نظرة على تاريخ بني إسرائيل ودراسة خصائصهم الأخلاقية

كيف وصف القرآن الكريم تاريخ بني إسرائيل ، وكيف وصف خصائصهم؟

كيف وصف القرآن الكريم تاريخ بني إسرائيل ، وكيف وصف خصائصهم؟

بني إسرائيل، وتعني “أبناء إسرائيل”، هو اسم قوم من الأقوام اليهودية الذي ذُكر 41 مرة في القرآن الكريم. يُطلق هذا الاسم على هذا الشعب نسبةً إلى النبي يعقوب عليه السلام، إذ ان اسم “إسرائيل” هو الاسم الآخر للنبي يعقوب. سردت كتب العهدين القديم والجديد تاريخ بني إسرائيل وتحولاتهم وصفاتهم بشكل مفصل. كلمة “إسرائيل” عبرية الأصل، وقد استخدمت للإشارة إلى النبي يعقوب بناءً على اعتقاد بأنه قد صارع الله أو أحد ملائكته.[1] ومع ذلك، قام بعض علماء اللغة المتخصصين في الكتاب المقدس بتفسير الكلمة على أنها تعني “عبد الله”[2].

ورغم أن مصطلح “بني إسرائيل” هو تعبير قرآني أصيل، حيث أنه ورد في القرآن الكريم لأول مرة، إلا أن الكتاب المقدس يروي أيضاً العديد من القصص حول أبناء وأحفاد النبي يعقوب، أو ما يُعرف تاريخياً بتسمية بني إسرائيل.

لقد استخدم الكتاب المقدس تعابير متنوعة للإشارة إلى هذا القوم، مثل “نسل إسرائيل”[3]، “مجموعة المؤمنين الذين هم أبناء الله”[4]، أو “أسباط إسرائيل العشرة” لتمييزهم عن يهوذا[5]. ويهوذا هو اسم أحد أبناء النبي يعقوب الاثني عشر. عند استعراض تاريخ بني إسرائيل، نرى أنه بعد هجرة أبناء النبي يعقوب عليه السلام إلى مصر في زمن النبي يوسف عليه السلام، مرّ هذا القوم بالكثير من الأحداث التي تناولناها في المقالات السابقة. وفي النهاية، وبعد معاناة طويلة، بعث الله النبي موسى عليه السلام لإنقاذ بني إسرائيل.

من بين الأقوام القليلة التي تناول القرآن الكريم قصصها بتفصيل ودقة، يبرز قوم بني إسرائيل والنبي موسى عليه السلام. ورغم أن هذا القوم ظهر بعد النبي يعقوب عليه السلام، إلا أن القرآن غالبًا ما يشير إلى أتباع النبي موسى وذريتهم باسم بني إسرائيل، مع أن وجودهم كان قبل زمن النبي موسى.

نرى في تاريخ بني إسرائيل، كيف منحهم الله عزّة ومكانة عظيمة وفضّلهم على أهل زمانهم.[6] وقد ورد هذا التفضيل في عدة مواضع في القرآن الكريم عند الحديث عن بني إسرائيل والنبي موسى عليه السلام.[7] لكن هذا التفضيل كان مقتصرًا على عصرهم وبيئتهم فقط، وليس على جميع العصور أو شعوب العالم. سبب هذا التفضيل كان النعم والمعجزات التي أظهرها الله لهم لإقامة الحجة عليهم. ولكنم لم يحسنوا استخدام هذه النعم، وأصروا على عنادهم ومخالفتهم لأوامر الله.

لقد منح الله بني إسرائيل نعماً كثيرة: وجود العديد من الأنبياء، الاستقلال، المعجزات الكثيرة، ونعمة التفضيل على أقوام عصرهم. ولكن هذه الأمة، على الرغم من أنها شاهدت العديد من المعجزات بأم أعينها، وتمتعت بعنايات ورزق خاص من الله، إلا أنها بلغت أقصى درجات الجحود والعناد تجاه الله ونبيه. ولذلك فقد أنزل الله عليهم أشد أنواع العذاب.

في هذا المقال، نتناول تاريخ بني إسرائيل والنبي موسى عليه السلام كما ورد في القرآن الكريم والتوراة، بالإضافة إلى الأحداث التي وقعت لهم وردود أفعالهم تجاه تلك الأحداث.

الأحداث التي وقعت لبني إسرائيل قبل بعثة النبي موسى

من خلال دراسة تاريخ بني إسرائيل والنبي موسى كما ورد في القرآن الكريم ومصادر أخرى موثوقة، ندرك أن بني إسرائيل لم ينالوا النبي موسى بسهولة و دون مشقة، بل بُعث إليهم بعد سنوات طويلة من المعاناة والمحن والابتلاءات. ومع ذلك، لم يدركوا قيمة هذه النعمة العظيمة ولم يقدروها حق قدرها.

ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): “أوحى الله إلى النبي إبراهيم أنه سيرزق بولد، فأخبر زوجته سارة بذلك. لكنها شككت في صحة الخبر وقالت: كيف أُنجب في مثل هذا العمر؟[8] فأوحى الله إلى إبراهيم أن سارة ستُنجب، ولكن بسبب شكها في صدق كلامي، ستتعرض ذريتها لمعاناة شديدة لمدة 400 عام.”[9]

مرت السنوات، وعندما طال أمد معاناة بني إسرائيل ولم يعد بإمكانهم تحمل المزيد، اجتمعوا معًا وبدأوا بالاستغاثة والبكاء لمدة 40 يومًا، طالبين من الله أن يرسل لهم منقذًا.

عندما رأى الله استغاثة بني إسرائيل الصادقة وتضرعهم الشديد، اختار النبي موسى عليه السلام للنبوة، وأوحى إليه أن ينقذ بني إسرائيل من ظلم فرعون. وبذلك تغاضى الله عن الـ170 عامًا المتبقية من العذاب وأرسل إليهم المخلّص. ثم قال الإمام الصادق (عليه السلام) في تتمة حديثه: “إذا تصرفتم أنتم الشيعة بهذه الطريقة أيضًا، واستغثتم لظهور المخلّص بصدق، فإن الله سيفرج عنكم. أما إذا استمررتم في غفلتكم وعدم الاكتراث، فإن مدة ابتلائكم بغيبة الإمام وتأخر الفرج لن تُختصر.”[10]

نقرأ في تاريخ بني إسرائيل أنه عندما كان النبي يوسف عزيز مصر اشتد القحط في كنعان، فهاجر  النبي يعقوب وأبناؤه إلى مصر وعاشوا هناك سنوات عديدة. بعد وفاة النبي يوسف عليه السلام وإخوته الذين كانوا يُعتبرون الركيزة الأساسية لبني إسرائيل، بدأت الأجيال اللاحقة تظهر وتنمو بسرعة كبيرة، حتى أصبحوا قومًا عظيمًا انتشروا في جميع أنحاء مصر. عندها خافت حكومة مصر من ازدياد قوة بني إسرائيل واحتمالية تمردهم، فبدأوا بالتضييق عليهم، واستعبدوا بني إسرائيل في فترة قصيرة.

كما كان المصريون يعاملون الغرباء بقسوة، فكانوا يُخضعونهم للخدمة ويُعذبونهم. ومن ناحية أخرى، ورد في روايات الأنبياء السابقين وكهنة مصر أن فتى من بني إسرائيل سيأتي ويقلب عرش فرعون رأسًا على عقب.[11]

ولهذا السبب لم يعد لدى بني إسرائيل أمان على حياتهم، و عانوا من التهجير و واجهوا صعوبات كثيرة. قبل أن يُبعث النبي موسى عليه السلام للنبوة، وأثناء إقامته في مصر، قَتل رجلاً قبطياً[12] عن طريق الخطأ في حادثة دفعته إلى الفرار من مصر. فتوجه موسى إلى مدين، و تزوج إحدى بنات النبي شعيب عليه السلام. بعد عشر سنوات قضاها هناك، غادر مدين عائداً إلى مصر. وأثناء رحلته، وفي طريقه عند جبل الطور، بعثه الله واصطفاه نبياً. هناك، كلم الله النبي موسى عليه السلام بلا واسطة، وأمره بالعودة إلى مصر لهداية فرعون وقومه وتنبيههم، وكذلك لإنقاذ بني إسرائيل من ظلم فرعون.

امتثل النبي موسى للأمر الإلهي وانطلق مع أخيه هارون وعائلته لتنفيذ ما أمره الله به. يمكنكم المعرفة على تفاصيل هذه الأحداث في المقالات السابقة.

H2 قصة وتاريخ بني إسرائيل بعد رسالة النبي موسى عليه السلام

جاء في تاريخ بني إسرائيل أنه عندما دعا النبي موسى عليه السلام فرعون إلى التوحيد وعبادة الله، أصر فرعون على كفره و استمر في طغيانه. وقد أظهر النبي موسى عليه السلام بأمر من الله، معجزات كثيرة لفرعون وقومه، بل وأرسل الله عليهم بلاءات شديدة وعجيبة. و كانوا بعد كل مرة يعدون موسی بالإيمان إذا رُفع عنهم البلاء، ولكنهم كانوا ما إن يُرفع عنهم حتى يعودوا إلى كفرهم وطغيانهم.

لذلك فقد أمر الله موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل من مصر لينقذهم من ظلم فرعون. وافق بنو إسرائيل وخرجوا معه، إلا أن فرعون وجيشه علموا بهروبهم وتبعوهم. فوجد بنو إسرائيل أنفسهم في موقف شديد الحرج، البحر من أمامهم و جيش فرعون الضخم من خلفهم. عندها أوحى الله إلى موسى أن يضرب بعصاه البحر، فانشق بأمر الله ليمرّ بنو إسرائيل بسلام، وعندما حاول فرعون وجيشه العبور خلفهم، أغرقهم الله في البحر، و نجا بنو إسرائيل من ظلم فرعون وجنوده.

بعد خروج بني إسرائيل من مصر بثلاثة أشهر، دخلوا أرض سيناء، وحدثت لهم أحداث مهمة جداً في هذه الفترة. وقد وصف القرآن الكريم العديد من المعجزات العظيمة من تاريخ بني إسرائيل والنبي موسى. خلال هذه الفترة أغدق الله عليهم نعمه في الصحراء؛ كانت غمامة تظلّلهم من حرارة الشمس، وينزل عليهم “المن” ليأكلوا، ويأتيهم طائر مشوي عند المساء. وكان موسى عليه السلام يضرب حجرًا بعصاه، فتتفجر منه اثنتا عشرة عينًا من الماء، تصل إلى كل قبيلة لتروي عطشهم. سوف نوضح  كل من هذه الأحداث والوقائع ونتحدث بالتفصيل في تاريخ بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر. [13]

H3 عصيان بني إسرائيل لأمر الله بالجهاد والتيه في الصحارى

تروي قصص تاريخ بني إسرائيل أن الله سبحانه وتعالى جعل أرض فلسطين المقدسة ميراثًا لهم بعد زوال حكم الفراعنة[14]، وكان من المفترض أن يعيشوا فيها بسلام وأمان. غير أن هذا الوعد الإلهي كان مشروطًا بأمرين: أن يطهّروا الأرض من عبادة الأصنام والشرك، وأن يلتزموا بتعاليم الأنبياء دون مخالفتها. لكن إقامة بني إسرائيل في الأرض المقدسة لم تكن ممكنة إلا إذا خاضوا الجهاد ضد الظالمين والمستكبرين. وإذا امتنعوا عن تنفيذ هذا الأمر، كان ذلك يُعد عصيانًا لوصية الله ونقضًا للعهد الذي أبرموه مع ربهم. وفي هذه الحالة، ينتهي الوعد الذي كان بينهم وبين الله عزوجل.

أبلغ النبي موسى عليه السلام بني إسرائيل بأمر الله وأكد لهم أنهم إذا عصوا هذا الأمر وتراجعوا، فسيواجهون خسارة عظيمة. فقرر موسى أن يرسل اثني عشر قائدًا من بني إسرائيل لاستطلاع أرض كنعان. بعد فترة عاد هؤلاء القادة، و كان قد أصاب عشرة منهم الخوف الشديد من قوة وشدة سكان الأرض المقدسة، فبثوا الخوف في قلوب الآخرين. لكن اثنين منهم، وهما يوشع بن نون و كالب بن يفنى، قاموا بحث القوم على المضي قدماً لفتح الأرض الموعودة و التوكل على الله و قوته اللامحدودة، لكن بني إسرائيل كانوا قد صرفوا النظر عن مواجهة الموت وخشوا من أسر نسائهم وأطفالهم، فرفضوا المشاركة في القتال وعصوا الأمر الصريح من الله ونبيه[15]، ورغم محاولات النبي موسى عليه السلام وأخيه هارون ويوشع وكالب لإقناعهم، إلا أن جهودهم لم تؤتِ ثمارها.[16] بل إن بني إسرائيل عبروا عن ندمهم على ترك مصر، وذهبوا إلى حد التفكير في اختيار قائد جديد للعودة إليها. كما بلغ بهم التمرد والجسارة أن قالوا للنبي موسى بكل وقاحة: “يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا  فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[17]“، ووضعوا شروطًا غير مقبولة، قائلين إنهم سيدخلون الأرض المقدسة فقط إذا تركها سكانها وغادروها بأنفسهم.

هذا العصيان الذي أظهره بنو إسرائيل ورفضهم تنفيذ أوامر النبي موسى عليه السلام أدى إلى حرمانهم من دخول الأرض المقدسة لمدة 40 عامًا، حيث ظلوا تائهين في الصحارى خلال هذه الفترة. عاشوا في وادي “التيه”،[18] ولم يُسمح لهم بدخول بيت المقدس، وواجهوا العديد من الأحداث المختلفة خلال تلك المدة. [19] يقع هذا الوادي في شبه جزيرة سيناء، وهو الجزء الجنوبي من فلسطين، الذي يتميز بكونه منطقة صحراوية تغطيها الرمال، مع ندرة الغطاء النباتي فيها.[20]

في التوراة، تم التطرق إلى هذا الجزء من تاريخ بني إسرائيل بشكل مفصل، ونجد هناك تطابقًا مثيرًا للاهتمام مع هذا الجزء من حياة بني إسرائيل والنبي موسى في القرآن الكريم. في النهاية، بعد العديد من الصعوبات والمعاناة على مدار 40 عامًا من التيه في الصحراء، قبل الله توبتهم، وتمكنت الأجيال اللاحقة منهم من فتح الأرض المقدسة.

H3 ذهاب النبي موسى إلى الميقات وقصة العجل والسامري

في نقل تاريخ بني إسرائيل والنبي موسى في القرآن، ورد أن النبي موسى ذهب إلى ميقات جبل الطور لتأسيس نظام توحيدي لعبادة الله وتلقي التوراة[21]. ولكنه قبل ذهابه عيّن أخاه هارون خليفة له في فترة غيابه وأوصاه بكل ما يلزم و انطلق إلى جبل الطول ليقضي الليل هناك في المناجاة مع الله. ولكن بناءً على أمر الله، استمر اللقاء أكثر وامتد لمدة عشرة ليالٍ إضافية، ليصل مجموع الليالي إلى 40 ليلة. يُطلق على هذه الفترة “أربعينية موسى” أو “الأربعينية الكليمية”[22]. و ورد في القرآن أن ألواح النبي موسى والتوراة أُعطيت له خلال فترة وجوده في جبل طور.[23] بعد إتمام تلك الفترة، عاد النبي موسى إلى بني إسرائيل.

وجاء في تاريخ بني إسرائيل أنه لما طال رجوع موسى من جبل الطور وغاب عن قومه مدة طويلة، انتشرت شائعة وفاته في بني إسرائيل. [24] فوسوس لهم الشيطان وحثهم إلى عبادة إله جديد. صنع رجل اسمه “السامري” عجلاً ذهبياً ودعا بني إسرائيل إلى عبادته مع أتباعه. [25]

كان العجل مقدسًا لدى المصريين وقد تم زرع هذه الفكرة في بني إسرائيل أيضًا. يشير القرآن إلى أن السامري هو من صنع العجل الذهبي ودعا بني إسرائيل لعبادته، بينما تعتقد التوراة أن النبي هارون هو من صنع العجل الذهبي[26]. يصف القرآن عجل السامري ككائن يشبه الحيوان وله صوت كصوت البقر. يقول المفسرون إن السامري وضع العجل في مسار الرياح، فكان الصوت يصدر نتيجة لهبوب الرياح. كما أن هناك تفسيرات أخرى مثل أن السامري أخذ قبضة من التراب الذي كان تحت قدم الحيوان الذي كان يحمل النبي جبريل ووضعها في جسم العجل مما أدى إلى إصدار الصوت[27] و ورد في بعض الروايات أن الله قال لموسى: “لقد جعلت الصوت في العجل لاختبارهم.[28]

كان هارون، وفقاً لروايات تاريخ بني إسرائيل في القرآن، خليفةً لموسى بين قومه. قام بتحذير قومه  بشدة من عبادة العجل الذهبي، ونهاهم عن ذلك[29]، إلا أن معظم القوم استمروا في اتباع السامري وعبدوا العجل[30] وعندما علم موسى بما حدث، انفجر غضباً وكسر الألواح، ووبَّخ قومه على ما فعلوا، وعاتب أخاه هارون على عدم تمكنه من منعهم[31]. وفي النهاية، تم معاقبة السامري على فعله[32]، وأمر موسى وأتباعه بحرق العجل ورمي رماده في البحر.[33]

وفي دراسة تاريخ بني إسرائيل كما ورد في القرآن الكريم، يظهر أن العقاب الذي فرضه الله على عَبَدَة العجل لم يكن له مثيل في تاريخ الأنبياء، لأنهم على الرغم من المعجزات الباهرة التي شهدوها بأعينهم، عادوا إلى عبادة الأوثان، فحلَّ غضب الله عليهم، وكتب عليهم الذل في حياتهم.[34] وأمرهم الله على لسان نبيهم موسى أن يطهّروا أنفسهم من هذا الإثم بقتل كل من عبد العجل[35]، سواء كان قريبًا أو صديقًا. وقد ورد في التوراة أن نحو ثلاثة آلاف شخص قُتلوا في هذه الحادثة[36]. وبعد هذه العقوبة، سواء شملت جميع المذنبين أم لا، قُبلت توبة بني إسرائيل.

طلب بني إسرائيل رؤية الله جهرةً

إن طلب رؤية الله كان طلباً جاهلاً من قِبَل قوم بني إسرائيل، فقد أرادوا أن يروا الله بأعينهم، بينما البصر عاجز عن رؤية الله ولا يملك القدرة على ذلك[37]. وقد كان النبي موسى عليه السلام مؤمناً بهذا الأمر، ولكن بما أن الله كان قد كلَّمه، فقد تجاهل قومه حدود القدرة الوجودية المتعالية الموجودة عند النبى موسى و بنفس الوقت لم يدركو ضعف بصيرتهم[38] و أصروا على رؤية الله عزوجل جهرة. [39]

هناك نظريات مختلفة حول توقيت وقوع هذا الحدث. يرى البعض أن هذه الواقعة حدثت قبل حادثة عبادة العجل، بينما يعتقد آخرون أنها وقعت بعد تلك الحادثة في تاريخ بني إسرائيل. يبدو أن الروايات التي تقول بحدوثها قبل عبادة العجل أكثر منطقية واستناداً إلى الأدلة، حيث تُعد طلب رؤية الله جزءاً من واقعة الميقات ونزول التوراة على جبل طور. ومع ذلك، لا يمكن تقديم رأي قاطع بشأن توقيت هذه الحادثة.

في سياق الحديث عن تاريخ بني إسرائيل والنبي موسى عليه السلام في القرآن، ورد أن عدداً من الذين لم يكونوا متيقنين تماماً من كون التوراة كتاباً إلهياً، طلبوا من موسى أن يكونوا شهوداً على نزولها عليه. فاختار النبي موسى سبعين رجلاً منهم واصطحبهم إلى الميقات. ولكن عندما سمع ممثلو بني إسرائيل صوت الله وكلامه مع النبي موسى، لم يكتفوا بذلك، بل طلبوا رؤية الله بأعينهم[40]. إثر هذا الطلب، نزلت عليهم صاعقة أودت بحياتهم جميعاً. ولكن النبي موسى دعا الله من أجلهم، فأحياهم الله برحمته. ومع ذلك، استمروا في عدم الإيمان وقالوا: “يكفي أن تراه أنت فقط، ونحن سنؤمن بك”. حاول النبي موسى أن ينصحهم، لكنهم أصروا على عنادهم. وقد ورد في قصة بني إسرائيل أن النبي موسى عليه السلام تحدث مع الله، فقال الله له: “ِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ‏ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَراني‏”[41] وبإرادة الله، تلاشى الجبل. وأمام هذا المشهد العظيم، انبهر النبي موسى بعظمة الله؛ “و خَرَّ مُوسَى صَعِقًا”.

ويُروى أيضًا أنه بعد عودة موسى عليه السلام من الميقات ومواجهته لعبادة بني إسرائيل للعجل، أمره الله بالذهاب إلى جبل الطور مرة أخرى مع جماعة من بني إسرائيل، ليعتذروا ويتوبوا عن فعلتهم القبيحة. فاختار موسى سبعين رجلاً منهم وذهب بهم إلى الطور. هناك أصيبوا بـ”الرجفة”، وهي اهتزازات شديدة في أجسادهم أدت إلى هلاكهم. عندئذٍ دعا موسى الله من أجلهم، فاستجاب الله لدعائه وأنقذهم منها. [42] تُظهر هذه الواقعة، سواء كانت قبل أو بعد عبادة العجل، مدى العناد والتمرد اللامحدود لدى بني إسرائيل، حيث كانوا دائماً يبحثون عن الأعذار ويمارسون العناد في كل قضية، دون أن يتراجعوا عن أهدافهم.

قصة بقرة بني إسرائيل

وردت قصة بقرة بني إسرائيل ضمن المعجزات التي حدثت على يد موسى عليه السلام. يُحكى أن مجموعة من بني إسرائيل قتلوا رجلاً مسناً ثرياً من أقاربهم بهدف الاستيلاء على أمواله، ثم ألقوا التهمة على غيرهم. ولحل النزاع، لجأوا إلى موسى عليه السلام للتحكيم. فأوحى الله إلى موسى أن يأمرهم بذبح بقرة، وأخذ جزء منها وضرب المقتول به ليعود للحياة ويكشف عن قاتله.

في البداية، ظن بني إسرائيل أن النبي موسى يسخر منهم، فلم يأخذوا الأمر بجدية. ومع ذلك، قرروا في النهاية تنفيذ الأمر، لكنهم بدأوا بطرح سلسلة من الأسئلة: “ما نوع البقرة؟ أهي صغيرة أم مسنة؟ ما لونها؟” وطالبوا النبي موسى بأن يطلب من الله المزيد من الإيضاح. فكان الله يجيب على كل سؤال. أخيراً، نفذوا الأمر وذبحوا البقرة، ثم أخذوا ذيلها وضربوا به الميت، فعاد إلى الحياة وأخبرهم بهوية قاتله.[43] هذه القصة ذُكرت أيضاً ضمن أحداث أخرى في تاريخ بني إسرائيل ونبيهم موسى في القرآن، و يعود سبب تسمية سورة “البقرة” إلى قصة العجل الذي صنعه بني إسرائيل.

هذا الجانب من تاريخ بني إسرائيل في القرآن الكريم وسائر المصادر الموثوقة يُعد مثالًا واضحًا على كثرة المماطلات والحجج الواهية التي كان يتذرع بها قوم بني إسرائيل. بل إن العبارات الشائعة بين الناس مثل “حجج بني إسرائيل” و”أعذار بني إسرائيل” مستمدة من هذه القصة.

قصة قارون وبني إسرائيل

واجه النبي موسى عليه السلام خلال فترة رسالته ثلاث قوى متجاوزة: فرعون، الذي يمثل السلطة والطغيان؛ العجل الذي صنعه السامري، والذي يرمز إلى الضلال والشرك؛ وقارون، الذي يُجسد حب المال والدنيا.  أما قارون فقد كان من أقرباء النبي موسى عليه السلام، وقد تحدث القرآن عن قصته في سياق تاريخ بني إسرائيل.[44] كان قارون يمتلك معرفة واسعة بالتوراة و يتظاهر بالإيمان، ولكنه جمع ثروات هائلة إما من خلال نفوذه في بلاط فرعون أو عبر مهارته في الكيمياء والتجارة.[45]  كانت الأمور مستقرة إلى أن أمر الله موسى عليه السلام بفرض الزكاة. هنا انكشف الوجه الحقيقي لقارون، حيث رفض دفع الزكاة وتحدى النبي موسى علانية. فبدأ في نشر الأكاذيب والإشاعات بين بني إسرائيل واتهم النبي موسى بالسرقة والزنا، مما أدى إلى انقسام بين بني إسرائيل وانضمام البعض إلى صف قارون.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل لجأ قارون إلى محاولة إلحاق الأذى بالنبي موسى، ولكن الله أظهر براءة نبيه بوضوح. فوقع عليه غضب الله وأمر موسى بالدعاء عليه لتخسف به الأرض، واستجاب موسى ودعا أن يبتلع الأرض قارون ومن معه. [46] وعندما بدأت الأرض بابتلاع قارون وأمواله ومرافقيه، استغاثوا وتوسلوا إلى موسى أن يرحمهم ويشفع لهم، ولكنه لم يستجب لتوسلاتهم وابتلعتهم الأرض بالكامل، وانتهى أمرهم عبرةً لمن يعتبر. “فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ”[47] بعد ذلك، أوحى الله إلى النبي موسى قائلاً: “إنك لم تلتفت إلى توسلاتهم، ولكن لو أنهم لجأوا إليّ وتضرعوا إليّ، لقبلت استغاثتهم ولم أردهم خائبين”.[48]

عقوبات أخرى حلت ببني إسرائيل

حتى الآن، تحدثنا عن العقوبات المختلفة التي نزلت على بني إسرائيل، مثل الصاعقة في طور سيناء، وأمرهم بقتل بعضهم بعضاً بسبب عبادتهم العجل الذي صنعه السامري، والتيه لمدة أربعين عاماً في الصحراء عقاباً على عصيانهم دخول الأرض المقدسة، إضافة إلى عيشهم حياة مليئة بالذل والفقر.[49]

ومن بين العقوبات التي نزلت عليهم نتيجة عصيانهم لأوامر الله وتحايلهم على أحكامه، أن الله مسخ جماعة منهم إلى قردة. وكان ذلك لأنهم خالفوا حرمة يوم السبت الذي أمرهم الله بعدم صيد السمك فيه، فاستخدموا الحيل للحصول على الصيد، غير مبالين بأوامر الله.[50]

ما ورد في القرآن الكريم عن تاريخ بني إسرائيل وقصتهم مع النبي موسى عليه السلام يكشف عن العديد من صور نقض العهود والعقوبات التي لحقت بهم نتيجة لذلك.[51] فقد اتسموا بقسوة القلب، وحرّفوا التوراة وفق أهوائهم، وبلغ بهم الحال إلى قتل الأنبياء، بل سَعَوا إلى صلب النبي عيسى عليه السلام. وعندما بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لم يؤمن به إلا القليل منهم، في حين استمر معظمهم في كفرهم ونقضهم للعهود.

لذلك فقد توعدهم الله تعالى بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة بسبب عصيانهم المتكرر، ونفاقهم، وفسقهم الظاهر والباطن، وعداوتهم وعنادهم المستمر.[52] إن الأحداث المختلفة المتعلقة بتاريخ بني إسرائيل والنبي موسى عليه السلام كما وردت في القرآن الكريم مليئة بالدروس والعبر، خاصةً في كيفية بناء الحضارات ونقل أمانة الرسالة عبر الأجيال.

یعد بني إسرائيل نموذجا لقوم يعارضون إقامة الحضارة الإلهية، ويقدّمون أهواءهم ومعاييرهم الخاصة على إرادة الله وحكمة أنبيائه. قوم لا تُرضيهم أي نعمة مهما كانت عظمتها، ويثيرون الشكوك حول كل أمر إلهي. تماماً كما حدث عندما أنقذهم الله من الهلاك بسبب الجوع وأرسل لهم المنّ والسلوى كرزق مبارك، لكنهم جادلوا وطلبوا العدس والبصل بدلاً من ذلك.

كل من تتشابه أفكاره وسلوكياته وأخلاقه مع هذا القوم المعروف بكثرة الجدال والتمرد على أوامر الله، عليه أن يخشى العقوبة ويبادر إلى إصلاح نفسه قبل فوات الأوان، حتى لا يُحشر في صف بني إسرائيل، ويُصبح عقبة في طريق إقامة الحضارة الإلهية على يد المخلّص الموعود.

 

[1] سفر المزامير 7:16 سفر المزامير 7

[2] سلیمان بن احمد طهرانی، المجم الکبیر، بیروت، دار احیاء التراث العربی، 1412 قمری، جلد 1، ص 278

[3] قرنتیان، 18: 10

[4]  رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية  6: 9

[5] سفر صموئيل الأول 8:11 سفر صموئيل الأول 11

[6] البقرة 47 و 122

[7] بقره: 47 و 122

[8] هود، 72

[9] تفسير الميزان – السيد الطباطبائي – ج 10 – ص 320

[10] عیاشی، محمد بن مسعود، التفسیر العیاشی، رسولی محلاتی، تهران، المطبعة العلمیة، چاپ اول، 1380 قمری، ج 2، ص 154

[11] مجمع البیان فی التفسیر القرآن، تهران، ناصرخسرو، 1372 شمسی،الطبعة الثالثة، ج 7، ص 375

[12]من مدافعي فرعون في مصر القديمة

[13] بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ١٣ – الصفحة ١٧٤

[14] الاعراف، 137 / المائدة، 20 و 21

[15] مائده: 21 تا 23

[16] تفسير الميزان- العلامة الطباطبائي ج 6  ص 284

[17] المائدة 24

[18] مکارم الشیرازي، ناصر، الأمثل، طهران، دارالکتب الإسلامیة، ج 4، ص 338

[19] الطبري، محمد بن جریر، جامع البیان فی التفسیر القرآن، بیروت، دار المعرفة، 1412 ق، ج 1، ص 424

[20] بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ١٣ – الصفحة 170

[21] الأعراف، ١٤٢

[22] مجمع البيان في تفسير القرآن/ سورة الأعراف الآية 142

[23] الأعراف، ١٤٥

[24] المدرسي، سید محمدتقي، من هدي القرآن، طهران، دار محبي الحسین، ج3، ص 450

[25] الطباطبایی، سیدمحمد حسین، المیزان فی التفسیر القرآن/ المغنیة، محمد جواد، التفسیر المبین

[26] سفر الخروج 32 الایات 1 الی 5

[27] فخر الرازي، محمد بن عمر، مفاتیح الغیب، بیروت، دار احیاء التراث العربی، الطبعة الثالثة، 1420 ق، ج22، ص 95

[28] بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 13 – الصفحة 244

[29] طه: 90

[30] مکارم الشیرازي، ناصر، تفسیر الأمثل، طهران، دارالکتب الإسلامیة، ج6، ص 371

[31] طه، 92 ألى 94

[32] طه ، 97

[33] بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 13- الصفحة 246

[34]الاعراف، 152

[35] تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي- ج 8 –  ص 253

[36] سفر الخروج 32 الایات 27 الی 28

[37] الأنعام 103

[38] النساء 153

[39] تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي- ج 8 –  ص 257

[40] البقرة 56 و 57

[41] . الأعراف 143

[42] محمد رشید رضا، عبده محمد، تفسیر القرآن الحیکم الشهیر بتفسیر المنار، بیروت، دارالمعرفة، 1414 ق، جلد 9، ص 215

[43] البقرة 67 إلى 73

[44] القصص 76 إلى  79

[45] تفسير الميزان ،  العلامة الطباطبائي ج 16 – ص 79

[46] ابن اثیر جزری، علي بن محمد، الکامل فی التاریخ، بیروت،  دار صادر، ۱۳۸۵ق، ج1، ص 205/ الطبري، أبو جعفر محمد بن جریر، تاریخ الامم و الملوک(تاریخ الطبري)، تحقیق: ابراهیم، محمد أبو الفضل، بیروت،  دار التراث، الطبعة الثانية، ۱۳۸۷ق، ج 1، ص 447

[47] القصص 81

[48] الطبري، أبو جعفر محمد بن جریر، تاریخ الامم و الملوک(تاریخ الطبري)، تحقیق: ابراهیم، محمد أبو الفضل، بیروت، دار التراث، الطبعة الثانية، ۱۳۸۷ق، ج 1، ص 262 و 265

[49] البقرة، 61 / آل عمران 112

[50] البقرة، 65

[51] المائدة، 12 و 13/ الطباطبایي، سیدمحمد حسین، المیزان في التفسیر القرآن، ج5، ص 240

[52] البقرة 85

المشارکة

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *