة خلافة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) و كانوا على دراية بمعظم الروايات الموثوقة التي تنبئ بظهور آخر أبناء النبی(ص)، كما كانوا على علم بالروايات المتعلقة بشخص يُدعى المهدي الذي سيأتي ليكون منتقم المظلومين في العالم. لذلك، سعى العباسيون جاهدين لتقديم أحد أبنائهم على أنه المهدي. فضيقوا الخناق على الإمام الهادي والإمام العسكري(عليهما السلام) ووضعوهم تحت المراقبة في معسكر عسكري في سامراء. ولهذا السبب، أخفى الإمام(عليه السلام) خبر حمل نرجس خاتون عن الجميع، حتى أن أفراد عائلته لم يكونوا على علم بذلك. أظهر الله تعالى معجزاته في هذه الواقعة، فلم تظهر أي علامات حمل أو ولادة على جسد السيدة نرجس. قامت عمة الإمام، حكيمة خاتون، بتوليد الإمام بناءً على طلب الإمام العسكري (عليه السلام). ثم قام رضوان عليه السلام، حارس الجنة، بمساعدة الملائكة بتطهير المولود بماء الكوثر، وسلّمت حكيمة خاتون المولود إلى الإمام العسكري(عليه السلام). وبعد فترة، بدأ المولود بالتكلم، ونطق الشهادتين، وأرسل صلوات على أجداده الطاهرين.[1]
استشهد الإمام العسكري(عليه السلام) وکان الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف) في الخامسة من عمره فتولى الإمامة. كان لهذا الحدث أثرٌ كبير على الشيعة، حيث واجهوا العديد من التحديات، سادت حالة من الاضطراب بين أتباعه، واختلط عليهم أمر معرفة إمامهم الجديد. حتى أنّ أفراد أسرة الإمام العسكري(عليه السلام) انقسموا إلى قسمين: كانت والدة الإمام العسكري(عليه السلام) السيدة حديث وعمته السيدة حكيمة، تدعمان إمامة الإمام المهدي(عج)، و كانت أخت الإمام العسكري(عليه السلام) تدعم إمامة أخيه جعفر بن علي، الملقب بجعفر الكذاب. أصبحت الظروف قاسيةً ومُحيّرة لدرجةٍ دفعت بعض الشيعة إلى الانضمام إلى فرقٍ شيعيةٍ أخرى، بينما تخلى آخرون عن التشيّع كليًا. فقد رفض البعض شهادة الإمام العسكري (عليه السلام) واعتقدوا أنه المهدي المنتظر الذي سيرجع يومًا ما.[2] وأنكر آخرون إمامة الإمام العسكري(عليه السلام) واعتبروا أخاه السيد محمد إمامًا، فنشأت فرقةٌ تُعرف باسم “المحمدية“. كما انحازت مجموعة كبيرة إلى جعفر الكذاب، فشكّلت فرقة “الجعفرية“. وبعد شهادة الإمام العسكري(عليه السلام)، ظهرت العديد من الفرق الشيعية، ممّا أدّى إلى حالةٍ من الفوضى والانقسام بين الشيعة.
حياة الإمام المهدي (عليه السلام) في الغيبة الصغرى
تُعدّ فترة الغيبة الصغرى من أهمّ مراحل حياة الإمام المهدي(عجّل الله تعالى فرجه الشريف). فقد اقتضت الظروف الاجتماعية والسياسية السائدة آنذاك غياب الإمام عن الأنظار. فقد وصل ظلمُ الخلفاء العباسيين إلى ذروته، وعانى الشيعةُ من شدّة الضيق والاضطهاد على يدِ الحكام، الذين اغتصبوا حقوق الشيعة السياسية ولم يحسبوا لهم أيّ حساب. كما اتّسم المجتمع آنذاك بانقسامٍ حادٍّ بين طبقتين: طبقة غنية مترفة، وطبقة فقيرة مُعذّبة. و سادتْ مظاهر الفجور والانغماس في الدنيا، بينما كانتْ نية الحكّام جازمةً بقتل الإمام، ممّا جعلَ حياته مهدّدة بالخطر.
تختلف الآراء حول تاريخ بدء الغيبة الصغرى. فيرى البعض أنّ الإمام(عليه السلام) اختفى عن الأنظار في سرداب المنزل منذ لحظة هجوم المأمورين العباسيين على منزله. لكنّ هذا الرأي مردودٌ لدى المؤرخين الشيعة، وقد ثبت أنّ الإمام(عليه السلام) كان مختفيًا عن الأنظار قبل هذه الحادثة. ويرى آخرون أنّ الغيبة الصغرى بدأت منذ ولادة الإمام(عليه السلام)، لكنّ علماء الإمامية لا يقبلون هذا الرأي أيضًا. ويعتقد معظم العلماء والمؤرخين أنّ غيبة الإمام(عج) بدأت من لحظة شهادة الإمام العسكري (عليه السلام). وهذه الفترة هي أولى فترات الغيبة في حياة الإمام المهدي (عليه السلام)، وتُعرف باسم “الغيبة الصغرى”. وقد استمرت حوالي 69 عامًا.
لم ينقطع التواصل بين الإمام المهدي(عج) وشيعته بشكلٍ كاملٍ في عصر الغيبة الصغرى، بل كان تواصلًا مقيدًا بشروطٍ خاصة. فقد كان الشيعة في تلك الفترة يتواصلون مع الإمام (عليه السلام) من خلال أشخاصٍ محددين يُعرفون بـ “النواب الخاصين”. كان هؤلاء النواب بمثابة سفراءٍ وممثلين للإمام (عليه السلام) يتمتعون بثقته المطلقة. وكان عددهم أربعةً، لذلك سُمّوا بـ “النواب الأربعة”. هم: عثمان بن سعيد العمري ومحمد بن عثمان العمري والحسين بن روح النوبختي وعلي بن محمد السمري. كان لهؤلاء النواب دورٌ هامٌّ في ربط الشيعة بالإمام (عليه السلام)، وإيصال تعاليمه وأوامره إليهم، وحلّ مشاكلهم وتقديم المساعدة لهم. وكانوا أيضًا بمثابة قناةٍ سريةٍ للتواصل بين الإمام (عليه السلام) وشيعته. فكانوا يُنظمون لقاءاتٍ سريةً بين الإمام (عليه السلام) وبعض الشيعة، وينقلون رسائل الإمام (عليه السلام) إلى شيعته. كما كان لهم دورٌ هامٌّ في نشر عقائد الإمامة والمهدوية بين الناس.
بالإضافة إلى هؤلاء النواب، كان للإمام (عليه السلام) وكلاءٌ آخرون في مناطق مختلفة. ولكنّ هؤلاء الوكلاء لم يتمتعوا بنفس الصلاحيات التي كانت للنواب الخاصین، فقد كانت صلاحياتهم محدودةً بمهامٍ محددة.
بضعة أيامٍ قبل رحيل آخر النواب الأربعة، وهو علي بن محمد السمري، كتب له الإمام المهدي(عج) رسالةً أوصاه فيها بعدم تعيين وصيٍّ من بعده، مُعلّلاً ذلك بأنّ الغيبة الكبرى قد بدأت، وأنّ فترةً طويلةً من الزمن ستمرّ قبل الظهور.[3] وبعد رحيل السمري، انتهت الغيبة الصغرى، وبدأ عهدٌ جديدٌ من حياة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
حياة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في عصر الغيبة الكبرى
دخل الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) غيبته الكبرى، برحيل آخر نوابه الخاصين، ليبدأ عهدٌ جديدٌ من الحياة الخفيّة ولا يعلم أحدٌ متى تنتهي هذه الغيبة سوى الله سبحانه وتعالى.
فالمؤمنون محرومون من هداية الإمام وحكمه الظاهري في هذه الفترة. لكنّه (عليه السلام) ما زال حجّة الله على الأرض، وإليه تعود كل أُمور العالم وتدبيره.
وقد وردتْ روايات كثيرة حول مكان إقامة الإمام(عليه السلام) ومكان تنقّله خلال الغيبة الكبرى، فمنها ما ذكر مدينة الرسول، وجبل ذي طوى، وجبل الرّضوى، والجزيرة الخضراء، ومسجد السّهلَة، ومسجد جمكران. ولكن الثابت المُسَلّمُ أنّ الإمام(عليه السلام) لا يسكن مكانًا معيّنًا، بل هو دائم التنقل والسفر. ووصف أمير المؤمنين(عليه السلام) أحوال الإمام(عليه السلام) في الغيبة الكبرى بقوله: “صَاحِبُ اَلْأَمْرِ هُوَ اَلشَّرِيدُ اَلطَّرِيدُ اَلْفَرِيدُ اَلْوَحِيدُ”.[4]
يمكن للشيعة خلال فترة الغيبة الطويلة للإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف) التواصل معه والنيل من هدايته الباطنية. ليس لقاء الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف) في زمن الغيبة الكبرى أمرًا مستحيلاً، لكن لا ينال هذا الشرف العظيم إلا من بذل جهداً كبيراً في سبيل تهذيب نفسه وتزكيتها، ومن طهر قلبه من الظلمة والذنوب.
إن غياب الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف) لا يعني عدم وجوده في هذا العالم، بل هو عدم ظهوره بشكل علني للناس. إنّه حاضرٌ في كل مكانٍ ويشهد أحوال شيعته. يحضر مراسم الحج كل عام، وقد التقى به العديد من العلماء والعارفين المخلصين، ونالوا من فيوضاته الروحية. كما أنه قد يكتب (عج) رسائل إلى شيعته لحلّ مشكلاتهم العلمية والمعرفية. ومن الأمثلة على هذه الرسائل، رسالة الإمام إلى الشيخ المفيد.
إن اهتمام الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وتربيته تشمل جميع الناس في أنحاء العالم، سواءً علموا بذلك أم لا. فلو خلت الأرض من حجة الله ساعةً واحدةً، لابتلعها أهلُها[5]. وقد عبّرَ الإمامُ المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف) عن كيفية استفادة الناس منه في عصر الغيبة الكبرى في حديثٍ شريفٍ فقال فيه: “أمّا وَجهُ الاِنتفاعِ بِي في غَيبَتي فَكَالاِنتِفاعِ بِالشَّمسِ إذا غَيَّبَها عَنِ الأبصارِ السَّحابُ”[6] فإنه حاضر في كل زمانٍ ومكانٍ، وهو عليم بأحوال القلوب وأسرارها. ويهتم بشكلٍ خاصٍّ بتربية القلوب المُستعدّة في هذه الفترة، ولا يحتاج إلى حضورٍ فيزيائي للقيام بذلك.
بما أنه لا يوجد هناك نواب خاصون في فترة الغيبة الكبرى، يتم إذن طرح مسألة “النيابة العامة”. في هذه الفترة من حياة الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف)، یعتبر النواب العامون، وكلاء وخلفاء الإمام في عصر الغيبة. يُعتبر علماء وفقهاء الشيعة، وخاصة ولي الفقيه، نوابًا للإمام في عصر الغيبة الكبرى، والامتثال لهم يُعادل الامتثال للإمام المعصوم. الدور الرئيسي لهؤلاء النواب للإمام في عصر الغيبة الكبرى هو قيادة المجتمع وتوجيهه لتربية الصالحین في آخر الزمان. يهدف ذلك إلى تهيئة الصالحين لبناء أنفسهم واكتساب القوة الفردية والاجتماعية اللازمة لمساعدة الإمام الغائب ودعم ظهوره. بعبارة أخرى، يُمهّد النواب العامون من خلال تربية الصالحين، الأرضية لظهور الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) وإقامة حكم العدل الإلهي في جميع أنحاء العالم.
[1] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار علیهم السلام، بیروت_لبنان، دار إحیاء التراث العربي، 1989، ج 51، ص 19.
[2] ابن بابویه، محمد بن علي، کمال الدین و تمام النعمة، طهران، الإسلامیة، 2016، الطبعة الثانية، ص 40
[3] الإربلي، علي بن عیسی، کشف الغمة في معرفة الأئمة، طهران، مطبعة نور المحبة، 1393، ج2، ص 530
[4] ابن بابويه، کمال الدین و تمام النعمة، ج۱، ص۳۰۳، ح۱۳.
[5] الکلیني، ابوجعفر محمد بن یعقوب رازي، اصول الکافي، ج۱، ص۱۷۹، طهران:المکتبة الاسلامیة ، الطبعة الأولى، ۱۳۸8
[6] ابن بابويه، کمال الدین و تمام النعمة، قم، منشورات الفقه، 1396، ج2، ص 483