ما سرّ أهمية زيارة الأربعين حتى عُدّت علامةً من علامات الإيمان؟
مع اقتراب العشرين من شهر صفر سنويًا، تتغير ملامح الطرق المؤدية إلى كربلاء. ملايين الأقدام تمضي في صمت، متجاوزة كلّ الفوارق من قومياتٍ وأديانٍ وحدودٍ، تتجه نحو مقصدٍ واحد: مرقد الإمام الحسين(عليه السلام).
لكن، ما الذي يجعل الأربعين حدثاً استثنائياً بهذا الشكل؟ لماذا يهيم العاشقون سيراً على الأقدام لمئات الكيلومترات، لا لشيء سوى بلوغ ضريح؟
الأربعين ليس مجرّد مناسبة دينية عابرة. إنه تيار روحي، تجربة إنسانية مشتركة، دعوة صامتة للرجوع إلى الحقيقة. ليست زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في هذا اليوم، مجرّد ممارسة خاصة بالمذهب الشيعي، بل هي ظاهرة إنسانية وعالمية؛ تنطوي على معانٍ سامية كالإخلاص، والعدل، والتعاطف، بل وحتى اكتشاف الذات.
ما السرّ الكامن في هذا اليوم حتى تهتز له القلوب بهذه الصورة؟ ولماذا يحتلّ الأربعين هذه المكانة الخاصة في الثقافة الشيعية؟
يكمن الجواب في حديث موثوق عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، حيث قال: “عَلاماتُ المُؤمِنِ خَمسٌ: صَلاةُ الخَمسین، وَ زِیارَةُ الأَربَعین، وَ التَّخَتُّمُ فِی الیَمین، وَ تَعفِیرُ الجَبین، وَ الجَهرُ بِبِسمِ اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحیم”[1]
في هذا الحديث، وردت زيارة الأربعين جنبًا إلى جنب مع الصلاة وغيرها من أعمدة الإيمان، لا بوصفها مجرّد عمل مستحب، بل كعلامة من علامات الإيمان. أي إنّ من كان قلبه مع الإمام الحسين (عليه السلام)، لا يمكنه أن يكون غير مبالٍ بيوم الأربعين.
زيارة الأربعين رمز لصلة حيَّة بين الإنسان وإمام زمانه، ورمزٌ للوفاء للطريق الذي ابتدأ بالدم واستمرَّ بخطوات المشاة في الأربعين. فـالأربعين تعني أن حسين زماننا ما زال ليس وحيدًا؛ فهناك من يلبِّي نداءه بكل وجوده، بكل قلبه وروحه. في هذا المقال، نحاول أن نستكشف معاً: ما معنى زيارة الأربعين؟ ولماذا تحظى زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في هذا اليوم تحديداً بكلّ هذه الأهمية؟
ما الذي يميز زيارة الإمام الحسين في يوم الأربعين عن سائر الأيام؟
ما الذي يمنح زيارة الحسين(عليه السلام) في يوم الأربعين خصوصيةً لا تشبه باقي أيام السنة؟ ولماذا تغدو هذه الزيارة حدثاً استثنائياً لا في الوعي الشيعي فحسب، بل حتى لدى غير المسلمين ممن تأثروا برسالة كربلاء؟
إن زيارة الأربعين ليست طقساً دينياً عابراً، بل ظاهرة متعددة الأبعاد: روحية، تاريخية، اجتماعية، وحتى سياسية. لا تُعدّ مسیرة الأربعين مجرّد مناسبة دينية فحسب بالنسبة للشيعة، بل هي رمزٌ للصمود، والوفاء، والارتباط العميق بالإمام الحسين(عليه السلام) وبالغاية التي استُشهد من أجلها في كربلاء. في هذا الجزء من المقال، نُسلّط الضوء على بعض الأسباب التي تجعل زيارة الأربعين تحظى بمكانة خاصة وأهمية تفوق سائر أيام السنة.
الأربعين؛ رمز العودة إلى الإمام وتجديد العهد معه
إنّ الإمام الحسين(عليه السلام) هو قدوة الأحرار في العالم، ورمز الثبات والمقاومة في وجه الظلم؛ ولهذا فإنّ مسيرة وزيارة الأربعين تُجسّد العودة إلى الإمام، وتجديد العهد معه. وفي العشرين من شهر صفر، يتوجّه المسلمون وغير المسلمين من شتى أنحاء العالم إلى كربلاء، اقتداءً بالسيدة زينب(سلام الله عليها) وسائر أسارى كربلاء، ليجددوا البيعة مع الإمام نيابةً عن كل من تخلّف عن الزيارة، ، ويُحيوا مبادئه السامية وأهدافه الخالدة.
أهمية الدعاء والتوسّل في يوم الأربعين
يؤمن الشيعة أن للدعاء والتوسّل في يوم الأربعين أثرًا خاصًّا ومميزًا يختلف عن سائر أيام السنة. وتُعدّ زيارة الأربعين من أعظم وأشهر الزيارات، وقد عُرفت كواحدة من أنجع الوسائل للتقرّب إلى الله تعالى ونَيل رحمته. فالأربعين هو يوم العودة إلى حضن الإمام كرحم روحي، ولذلك فإنّ للدعاء فيه طابعًا استثنائيًّا لا يشبه سائر الأوقات. وكما أشرنا، فإنّ طبيعة الدعاء نفسه هي التي تُحدّد مدى تأثيره واتّساع دائرته في هذا اليوم العظيم. ومن الواضح أنّ الدعاء الصادق ينبع من معرفة الإنسان بنفسه، وإدراكه العميق لمقام الإمام ومكانته.
أما الإنسان الذي بلغ درجة من معرفة النفس، وأدرك العلاقة الحقيقية والشرعية التي تربطه بالإمام المعصوم، فإنّ دعاءه في هذا اليوم لا يقتصر على المطالب الدنيوية، بل يتوجّه به في مسار سلوكه الروحي تحت ظل الإمام وهدايته. فمن عرف نفسه كإنسان، سار في طريق تحقيق أهداف الإمام وغاياته، وأصبح جزءًا من جماعة الصالحين، يشارِك في أعمالهم ويُكتب له أجر ما يعملونه.
التآلف واجتماع القلوب في الأربعين
في يوم الأربعين، يفد الناس من مختلف أصقاع العالم إلى العراق للمشاركة في هذا الحدث العالمي العظيم: زيارة الإمام الحسين (عليه السلام). وهذا التجمع الروحي، الذي يتمثل في مسيرات مليونية سيرًا على الأقدام، يُجسّد وحدة البشر وتعاطفهم، على اختلاف قومياتهم، وجنسياتهم، وأديانهم، ويبعث في قلوبهم سكينة وسلامًا فريدًا. وبحسب معتقدات الشيعة، فإنّ التعاطف والتلاحم بين القلوب يُعدّ من أهمّ ركائز التمهيد لظهور المنقذ العالمي، الإمام المهدي(عليه السلام)، ويمكن رؤية تجلّيات هذا المعنى بوضوح في مسيرة الأربعين المباركة.
مسيرة الأربعين… صدى عاشوراء في الذاكرة والوجدان
زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم الأربعين، إلى جانب أبعادها الروحية، تحمل أهمية كبيرة من الناحية التاريخية أيضًا. فهذا اليوم يُعد تذكيرًا حيًّا برسالة عاشوراء، وبالتضحية العظيمة التي قدّمها الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه من أجل إحياء الدين والدفاع عن القيم الإنسانية السامية. ويُعدّ الأربعين فرصة ثمينة لاستحضار أهداف نهضة عاشوراء، والتأكيد على مبدأ مقاومة الظلم والفساد، إلى جانب ترسيخ ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) ورفاقه الأوفياء، والحفاظ على مبادئهم الخالدة وأحلامهم النبيلة
زيارة الأربعين لِمَن لم يُكتب له المسير
ليس كلّ زائرٍ للأربعين يمشي على تراب الطريق إلى كربلاء. فثمة من يقف خلف شاشات التلفاز، تُرافق أنظاره الجموعَ نحو الحرم، وقلبه يسبقهم خفقةً وشوقاً. وثمة من أعيته مشاغل الحياة، فظلّ يتحسّر على دعاءٍ عند الضريح أو دمعةٍ على أعتاب كربلاء. لكن، يبقى السؤال: هل الزائر الحقيقي هو فقط من سار على قدميه إلى كربلاء؟
في الثقافة الشيعية، لا تُعدّ الزيارة عن بُعد أمرًا مقبولًا فحسب، بل هي مستحبّة ومأجورة أيضًا. في يوم الأربعين، تكون الزيارة عن بُعد فرصة عظيمة لأولئك الذين امتلأت قلوبهم حبًّا للإمام، لكن أبدانهم عجزت عن السفر إليه. فكم من قلبٍ بقي خلف الأبواب المغلقة، لكنه عند الله أعزّ من آلاف الأقدام التي مشت نحوه بعشقٍ وهيام. إنّ ما يُضفي على الزيارة قيمتها الحقيقية، ليس حضور الجسد، بل حضور المعرفة، والمحبّة، والنيّة الصادقة.
وللذين فاتهم الركب، يمكن أن يكون الدعاء، أو قراءة الزيارة، أو السير الرمزي، أو حتى خدمة الزائرين، طريقًا حقيقيًّا للزيارة. فكم من إنسان لم يَزُر، لكنه بلغ، وكم من إنسان زار، لكنه ما بلغ! الغياب عن الأربعين لا يُقاس بالأميال، بل بمسافة القلب. فمن كان قلبه مع الإمام الحسين (عليه السلام)، فهو حاضرٌ في الركب، مهما باعدته المسافات عن كربلاء.
تأملات في نص الدعاء لزيارة الأربعين
ليست زيارة الأربعين مجرّد بضع جُمل من الدعاء، بل هي ميثاقٌ معرفيّ متكامل، وبيانٌ عقائديّ عميق؛ إنها وثيقةٌ تعبّر عن رؤيةٍ شاملة للإمام الحسين(عليه السلام)، لا بصفته مظلومًا فقط، بل باعتباره منقذًا للبشرية جمعاء.
وفي مطلع هذه الزيارة المباركة، نجد جملةً تختصر عمق نهضة عاشوراء، وتكشف عن جوهر ثورتها: «وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبَادَكَ مِنَ الْجَهَالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلَالَةِ» أي: “وقد بذل دمه في سبيلك، ليُنقذ عبادك من الجهل والحيرة في متاهات الضلالة.” هنا لا تُعرض عاشوراء كمأساة فحسب، بل كنهضة إنسانية شاملة، هدفها تحرير الإنسان من الضياع والظلم، وإعادته إلى طريق النور والهداية. لقد قدّم الإمام الحسين (عليه السلام) روحه ليصنع فجرًا جديدًا للبشرية، ويُمهّد طريق الخلاص لكلّ من ضلّ واحتار. ومع التقدّم في الدعاء، تتكشف مفاهيم كبرى: حبّ الحق، الالتزام بالولاية، الاستعداد لنصرة الإمام، والتضحية في سبيل الله.
فالزائر لا يأتي ليطلب حاجته فحسب، بل ليُعلن ولاءه، كما يقول النصّ: «وَأَنَّ قَلْبِي لَكُمْ مُسَلِّمٌ، وَرَأْيِي لَكُمْ تَبَعٌ، وَنُصْرَتِي لَكُمْ مُعَدَّةٌ» إنها بيعة واضحة، صادقة، تجعل من الزائر نصيراً لا متفرّجاً.
بالتالي، فإن زيارة الأربعين دعوة إلى التحوّل: من المتفرج إلى الفاعل، من الطالب إلى المجاهد في طريق الحق. فمن قرأ هذه الزيارة بقلبٍ واعٍ، لم يعد زائراً فقط، بل أصبح من جند الحسين (عليه السلام)، ومن المنتظرين الحقيقيين للإمام المهدي (عجل الله فرجه).
زيارة الأربعين: طريق لإحياء الحقيقة
في عالمٍ قد تُطمر فيه الحقائق تحت ركام التزوير والنسيان، تأتي زيارة الأربعين لتوقظ الذاكرة وتُنير القلوب. فهي ليست فقط مسيرةً بأقدامٍ متعبة، بل رحلةٌ من ذوات متفرّقة إلى جماعة متّحدة، من عيش روتيني إلى حياة ذات معنى، من التشتّت إلى الارتباط بهدفٍ أسمى.
الأربعين معرضٌ مفتوحٌ للوفاء، تكتسب كلّ خطوة فيه سطراً جديداً في تاريخ كربلاء، وتُعيدُ كلّ دمعةٍ إحياء رسالة عاشوراء. في هذه الزيارة، لا نُحيي فقط ذكرى الشهداء، بل نُعيد التأكيد لأنفسنا أننا لا زلنا قادرين على الوقوف في صفّ الحق، وإن كثر أهل الباطل.
إن زيارة الأربعين هي تدريبٌ روحيٌّ على زمن الظهور، حين تجتمع القلوب مرّةً أخرى لا حول الحسين، بل حول حفيده المنتظر المهدي (عجل الله فرجه). إنها تمرين على بناء مجتمع العدل، والرحمة، والأمان. وهكذا تصبح زيارة الأربعين، لا مجرّد طقس، بل إعلان ولاء، ورمز يقظة، وتجسيدٌ حيٌّ للإيمان الصادق.
[1] الطوسي، محمد بن حسن، مصباح المتهجد، ص 788