ما هي خصائص الدولة الكريمة وسماتها المميزة، وما الأسس التي تقوم عليها؟

دراسة خصائص الدولة الكريمة وماهيتها، والفرق الجوهري بينها وبين سائر الدول

 دراسة خصائص الدولة الكريمة وماهيتها، والفرق الجوهري بينها وبين سائر الدول

من المحتمل أنك سمعت مرارًا عن مصطلح “الدولة الكريمة”. فالدولة الكريمة هي الحكومة العالمية التي ستُقام بعد ظهور الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف) حيث سيقودها هو شخصيًا بمعاونة كوادر صالحة وفاضلة. قد تتساءل: لماذا سُمِّيت هذه الدولة بـ “الكريمة”؟ إن الجواب يكمن في جوهر نظامها القائم على مبدأ الكرامة الإنسانية.

إن كرامة الإنسان وعزّته وشرفه، التي ضعفت وتشوّهت على مرّ القرون بسبب غياب الإمام المعصوم بعد استشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله وابتعاد الناس عن هدايته، ستُستعاد وتُحيى من جديد في ظلّ الدولة الكريمة، فتتجدّد وتسمو إلى أعلى مراتبها. وكما أن الدول التي سبقتها قامت على أسس الظلم، والتوحش، والانغماس في الشهوات، والمادية، والانقياد لقوى الشر، فإن الدولة الكريمة للإمام ستكون قائمة على أساس تكريم الإنسان. إنها دولةٌ كريمة يحمل قائدها ومسؤولوها رايةَ الكرامة الإنسانية الأصيلة، حتى تغدو هذه الكرامة كالنور الذي يخترق جميع زوايا المجتمع، بحيث يشعر بها الناس في كل أرجاء النظام، ويعيشونها في كل تفاصيل حياتهم.

إنّ كرامة الإمام (ع) وتكامله الروحيّ بوصفه حُجّة الله على الأرض، تدفع الناس في “الدولة الكريمة” نحو الارتقاء إلى مقام “الإنسان الكامل”. فهي مرحلة تعوّض ما عاناه البشر عبر القرون من إذلال واستعباد بفعل الأهواء الماديّة والغرائز الحيوانيّة، لتبلغ الإنسانية ذروة كرامتها. ومن هنا، فإنّ أفراد هذه الدولة وقادتها يعاملون جميع القضايا من منظورٍ إنسانيٍّ رفيع، جاعلين البُعد الإلهيّ والإنسانيّ محوراً لسياساتهم وتحرّكاتهم. غير أنّ استيعاب هذه الفكرة يطرح تساؤلات عدّة، وإجاباتها تعزِّز فهمَنا لجوهر “الدولة الكريمة” وسماتها الرئيسية:

 

  • ما هي بنية الإنسان الوجودية؟ وما ضرورة تحقيق التوازن بين مختلف جوانبه الوجودية؟
  • كيف يتحقق التكامل والارتقاء في أبعاد الوجود الإنساني ضمن “الدولة الكريمة”؟
  • ما السمة الجوهرية التي تميّز “الدولة الكريمة” عن سائر الأنظمة السياسية؟
  • ما الثمرة النهائية لتكامل الأبعاد الإنسانية في ظل هذه الدولة؟

 تكامل الأبعاد المختلفة للوجود الإنساني في الدولة الكريمة

من أبرز خصائص الدولة الكريمة أنها تحقِّق أعلى درجات التوازن والتكامل في جميع أبعاد بنية الإنسان الوجودية، مما يُساعم في رُقيّه وتكامله من كل الجوانب. إن البنية الوجودية للإنسان ذات طبيعة رياضية دقيقة، حيث تلعب الأرقام والمقادير والقياسات دورًا محوريًا في تشكيلها، ويكون التوازن بينها عاملاً حاسمًا في صحته واستقراره. ولبلوغ الكمال والسعادة، يجب أن يتحقق التوازن في كل جوانب كينونة الإنسان، بعيدًا عن أي إفراط أو تفريط في الاستفادة من كمالات يمتلكها. عندما تتحقق هذه العدالة في جميع أبعاده، يصل الإنسان إلى ذروة مكانته المنشودة. فالدولة الكريمة ترفع مستوى النعمة إلى أقصى حدّ في جميع الجوانب الخمسة لكمالات الإنسان، فيحقق بذلك غايته القصوى في كلّ منها. تتمثل الأبعاد الخمسة للوجود الإنساني في: البُعد الجمادي، البُعد النباتي، البُعد الحيواني، البُعد العقلي، وأخيرًا البُعد ماوراء العقلي أو الإلهي، وهو ما تم تناوله بالتفصيل سابقًا. في هذا المقال، سنعرض بعد شرح موجز آلية تطور كلّ بعد من أبعاد الإنسان الوجودية في ظلّ الدولة الكريمة.

 الارتقاء والتكامل في البُعد الجمادي للإنسان في الدولة الكريمة

يُعد «البُعد الجمادي» المرتبة الأضعف في مراتب وجود الإنسان، إذ يجعله خاضعاً لقوانين الأشياء الجامدة، متأثراً بشهواتها ورغباتها. هذه الدوافع تُغري الإنسان بالسعي وراء كماليات مادية زائفة، كالملابس الفاخرة والمقتنيات الثمينة والجواهر والثروات.

ليس المال في جوهره غايةً مادية صرفة، بل هو أداة اقتصادية يجب أن تُوظَّف لخدمة أبعاد الإنسان الروحية والإنسانية كي تهيئ له سبل الارتقاء في مختلف أبعاد وجوده. إلا أن البشر في عصر ما قبل الظهور لا يتحركون بقواهم الإلهية والإنسانية، مما يحوِّل الاقتصاد إلى مصدر للأزمات والفساد، فيُختلُّ التوازن، ويدفعنا إلى السقوط في هاوية الكمالات الوضيعة التافهة. أما في «الدولة الكريمة»، حيث يبلغ الإنسان ذروة نموّه الروحي، فإنه يتعامل مع مسألة الاقتصاد من منظورٍ إنساني وإلهي ولا يعتبرها الناس مشكلةً أو هماً، بل كأداةٍ لتحقيق التوازن والرقي في حياتهم.

من خصائص الدولة الكريمة أن الأرض، ستُخرج فيها كنوزها بلا حساب وتكشف عن مخزون خيراتها. فالأشياء -وإن كانت جامدة- لها وعيٌ يُمكِّنها من إدراك مَن يحكمها، ومن يتعامل معها. فتتهافت طواعيةً تحت حكم الإمام، وتُقدِّم خيراتها بسخاء. حتى إن الثروة سوف تفيض إلى الحد الذي يُحيّر عمّال الإمام، فيستفتونه في كيفية توزيعها. من القضايا المهمة في تكامل البُعد الجمادي للإنسان هي بلوغ البشر مبلغاً من الرفعة والسمو يجعلهم بمنأى عن السكرة والافتتان بالثروات والمكتسبات الاقتصادية، بل يتعاملون معها بتوازن وحكمة، فيوظفونها على الوجه الأمثل. ومن هذا المنطلق، سيفتح الله أبواب الرزق، والثروة، والرحمة على العالم في هذه الدولة المباركة. وفي هذا العصر، لن يشعر الناس بأدنى قلق أو حاجة على الصعيد المادي، ولا يضحون بأي من القيم الأخلاقية أو المكاسب الإنسانية على مذبح البعد الجمادي والمصالح الدنيوية.

 تطور البُعد النباتي للإنسان في الدولة الكريمة

المرتبة الثانية من مراتب بنية النفس الإنسانية هو ما يُعرف بـ”البُعد النباتي“، حيث يكون الإنسان في هذه المرحلة أشبه بنبات، يتشارك مع النباتات في جملة من الخصائص؛ كالجمال، والصحة، تناسق البنية، النمو، التكاثر، التغذية، القوة الجسدية، وغيرها. هذه السمات تمثل كمالات المرحلة النباتية، وبالتالي فإن الإنسان في هذا المستوى ليس “إنساناً” بالمعنى الحقيقي، بل مجرد نبات متطور. واللافت أن غالبية الأفراد يهدرون الجزء الأكبر من أعمارهم وطاقاتهم ومواردهم في تنمية هذا البُعد النباتي، فما يحققه المرء في النهاية ليس أكثر من أن يصبح “نباتاً جيداً”!

من أعظم الآثار الإيجابية والمبهجة التي تتميز بها الدولة الكريمة هو تكامل وترقي البُعد النباتي للإنسان. وسيشهد الإنسان تحولاً جذرياً على المستوى الجسدي والنفسي، حيث تزول جميع الأمراض والعاهات. فقد ورد عن الإمام الباقر (ع) قوله: «مَنْ أَدْرَكَ أَهْلَ بَيْتِي مِنْ ذِي عَاهَةٍ بَرَأَ وَ مِنْ ذِي ضَعْفٍ قَوِيَ.» [1] ففي هذه الدولة المباركة، لا مكان للألم ولا للإعاقة ولا للعلة، بل تُستبدل بتمام الصحة والعافية.

يؤدي البُعد النباتي والجسد الإنساني دورًا بالغ الأهمية في تحقيق التوازن بين سائر أبعاده، كالبُعدين الحيواني والعقلي، وصولًا إلى البُعد الإلهي. فالكثير من المشاكل النفسية، كالمخاوف، والقلق، والضعف، وسرعة التأثر، والحساسية، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحالة الجسدية. ومن أبرز خصائص الدولة الكريمة أن الإنسان يبلغ في بُعده النباتي قمة الصحة والعافية. باستعادة التوازن واندثار الشهوات الجامحة كالشراهة والرغبة في تناول الأغذية الضارة، ستزول العديد من حالات السقم والاعتلال. كما يتميز عصر الدولة الكريمة في تنمية وتكامل البُعد النباتي، بأنه لا يقتصر على تخليص الأجساد من الآلام والضعف فحسب، بل يمنحها فيضاً من القوة والحيوية.

تطور البُعد الحيواني للإنسان في الدولة الكريمة

البُعد الثالث من المراتب الخمسة للوجود الإنساني يُعرف بـ”البعد الحيواني“. في هذا المستوى، يشترك الإنسان مع الحيوانات في العديد من السمات، مثل الشهوة والغضب والتنافس والتزاوج وتحمل المسؤولية والعمل والاجتهاد والإدارة والقيادة والوفاء والحواس الخمس. هنا، لا يختلف الإنسان عن الحيوان، بل يظل كائناً حيوانياً بلا تمييز جوهري.

أبرز ما يميز الدولة الكريمة قدرتها على صياغة إنسان متكامل من خلال التربية الحكيمة للإمام المعصوم المتخصص، فيتحقق فيه توازن داخلي تام تُذوّب فيه النزعات المتضاربة، فلا مكان للعدوان ولا مساحة للفظاظة في مجتمع تسوده الرحمة. وهكذا يتحقق للعالم أرقى صور الأمن والسلام الشامل. فما كان قبلاً أزمات مزمنة في الأمن والعدالة تتحول في عهد هذه الدولة إلى قيم راسخة، تبلغ كمالها في ظل القيادة الإلهية الحكيمة.

  • إصلاح العلاقات الإنسانية

تمرّ البشرية اليوم بأزمة عميقة في علاقاتها الاجتماعية. فالإنتحار والانفصال والكراهية والتنافس السلبي، إضافة إلى الأحكام المسبقة، حوّلت حياة الأفراد إلى سلسلة من الصراعات التي تستنزف طاقاتهم وتُعيق مسيرتهم نحو تحقيق الهدف الأسمى من وجودهم. يمضي معظم عمر الإنسان، قبل الظهور، منشغلًا بالمحبوبات الدنيوية والهموم الناجمة عنها. ومن أجمل خصائص الدولة الكريمة أن الإنسان يُنتشل من مستنقع هذه العلاقات الزائفة، ليبلغ مستوى من العلاقات الإنسانية العميقة، حيث يسود الحب الحقيقي بين البشر، وتنشأ بينهم مشاعر المودة الصادقة من أعماق القلوب. في النظام التربوي والإنساني للدولة الكريمة، تسود مبادئ تجعل الجميع يضحّون من أجل بعضهم البعض بروحٍ عاشقة ومخلصة، فتصل العلاقات الاجتماعية والعائلية إلى أعلى درجات الحب والسعادة. وذلك لأن هيمنة الميول النباتية، والجمادية، والحيوانية، والعقلية لا تعد قائمة في ظل الدولة الكريمة، مما يشكل المفتاح الأساسي لحالة الإنسان الطيبة في هذا العصر.

هناك ثلاثة مبادئ رئيسية تحكم خصائص الدولة الكريمة وتؤدي إلى إصلاح العلاقات بين البشر، وهي:

  • قاعدة هو أنت: هذه القاعدة تعني أن الآخرين يعادلون ذاتك، فلا يحق لك إيذاؤهم؛ لأنك تدرك أن كل سلوك يصدر منك تجاههم هو في حقيقته تعامل مع نفسك. وفقًا لهذه القاعدة، تتغير طريقة التعامل مع الآخرين لتصبح على النحو الذي تحب أن يُعاملك به الآخرون.
  • قاعدة هو رسول الله: وفقًا لهذه القاعدة، يعتبر الناس في الدولة الكريمة كل فردٍ في المجتمع بمثابة رسول الله، ويرونهم في مرتبةٍ تعادل مقامه الشريف. ولهذا السبب، يكون تعاملهم مع هؤلاء المبعوثين وأحباء الله بالغ الدقة والعناية. فكل سلوك يُمارسه الإنسان تجاه أحد عباد الله يصل إلى الإمام المعصوم، الذي يدركه ويشعر به مباشرة.
  • قاعدة هو الله: وفقاً لهذه القاعدة، نؤمن بأن الله هو المتلقي الحقيقي لكل أفعالنا تجاه عباده. ففي كل خيرٍ أو شرٍّ نقوم به تجاه الآخرين، فإننا في الحقيقة نقف أمام الله نفسه. وبذلك، يُعامل كل عبدٍ من عباد الله في هذه القاعدة كما لو كان يمثل الله عز وجل.
  • العدل: كان الهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية عليهم إقامة العدل والإنصاف في المجتمع. لكن، وللأسف، بسبب مكائد حزب الشيطان منذ بداية الخلق وحتى يومنا هذا، وقبل قيام الدولة الكريمة بقيادة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ظل العدل مغيّبًا في المجتمعات، بل وازداد اندثاره يومًا بعد يوم. لطالما كان تحقيق العدل بين الناس وجذب الأمم إليه حلم الأنبياء العظام، إلا أن حزب الشيطان عمل عبر التاريخ على إفشال هذه المساعي. في عهد الدولة الكريمة، سوف يتحقق هذا الأمل الإلهي القديم، الذي ناضل من أجله أولياء الله على مر العصور، فتؤتي جهودهم ثمارها أخيرًا، ويشهد العالم انتصار العدل الذي تَعِبَ المؤمنون في السعي نحوه عبر القرون

النقطة المهمة جدًا هي أنه في الدولة الكريمة، لن يقتصر الأمر على إبادة كل الظالمين والمبتدعين فحسب، بل ستمحى أيضاً كل آثار ظلمهم وبدعهم. فقد ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام) أن آثار الظلم والانحراف التي خلّفها الطغاة ستُمحى تماماً في عصر تلك الدولة المباركة. [2] على سبيل المثال، لن يُرفع الفقر الذي فرضته السياسات الجائرة على الناس فقط، بل سيتم تعويضه وإعادة الحقوق إلى أصحابها، مما يُحقق التوازن الكامل في المجتمع. قال الإمام الصادق(عليه السلام) في هذا الشأن:’والله، ليُدخلنَّ عدله بيوتَهم كما يدخل الحرُّ والقرُّ. أي أن عدالة الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ستصل إلى كل بيت، تمامًا كما تتسلل برودة الشتاء وحرارة الصيف إليه.[3] وبعد ظهور الإمام، ستنتشر حكومته في أرجاء المعمورة، فلا يبقى في العالم أدنى أثر للظلم والجور.[4] وبذلك، فإن من أبرز خصائص الدولة الكريمة غياب أي شكلٍ من أشكال الحرمان، حيث يتحقق العدل المطلق، ويُستأصل كلّ ما يناقضه.

من المثير للاهتمام أن هذا المبدأ من خصائص الدولة الكريمة لا يقتصر على البشر، بل يشمل عالم الحيوانات أيضًا. فالأمن الذي يعمّ الأرض في ظل هذه الدولة المباركة يبلغ من الشمولية ما يجعل الحيوانات تفقد غرائزها الافتراسية، وتخضع لتحولات جوهرية، حتى تصبح جميع الكائنات في حالة من الطمأنينة والوداعة. وقد ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله تنزع حمة كلّ دابّة حتى يدخل الوليد يده في فم الحنش فلا يضرّه، و تلقى الوليدة الأسد فلا يضرّها، و يكون في الإبل كأنّه كلبها، و يكون الذئب في الغنم كأنّه كلبها”[5]. وبما أن الحيوانات تفتقر إلى القدرة العقلية، فإن الدولة الكريمة تتدخل في أدمغتها وأنظمتها العصبية، فتُحدث تغييرات عميقة في سلوكها وأفعالها.

  • القضاء

يُعدّ منصب القضاء من أهم شؤون الحكومة الإسلامية والحاكم الإسلامي. وقد ورد في خصائص الدولة الكريمة أن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) سيعين حكّامًا إسلاميين في أرجاء الدولة الإسلامية، ليُقيموا العدل وينشروا أحكام الدين. فالعدالة تُعدّ إحدى أبرز السمات المميزة للدولة الكريمة، حيث تتحقق في ظلها أسمى معاني الإنصاف والقضاء العادل.[6] تتبنى هذه الدولة نموذجاً قضائياً استباقياً، فلا تنتظر تقديم الشكاوى، بل تتحرك تلقائياً لإنزال العقوبات بمجرد ثبوت الجريمة. سیغير الإمام (عج) النظام القضائي وفق منظومة إلهية مستوحاة من النماذج التاريخية للنبيين داود وسليمان(ع)، حيث يعتمد القضاء على علم لدني للنبوة بدلاً من الإجراءات التقليدية للبينات والإثبات.[7] وبالمثل، سيُلهم الله الإمام المهدي في قضاياه،[8] ويتخذ مسجد الكوفة مقرًا لقضائه العادل.[9]

في الدولة الكريمة، تستند الأحكام القضائية إلى الحقائق المطلقة، فلا يكون للظنون والتخمينات أي قيمة في مسألة القضاء. وأولئك الذين يختارهم الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) للقضاء، ليسوا فقط في منأى عن الظلم والانحياز بسبب كمال عقولهم وتهذيب نفوسهم، بل هم أيضًا مؤيدون بالإمدادات الإلهية. وفي ظل الدولة الكريمة، يستشعر القضاة أنهم في حضرة الله، فلا يصدرون أحكامهم إلا وفقًا للحق والعدل. ومن اللافت أن الناس في هذا العصر، نتيجةً لتكامل عقولهم وتربيتهم في ظل الإمام، يكونون مهيئين ومستعدين تمامًا لقبول الأحكام العادلة وتنفيذها. وفي هذا العهد، وبفضل تمتع القضاة بخاصيتين أساسيتين: التهذيب الذاتي والتأييد الغيبي، تصدر الأحكام الصحيحة التي تطفئ نيران الفتن وتحفظ استقرار المجتمع.

 تطور البُعد العقلي للإنسان في الدولة الكريمة

ورد في رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام): ‘العلم سبعة وعشرون حرفًا، فجميع ما جاءت به الأنبياء حتى قيام القائم حرفان، فإذا قام أخرج الخمسة والعشرين حرفًا الباقية، فبثها بين الناس، وضمّ إليها الحرفين السابقين حتى يُكمل العلم بأجزائه السبعة والعشرين.[10]

قد يثار تساؤل حول سبب اقتصار تطور العلم على مرحلتين فقط قبل ظهور الإمام. والحقيقة أن العلم يصبح خطراً يهدد البشرية إذا لم يُدار بتوجيه الإنسان الكامل والمعصوم المتخصص. فبالرغم من بلوغ البشر أعلى مستويات التقدم العلمي اليوم، إلا أنه قد تفاقم البؤس والشقاء في العالم. فأزمات الحروب والمجازر والمجاعات والفقر قد بلغت ذروتها، كما انتشرت الاكتئابات والأمراض النفسية والجسدية على نطاق غير مسبوق. لقد باتت الحروب، والجوع، والمجازر، والفقر، والأحزان أكثر انتشارًا من أي وقتٍ مضى، في حين بلغت معدلات الاكتئاب والأمراض ذروتها. وربما يكون العلم قد وفّر للبشر بعض سبل الراحة المادية، لكنه سلبهم الطمأنينة، وأبعدهم عن السعادة الحقيقية. وربما تكون التكنولوجيا قد يسّرت حياة الإنسان، لكنها، نظرًا لعدم خضوعها لإدارة البُعدين الإلهي والعقلي في النفس البشرية، وأيضًا لكونها في خدمة غرائزه الدنيا، لم تؤدِّ إلا إلى الفساد والضرر. وفي الحقيقة، لا يمتلك البشر القدرة على تحمل الدرجات العليا من العلم واستيعاب جميع أبعاده ما لم يكن هناك حاكمية من قِبَل الإمام المعصوم والمتخصص، الذي يضعه في المسار الصحيح لخدمة الكمال الإنساني.

في الدولة الكريمة، يصل الإنسان إلى مستوى من الكمال والقدرة يجعله مؤهلًا لاستخدام العلم في جميع أبعاده، بحيث يصبح العلم مصدرًا للفرح، والراحة، والطمأنينة، بدلًا من أن يكون سببًا للفساد والمعاناة. وفي هذا العصر، يكون البشر في أقرب حالة علمية لهم إلى الله وإلى خُزّان أسرار الكون، وهم أهل البيت (عليهم السلام)، مما يُفضي إلى بلوغ البُعد العقلي أعلى درجات ازدهاره وكماله.

وفقًا لخصائص الدولة الكريمة، ستُتاح في هذا العصر وسائل جديدة لاكتساب المعرفة إلى جانب الوسائل التقليدية المتاحة اليوم. فبفضل حياة القلوب واكتمال العقول، يصبح الإنسان قادرًا على تحصيل العلم ليس فقط عبر الحواس الظاهرة، كالبصر والسمع، بل أيضًا من خلال الحواس أخرى كحاسة الشم، واللمس، والتذوق، بالإضافة إلى وسائل فوق حسية أعمق. وفي ظل الدولة الكريمة، لا يقتصر اكتساب المعرفة على الإدراك الحسي عبر العين والأذن، بل يمتد ليشمل القلب والبصيرة. ومع تطهير النفوس، وموت الشيطان، واكتمال العقول، يصبح من الطبيعي أن تُتاح للبشر طرق متعددة لتحصيل العلوم، بحيث لا تظل المعرفة حكرًا على الوسائل التقليدية. ومن أبرز مظاهر هذا العصر، أن الناس، بفضل حضور الإمام في المجتمع، سيصلون إلى منابع العلم بسرعة غير مسبوقة، وسيتلقون إلى جانب العلم البرهاني، العلم اللدني المستمد مباشرة من مصدر الوحي والمعرفة، وهو الإمام(عليه السلام).

أهم سمة مميزة للدولة الكريمة: تكامل البُعد الإنساني

إنّ أعلى وأسمى الأبعاد في البنية الوجودية للإنسان هو البُعد الإلهي، أو الإنساني، أو ماوراء العقلي. ففي هذا البُعد، يكون الإنسان عاشقًا لله، متطلعًا إلى أن يصبح كيانًا متشبهًا به من حيث الأسماء والصفات، وذلك لأن الله خلقه من روحه. إن جوهر جميع البشر وأصلهم يعود إلى روح الله، والتي تُعرف بـ المثل الأعلى أو نور محمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). وبما أن أصل الإنسان متجذر في روح الله، فإنه بطبيعته يميل إلى بلوغ ذلك المقام السامي، ويسعى للوصول إلى تلك المرتبة من القدرة والكمال.

بما أن الدولة الكريمة هي دولة حاكمية الإمام المعصوم والمتخصص بوصفه الإنسان الكامل، فإن البشر يجدون الفرصة للوصول إلى المقام المحمود ومقام خلافة الله في الأرض. وهذا الحدث هو أوج تمني الإنسان ومراده، إذ إن الهدف من خلقه هو بلوغ مرتبة الخلافة الإلهية وإقامة الحكم الإلهي على الأرض، وهو هدفٌ لا يتحقق إلا في ظل الدولة الكريمة بقيادة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف). إن الحكومة التي تسود الدولة الكريمة هي حكومة توفر جميع الظروف اللازمة لنمو الإنسان ورقيّه، وهي الوحيدة التي تهيئ له سُبُل التكامل والارتقاء الحقيقي. فلا توجد عبر التاريخ أي منظومة أو نظام آخر يمكنه أن يخلق مثل هذه الظروف، سوى حكومة الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف).

إن من أعظم آثار الدولة الكريمة أن جميع الناس على وجه الأرض يبلغون مرتبة معرفة الله ويغمرهم عشق الله. وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: ‘لا يبقى أحد في مشارق الأرض ومغاربها إلا وهو مؤمن بالله الواحد الأحد.’ وفي ظل الدولة الكريمة، ومع تهيئة الظروف المثلى لنمو الإنسان وتكامله، يُصبح القرآن هو الحاكم على العقول والتفكير الجمعي للبشرية، مما يؤدي إلى تحول الإنسان إلى كائن إلهي، متجذر في الإيمان، ومتآلف مع القرآن في فكره وأسلوب حياته.

في هذا العصر، يكتمل العقل البشري ويصل إلى أعلى مراتب نموه، كما يقوم الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بتكميل وترقية الأخلاق الإنسانية. ويُهيأ للإنسان القابلية والاستعداد لتلقي صفات الله وأسمائه المباركة والاتصاف بها. ويُصبح الطريق نحو التشبّه بصفات الله والتخلّق بأخلاقه العظيمة والرفيعة مُيسرًا إلى حدٍّ يصل فيه الإنسان إلى أعلى درجات الكمال العقلي والإلهي. وهذا النمو الهائل يؤدي إلى سيطرة البُعد الإلهي للإنسان على بقية أبعاده الدُنيا، بحيث يكون الجانب الروحي والعقلي هو المهيمن على حياته. إن الدولة الكريمة هي دولةٌ قائمة على المعنوية، إذ إن حاكمية الله على قلوب البشر والعالم بأسره تؤدي إلى خلق حياةٍ استثنائية مليئة بالسلام، الطمأنينة، والكمال الإنساني.

من أروع خصائص الدولة الكريمة أن عباد الله يقيمون علاقةً عميقة ومليئة بالعشق مع الغيب والعائلة السماوية. وحين تنشأ هذه الألفة الروحانية والصداقة الحميمية بين الإنسان وأهل السماء، يتحوّل هذا العشق إلى قوةٍ دافعة نحو الكمال، فيسمو الإنسان في مدارج الرقّي تحت أنوار هذا الحب الإلهي.

 الحالة الطيبة والرفاه الروحي للإنسان في الدولة الكريمة

إن الفارق الجوهري بين خصائص الدولة الكريمة وسائر الدول عبر التاريخ هو أن الإنسان في هذه الدولة ينظر إلى ذاته نظرةً إنسانيةً خالصة، ويوجّه جميع شؤونه، وقراراته، وأسلوب حياته وفق المبادئ الإنسانية والإلهية. وبما أن الإنسان في الدولة الكريمة قد بلغ مقام خليفة الله وتحققت وترسخت فيه صفات الله، فإنه لم يعد تائهًا بين معشوقاته المتعددة واهتماماته المتفرقة، بل أدرك هدفه الحقيقي، مما يقوده إلى الطمأنينة المطلقة التي تأتي نتيجة تحقيق الهدف الأسمى من الخلق، وتمنح الإنسان سعادةً عميقةً ودائمة. فالدولة الكريمة، في جوهرها، هي دولة الفرح والسرور، خالية من الحزن والكآبة. وكما ذكرنا سابقًا، فإن المرض لا مكان له في هذه الدولة، وكذلك الحزن؛ إذ إن الحزن في الإسلام ليس إلا مجرد شعور سلبي، بل ويُعتبر نوعًا من الفحشاء ومرضًا خطيرًا ومدمرًا، لذا فإنه لا يجد موطئ قدم في ظل حكم الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

قد أصبح الحزن في عالم اليوم ظاهرةً منتشرة، حيث يعاني معظم الناس من هذا الداء المؤلم لأسبابٍ مختلفة. قد يتمكن بعض المؤمنين، عبر الاجتهاد والتهذيب الذاتي، من بلوغ مقام النشاط الدائم، ولكن ليس جميع الناس يصلون إلى هذا المستوى. فما لم يصل الإنسان إلى الدولة الكريمة، ويخضع لتربية الإمام المعصوم وهدايته، فإنه لن يتمكن من تحقيق الإدارة الصحيحة والهندسة المتوازنة لمختلف أبعاد وجوده، وبالتالي لن تنتشر السعادة الحقيقية في العالم. ذلك لأن الدولة الكريمة هي دولة السرور والبهجة، وهي وحدها القادرة على تحقيق التوازن والطمأنينة في جميع أبعاد الإنسان، مما يجعله يعيش في انسجامٍ تام مع ذاته ومع الحياة من حوله.

من الأسباب الجوهرية التي تؤدي إلى ارتقاء الإنسان في الدولة الكريمة، وتعزز انجذابه العميق نحو التوحيد، هو انقطاع وساوس الشيطان عنه. من أكثر المحطات الحماسية في حياة الإنسان خلال هذا العصر، والتي تُعد من أبرز خصائص الدولة الكريمة، هو تحرره الكامل من قيود الوساوس الشيطانية، مما يمنحه الشوق والقوة للتحليق نحو الكمال الإلهي. إذ إن الشيطان، في ظل الدولة الكريمة، يُكتب له الفناء، حيث يُقتَل على يد الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وبذلك تنتهي حقبته وتأثيره على البشرية.

إن مجمل خصائص الدولة الكريمة تشكل منظومة متكاملة من الوسائل والعوامل التي تفتح أمام الإنسان أبواب التحليق في فضاء التوحيد، وتُهيئ له الطريق للوصول إلى أسمى درجات العشق الإلهي والطمأنينة بجوار الله.

 

[1] المجلسی، محمدباقر، بحارالأنوار، بیروت، دار إحیاء التراث العربی، ج 52، ص 335

[2] . القرآن الکریم: سورة الحج، الآیه 41/ تستری، نورالله بن شریف الدین، احقاق الحق و إزهاق الباطل، 1409، 13/341

[3] . النعماني، محمد بن ابراهیم، الغيبة، ص 297

[4] . الطوسي، محمد بن حسن، الغیبة للطوسی، قم، مؤسسة المعارف الإسلامیة، 1425، ص 111/ النعماني، محمد بن ابراهیم، غیبت نعمانی، تهران، دارالکتب الاسلامیه، 1362، ص 150

[5] . ابن طاووس، علی بن موسی، التشریف باالمنن فی التعریف بالفتن، قم، 1416، ص 299

[6] . المجلسي، محمدباقر، بحارالأنوار، بیروت، دار إحیاء التراث العربی، ج 100، ص 54، ح 28 و ج 52، ص 269 و ح 158

[7] . الطوسی، محمد بن حسن، تهذیب الأحکام، ص 188، حدیث 551

[8] . المجلسي، محمدباقر، بحارالأنوار، بیروت، دار إحیاء التراث العربی، ج 52، ص 339

[9] . نفس المصدر، جلد 53، ص 11

[10] . المجلسی، محمدباقر، بحارالأنوار، بیروت، دار إحیاء التراث العربی، ج 52، ص 336

المشارکة

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *