تاريخ قطاع غزة ودوره الاستراتيجي في معادلة المقاومة والصراع مع الكيان الصهيوني

تاريخ قطاع غزّة ودوره في صراع جبهة المقاومة مع الكيان الصهيوني

تاريخ قطاع غزة ودوره في صراع جبهة المقاومة مع الكيان الصهيوني

لا شكّ أنّك سمعت باسم قطاع غزّة مرارًا وتكرارًا. قطعة صغيرة، لكنها مضطربة من أرض فلسطين، طالما كانت بؤرة اهتمام، ومركزًا لتحولات وأحداث جسام في الشرق الأوسط. يقع هذا الشريط الساحلي على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، ويتمتّع بمكانة متميّزة في المعادلات الإقليمية والدولية، سواء من الناحية الجغرافية، أو التاريخية، أو السياسية. ويكفيك أن تعلم أنّه قد روي أنّ قبر “هاشم” جدّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم من جهة الأب، يقع في هذه المنطقة، لتدرك عمق رمزيتها.

قطاع غزّة شريط طويل وضيّق يمتد على الساحل الشرقي للمتوسط بطول 41 كيلومترًا، ويتراوح عرضه ما بين 6 إلى 12 كيلومترًا. ويعيش فيه نحو مليونين وثلاثمئة ألف نسمة، ما يجعله من أكثر بقاع الأرض اكتظاظًا بالسكان. يُعرف قطاع غزّة بأنه منطقة تتمتع بالحكم الذاتي وتخضع لسيطرة جبهة المقاومة الإسلامية “حماس”. يتكوّن القطاع من عدّة مناطق، وتعدّ مدينة غزّة – التي يسكنها نحو 400 ألف نسمة – المركز الأهم، إلى جانب مدينتي خان يونس ورفح اللتين تحتلان موقعًا محوريًا في خريطة القطاع. وقد خُلّد اسم غزّة في الأدبيات السياسية العالمية باعتباره مهد أعظم حركة نضالية في العصر الحديث، حيث انطلقت منها أول شرارة للانتفاضة الشعبية الكبرى، انتفاضة المسجد الأقصى.

لقد عرفت غزّة في التاريخ القديم باسم “مملكة غزّة”، في زمن حكم أورشليم تحت قيادة “هيرودس الكبير”. ومع بزوغ فجر الإسلام، دخلت غزّة في كنف العرب. وقد مرّت عبر التاريخ بمحطات قاسية، فكانت مسرحًا للعديد من المعارك بين العثمانيين والبريطانيين. وبعد سقوط الدولة العثمانية، استمرّ الاحتلال البريطاني للمنطقة حتى الحرب العالمية الثانية، ومن ثمّ تأسيس الكيان الصهيوني الغاصب. قبل أن يُطلَق مشروع “ثيودور هرتزل” لتأسيس وطن قومي لليهود، وقبل أن تهبّ الأمم المتحدة فلسطين هديةً للصهاينة، كانت فلسطين أرضًا موحّدة شاسعة، لا يشكّل قطاع غزّة فيها سوى رقعة صغيرة.

من عام 1947 إلى 1967 خضع القطاع للسيطرة المصرية، ثم احتلّه الكيان الصهيوني في حرب 1967. لكن في عام 2005 انسحبت قوات الاحتلال منه، واستعاد الفلسطينيون السيطرة عليه. في العام ذاته، فازت حركة حماس – التي كانت قد بدأت نشاطها منذ سنوات – في الانتخابات الفلسطينية، وظهرت كلاعب سياسي قوي. وفي عام 2007، تمكّنت حماس من إقصاء حركة فتح، وتولّت إدارة قطاع غزّة، الذي بات فعليًا منطقة مفصولة عن بقية الأراضي الفلسطينية.

من خلال استقراء تاريخ القطاع، نرى كيف قام الكيان الصهيوني بعد سيطرة حماس عام 2007 بتضييق الخناق عليها، فأغلق المعابر، ومنع دخول الوقود والدواء والغذاء، ودمّر البنى التحتية الحيوية. ويُظهر لنا تاريخ غزّة أيضًا أنّ الكيان أقام خلال سنوات احتلاله للقطاع عشرات القواعد العسكرية، والمستوطنات، والمنشآت الأمنية. وعلى مدار أكثر من 18 عامًا، عاش سكان القطاع تحت حصار خانق، تحكم فيه الاحتلال بكل شيء: الكهرباء، الوقود، الماء، المعدات الطبية، وغيرها. في المقابل، أنشأت جبهة المقاومة شبكة واسعة من الأنفاق تحت الأرض، جعلت من القطاع ساحةً للعديد من المعارك العسكرية القاسية مع العدو، وقدّم خلالها أهل غزّة آلاف الشهداء والجرحى على طريق المقاومة.

ويكشف تاريخ القطاع أيضًا أنه رغم انسحاب الاحتلال “الرمزي” بعد اتفاق أوسلو عام 1993، ثم في عام 1994، إلا أنه لم يُخلِ مستوطناته بالكامل، ولم يغادر محور “صلاح الدين الأيوبي” الحيوي.

في هذه المقالة، سنستعرض تاريخ قطاع غزّة عبر ثلاث مراحل: ما قبل عام 2000، فترة نشوء حركة حماس، وما بعد عام 2000، لكي تتجلّى لنا أهمية هذا الشريط الساحلي، ودوره العجيب في قلب التحولات التي يشهدها الشرق الأوسط والعالم.

تاريخ قطاع غزّة حتى عام 2000 ميلادي

بعد انهيار الدولة العثمانية التي استمرّت قرابة أربعمئة عام، قامت بريطانيا، عقب الحرب العالمية الأولى، برسم حدود جديدة في أراضي الدولة العثمانية السابقة، فجزّأت تلك المنطقة الواسعة إلى دول صغيرة، مثل: الكويت، فلسطين، سوريا، تركيا، العراق… تمامًا كما حدث مع سائر هذه البلدان، أصبحت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وظلّت مستعمَرة بريطانية لمدّة ستة وعشرين عامًا.

في تلك المرحلة، كانت فكرة إقامة وطن مستقل لليهود قد طُرحت من قِبَل “هرتزل”، وكان التوجّه نحو تنفيذ هذا المشروع يسير بسرعة متزايدة. وكما أشرنا في مقالة “مسار تشكيل دولة إسرائيل المزيفة “، فقد قدّمت بريطانيا دعمًا كبيرًا للمنظمات اليهودية، مما أدى إلى تدفّق أعداد كبيرة من اليهود إلى فلسطين. وفي عام 1948، أعلن الكيان الصهيوني قيام دولته على ما يقارب 45٪ من أراضي فلسطين.

مع تأسيس هذا الكيان الغاصب، أُجبر مئات الآلاف من الفلسطينيين على مغادرة منازلهم، فلجأ الكثير منهم إلى هذا الشريط الضيق الذي عُرف لاحقًا بـ”قطاع غزّة”، فيما اضطرّ آخرون إلى اللجوء للدول العربية المجاورة. عندها أعلنت بعض الدول العربية الحرب على إسرائيل، نتيجةً للضغوط الناجمة عن تدفّق اللاجئين، لكنها مُنيت بالهزيمة في النهاية.

يكشف تاريخ قطاع غزّة كيف تمزّقت فلسطين الموحّدة إلى أجزاء، فاستولى الصهاينة على الجهة الغربية وسمّوها “إسرائيل”، وأُنشئ ما بين هذا الكيان المصطنع والأردن شريط يُعرف بـ”الضفة الغربية”، سيطرت عليه “السلطة الفلسطينية”. أمّا الجزء الآخر، وهو “قطاع غزّة”، الواقع بين إسرائيل المصطنعة وصحراء سيناء، فقد خضع لاحقًا لسيطرة “حركة حماس“.

في عام 1967، اندلعت حرب مثّلت بداية الاحتلال الإسرائيلي لغزّة حتى اليوم. فخوفًا من تصاعد المقاومة الفلسطينية وتهديدات بعض الدول العربية، شنّت إسرائيل هجومًا على ثلاث دول: مصر، وسوريا، والأردن. وفي غضون ستة أيام، استولت على قطاع غزّة وصحراء سيناء من مصر، وعلى الضفة الغربية من الأردن، واحتلّت مرتفعات الجولان في سوريا.

فرضت إسرائيل سيطرتها التامّة على جميع المنافذ البرّية والبحرية والجوية لقطاع غزّة. وانتشرت قوات الاحتلال على طول حدود القطاع، لكنها كانت تسمح للفلسطينيين بالتنقّل بين غزّة، والضفة الغربية، والقدس. غير أنه بعد أشهر قليلة، تم تصنيف الفلسطينيين في الوثائق الرسمية الإسرائيلية كـ”غير مواطنين”. وفي الوقت نفسه، بدأت إسرائيل بإنشاء المستوطنات داخل قطاع غزّة، وهو ما أدى إلى الاستيلاء على المزيد من أراضي الفلسطينيين وعزلهم بشكل أكبر، بل إنّها سلبتهم حتى حق إنشاء مطار خاص بهم. كما استحوذت إسرائيل على القطاعات الاقتصادية الأساسية في غزّة، وفي مقدّمتها الزراعة، بهدف تشغيل العمال الفلسطينيين بأجور زهيدة، والاستفادة منهم في دعم اقتصادها.

مكانة حركة حماس في تاريخ قطاع غزة

دفعت التحديات الاقتصادية المتزايدة إلى تأسيس مؤسسة خيرية في غزة تُعرف باسم “المجمّع الإسلامي”، كانت تقوم ببناء مدارس، ومساجد، ومراكز صحية، إلى جانب توفير الطعام لسكان القطاع. وقد أُنشئت هذه المؤسسة عام 1970 على يد الشيخ أحمد ياسين. ومن اللافت أن جزءًا من تمويلها في بداياتها كان يأتي من إسرائيل نفسها، وذلك لأن نشاطها آنذاك كان محصورًا في المجالين الديني والاجتماعي، كما كانت تشكل حاجزًا في وجه نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية (ساف).

لكنّ الهدوء لم يدم طويلًا، وسرعان ما عاد التوتر ليخيّم على الأجواء. إسرائيل، التي كانت تخشى من تشكّل حركة مقاومة منظّمة، كثّفت من حملات الاعتقال ضد سكان غزة. وفي عام 1987، صدمت شاحنة إسرائيلية سيارة مدنية فلسطينية، مما أسفر عن استشهاد أربعة فلسطينيين. وقد أشعل هذا الحادث موجة غضب واسعة، أعقبتها إضرابات واحتجاجات، أدت إلى اندلاع الانتفاضة الأولى.

في خضمّ هذا التحوّل، تغيّرت هوية “المجمع الإسلامي” من مؤسسة خيرية إلى حركة مقاومة شبه عسكرية حملت اسم “حماس”. في تلك المرحلة، لم تكن حماس تتولى إدارة غزة، بل كانت تركز على هدفها الأساسي: تحرير فلسطين من الاحتلال غير المشروع. ومع استشهاد أكثر من 140 فلسطينيًا عقب الانتفاضة الأولى، بدأت حماس وفصائل المقاومة الأخرى تنفيذ عمليات مباشرة ضد إسرائيل. ومع منع الاحتلال لسكان غزة من الوصول إلى القدس الشرقية والضفة الغربية، اشتعلت شرارة انتفاضة جديدة عام 1991، جاءت أعنف من سابقتها، وسُجّلت في صفحات تاريخ قطاع غزة بوصفها لحظة فارقة.

لاحقًا، جاءت اتفاقية “أوسلو” بين إسرائيل ومنظمة التحرير، لتشكل منعطفًا كبيرًا في التاريخ الفلسطيني وتاريخ غزة. فبعد سنوات من الكفاح السياسي والمسلح، سلّمت منظمة التحرير سلاحها، واعترفت بدولة إسرائيل، على عكس حركة حماس – التي كانت حينها لا تزال صغيرة الحجم ومحدودة الشعبية – فقد رفضت هذه الاتفاقية جملة وتفصيلًا.

وقد أدت “أوسلو” إلى تأسيس هيئة حكم جديدة للفلسطينيين هي “السلطة الوطنية الفلسطينية“، والتي مهّدت لظهور الأحزاب السياسية وتنظيم الانتخابات في غزة. ومع أن السلطة لم تكن تملك سيطرة واسعة، إلا أن إسرائيل واصلت فرض سيطرتها على المعابر. وكان الفارق الجوهري بين حماس والسلطة أن الأخيرة تبنّت نهجًا تصالحيًا مع إسرائيل، بينما تمسّكت حماس بخيار المقاومة العسكرية الحازمة، ما أدّى إلى اندلاع مواجهات بين الطرفين. هذا الخلاف تحوّل إلى صدام مسلح، وتمّ ترسيم الحدود بين الجانبين، فانقسمت الأرض إلى منطقتين: سيطرت حماس على قطاع غزة، فيما بقيت الضفة الغربية تحت إدارة السلطة، رغم استمرار التوغلات الإسرائيلية التي كانت تقلّص حدود الدولة الفلسطينية المرتقبة يومًا بعد يوم. وفي التاريخ، أصبحت حماس أيقونة للمقاومة في غزة، ومن أبرز إنجازاتها بناء شبكة أنفاق تحت الأرض بطول 500 كيلومتر، كان بعضها مجهزًا بسكك حديدية.

تشير الوثائق إلى أن اتفاقية أوسلو وعدت الفلسطينيين بقدر من السيادة والاستقلال، بل وأعطتهم أملًا في إقامة دولتهم خلال خمس سنوات، غير أن هذه الوعود لم تُنفذ أبدًا. بل على العكس، واصلت إسرائيل سياسة الاستيطان. وفي العام التالي، اندلعت سلسلة من التفجيرات والمواجهات بعد أن أقدم مستوطن إسرائيلي على مهاجمة فلسطيني. عندها دعا رئيس وزراء إسرائيل إلى بناء جدار عازل حول غزة، فبات القطاع محاصرًا، معزولًا عن العالم، وفقد الفلسطينيون ثقتهم بأي تسوية أو مفاوضات، مما أدى إلى اندلاع الانتفاضة الثانية.

تاريخ قطاع غزّة بعد عام 2000 ميلادي

في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 2000، قام رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي “أريئيل شارون” بزيارة استفزازية إلى المسجد الأقصى، أقدس المقدسات لدى المسلمين في فلسطين، في وقتٍ لم يكن فيه المسلمون الفلسطينيون أنفسهم قادرين على دخول هذا المكان المقدس، بفعل الحصار والقيود الإسرائيلية. أثارت هذه الخطوة غضبًا واسعًا، أعقبته احتجاجات وإضرابات عارمة. وفي اليوم التالي، استُشهد أربعة أطفال فلسطينيين، ما أدى إلى اندلاع موجة من الهجمات الاستشهادية والمواجهات المسلحة من قِبل الفلسطينيين.

في تلك المرحلة من تاريخ قطاع غزة، تمكن الفلسطينيون من اختراق جزء من الجدار الدفاعي الإسرائيلي المحيط بالقطاع، لكن إسرائيل سارعت إلى ترميمه وتعزيزه. كما زادت من انتشار قواتها العسكرية والأمنية، وفرضت قيودًا مشددة على التنقل والسفر، بل وصلت إلى تدمير المطار الوحيد في غزة، بالإضافة إلى الميناء الذي كان قيد الإنشاء. وخلال الانتفاضة الثانية، سُجل مقتل قرابة 3000 فلسطيني مقابل 900 إسرائيلي. وكان أحد الأسباب المفصلية لانتهاء هذه الانتفاضة في عام 2005 انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، حيث تمّ إخلاء المستوطنات اليهودية، في ما عُرف باسم “خطة الانفصال الأحادي عن غزة”، وهو حدث بارز في سجل التاريخ الفلسطيني.

وفي العام ذاته، أُبرم اتفاق دولي جديد بعنوان “اتفاق الحركة والوصول” (AMA)، والذي نصّ على أن تتولى السلطة الفلسطينية مسؤولية الإشراف على معبر رفح الحدودي بين غزة ومصر، وذلك برعاية الولايات المتحدة وبتعاون من الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أن إسرائيل كانت طرفًا في الاتفاق وملزمة بالسماح للسلطة الفلسطينية بالإشراف على المعبر بالتنسيق مع المراقبين الأوروبيين، إلا أنها في الواقع استمرت في فرض سيطرة مشددة على المعبر ومنعت تطبيق بنود الاتفاق كما هو منصوص عليه.

وتُظهر صفحات التاريخ أن حماس حققت انتصارًا ساحقًا في أول انتخابات جرت بعد الانتفاضة الثانية عام 2006، واستحوذت على السلطة في القطاع. وفي المقابل، تلقّت حركة “فتح”، المدعومة من السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير والتي كانت تتبنى نهج المفاوضات مع إسرائيل، هزيمة قاسية، بعدما رآها الشعب الفلسطيني عاجزة عن تحقيق نتائج ملموسة. كما حصلت حماس على 63 مقعدًا من أصل 132 في المجلس التشريعي الفلسطيني، وهو ما شكّل محطة تاريخية فارقة في مسيرتها. وقد فجّر هذا الفوز خلافات سياسية حادة، سرعان ما تطورت إلى صدامات عنيفة بين الحركتين، أدت في نهاية المطاف إلى انقسام جغرافي وسياسي: سيطرت حماس على قطاع غزة، فيما بقيت الضفة الغربية تحت نفوذ حركة فتح والسلطة الفلسطينية.

نظرة عامة على أوضاع غزّة في سنوات الحصار

بعد فوز حركة حماس في انتخابات عام 2006، وسيطرتها على قطاع غزة إثر صدامات داخلية مع حركة فتح، شعرت إسرائيل بالغضب والذعر، وسارعت إلى فرض حصار خانق على غزّة في عام 2007، وهو الحصار الذي لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا. لقد مضى ما يقرب من 18 عامًا على هذا الحصار القاسي، حيث يعيش قرابة مليوني إنسان في هذا الشريط الساحلي الضيق وكأنهم داخل سجن كبير.

أغلقت إسرائيل جميع المعابر التجارية الرئيسية، ومنعت دخول كل أشكال الاستيراد والتصدير، بما في ذلك الوقود، والأدوية، والمواد الغذائية، ومواد البناء. بل وصل الأمر إلى حدّ إعداد نماذج لتحديد الحد الأدنى من السعرات الحرارية اليومية التي يُسمح لسكان غزّة بالحصول عليها. وفي السنوات التالية، تدهورت الأوضاع أكثر، إذ جرى تدمير العديد من البُنى التحتية الحيوية، من بينها محطات الكهرباء، ومنعت إعادة إعمارها بحجة حظر إدخال مواد البناء.

بحلول ما قبل عملية “طوفان الأقصى”، أصبح ما يزيد عن 80٪ من مياه غزة غير صالحة للشرب، ونحو 65٪ من سكان القطاع يعتمدون على المساعدات الغذائية، فيما يحصل السكان على الكهرباء بمعدل 11 ساعة فقط يوميًا. كما شهد تاريخ قطاع غزة خلال سنوات الحصار سلسلة من العمليات العسكرية العنيفة: حرب الرصاص المصبوب (2008–2009): استمرت 22 يومًا، وأودت بحياة نحو 1500 فلسطيني، وجرح حوالي 5500 آخرين.
عملية “عودة الصدى” (2012)،  عملية “عامود السحاب” (2012)، حرب “الجرف الصامد” (2014): استمرت 51 يومًا، وخلفت ما يقرب من 2000 شهيد، و1000 جريح. مظاهرات العودة الكبرى (2018): استشهد خلالها نحو 170 فلسطينيًا، هَبّات شعبية في 2018 و2021 و2022، خلفت مئات الشهداء والجرحى،  عملية “سيوف الحديد” (2023): قُتل خلالها نحو 2000 فلسطيني وجُرح 5000 آخرون، عملية “مطرقة الأقصى”، واحدة من أبرز المعارك في ظل الحصار. وبحسب تقارير قناة الجزيرة، فقد بلغت حصيلة الشهداء الفلسطينيين في قطاع غزة حتى 10 ديسمبر 2023 نحو 18 ألفًا، وبلغ عدد الجرحى قرابة 50 ألفًا. وأظهرت التقارير أن إسرائيل ألقت أكثر من 52 طنًّا من المواد المتفجرة على القطاع، ودمّرت نحو 300 ألف منزل، وتسبّبت في تشريد أكثر من مليون ونصف المليون شخص. ويُعد الهجوم الوحشي على مستشفى المعمداني، الذي كان ملاذًا للنازحين والجرحى، من أفظع الجرائم، حيث راح ضحيته ما يقرب من 500 مدني شهيدًا.

أهمية قطاع غزّة في المعركة الأخيرة بين الحضارات

منذ أن خلق الله الإنسان، ووقف إبليس في وجه خالقه ومخلوقه، انقسم العالم إلى جبهتين: جبهة الحق وجبهة الباطل. ومنذ ذلك الحين، وإلى يوم ظهور المنجي الموعود وبزوغ فجر الحضارة العالمية الحديثة، لم يتوقف الصراع بين هاتين الجبهتين. وكلّ البشر، في كلّ عصر ومكان، ينتمون، بوعي أو دون وعي، إلى أحد الحزبين: حزب الله أو حزب الشيطان. عبر التاريخ، كان اليهود، في نظر بعض المعتقدات العقائدية، يشكّلون النواة الأكبر لحزب الشيطان، ويسيرون بخطى ثابتة لتحقيق مخططات إبليسية، لطالما أراد بها الشيطان الانتقام من الإنسان، ذلك الذي كان سبب طرده من رحمة الله. لقد تعهد أن يضلّل الإنسان، ويهلكه، إلا من بلغ درجة عالية من الإخلاص.

تشكيل حزب الشيطان لم يكن أمرًا صعبًا، إذ تمّ ذلك من خلال غرس الفكر الصهيوني في القلوب، لكنه كان بحاجة إلى ساحة واقعية تتجلى فيها المواجهة بين الخير والشر. كان لا بدّ للعالم أن يرى بأمّ عينيه شعبًا تشبّث بالإيمان حتى أصبحت قلوبه أقوى من الحديد، لا تهزّها إلا عظمة الله، ولا تخشاها إلا الشياطين.

إن بناء الحضارة العالمية الجديدة وإقامة دولة كريمة للإمام المهدي(عجّل الله فرجه الشريف) لن تقوم على المعجزات، ولو كانت كذلك، لكانت قد قامت منذ قرون. لكنّ الله قرر أن يخوض الإنسان امتحانًا عظيمًا، ليعيد اكتشاف “روح الله” الكامنة فيه، ويشعر بعمق الحاجة إلى مربٍ معصوم، يقوده في هذا الطريق الوعر. وهذه التجربة الروحية هي ما تولد في الإنسان حماسةً للسعي والجهاد، ويُمهد لظهور المنجي المنتظر.

فلسطين هي رمز سرّي لظهور الحق، وغزّة هي ساحة رمزية في معركة نهائية بين الحضارات في آخر الزمان. هذا الشريط المحاصر من كلّ الجهات، يتعرض يوميًا لفقد الأحبة والأمان، للخراب والحصار، لكنه لا يزال ينبض بالحياة. فشريان التوحيد وعشق الله لا يزال يجري في أعماقه. تمثّل غزّة نموذجًا مصغّرًا لكلّ قلب بشري يواجه فتنة آخر الزمان، حيث تتساقط النفوس وتنبثق الأرواح في لحظات حاسمة. كلّ إنسان، عاجلًا أم آجلًا، سيمر من هذه المعركة، وعليه أن يختار: في أيّ جيش سيكون؟ ولأيّ معسكر سيدفع الثمن؟

إن الموقف من غزّة ليس رأيًا سياسيًا أو شعورًا عاطفيًا، بل هو تجلٍّ عقائديٌّ لجوهر النفس. فغزّة ليست مجرد موقع جغرافي يمكن إقصاؤه بشعار “غزة ولبنان لا تعنينا”، وليست قضية شعب بعيد؛ إنها مرآة صراع أزلي بين جبهة التوحيد وحزب الشيطان.

إن تحقيق الحضارة الإلهية لن يتمّ إلا عبر آلام السير، ومشقّة التمحيص، وحرقة البلاء. لا بدّ من دفع الثمن: بالنفس، والمال، والمأوى، والأمن، والراحة، وكلّ ما يحبه الإنسان في هذه الدنيا. لكن في النهاية، فإن وعد الله حق: “ونريد أن نمنّ على الذين استُضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمّة، ونجعلهم الوارثين.”

نحن اليوم في اللحظات الأخيرة قبل طلوع الفجر، وقد اقترب الوعد الإلهي من التحقق، وسيغلب حزب الله بقيادة قائده المعصوم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) على الشيطان وحزبه الصهيوني، ويمحوه من وجه التاريخ، محوًا لا رجعة فيه.

 

المشارکة

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *