عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام في الأديان؛ رمز المقاومة والتلاحم
إنّ واقعة عاشوراء ونهضة الإمام الحسين عليه السلام ليست مجرّد محطة بارزة في تاريخ الإسلام فحسب، بل هي حدث عظيم امتدَّ أثره إلى ما وراء الحدود الجغرافية والفواصل الزمنية، ليطبع بصمته في ثقافات وأديان ومجتمعات شتّى. فها نحن نشهد في كلّ عام ملايين السائرين نحو كربلاء في مسيرة الأربعين، حيث يتجلّى هذا الحدث ليس فقط بُعداً دينياً، بل رمزاً للمقاومة والعدل والتلاحم الإنساني. وهنا يبرز السؤال الجوهري: ما هي مكانة الإمام الحسين عليه السلام في الأديان والثقافات المختلفة؟ وهل نجد في نصوص الديانات المسبقة على الإسلام إشارات إلى شخصه ومصابه؟
يسعى هذا المقال إلى مقاربةٍ واسعة تتجاوز حدود النظرة المذهبية الضيّقة، فيتناول حضور الإمام الحسين عليه السلام في نصوص دينية وتاريخية وثقافية متنوّعة. كما يحاول أن يبيّن كيف أنّ هذه الواقعة العظمى قد جرى التنبؤ بها أو الإشارة إليها في تراثات متعددة، بدءاً من الألواح البابلية القديمة، وصولاً إلى أسفار اليهودية والمسيحية، بل وحتى في طقوس وديانات سحيقة.
ومن هذا المنظور، يظهر الإمام الحسين عليه السلام في الأديان والثقافات المختلفة لا بوصفه قديساً فحسب، كما أنّ مسيرة الأربعين لا تُختزل في طقس ديني بحت، بل يبرزان معاً كرمز عالمي للقيم الإنسانية الكبرى، قيمٍ ما زالت، رغم مرور القرون، تُلهِم الملايين وتوحد القلوب في شتى بقاع الأرض.
مكانة واقعة عاشوراء والإمام الحسين عليه السلام في الديانات الأخرى
شهدت السنوات الأخيرة دراسات عديدة في ميدان مقارنات الأديان، ولا سيما الأديان الإبراهيمية، حاولت أن تقدّم أجوبة عن سؤالٍ جوهري: ما هو موقع واقعة عاشوراء والإمام الحسين عليه السلام في الأديان الأخرى؟
وقد توصّلت هذه الأبحاث إلى شواهد متنوّعة تشير إلى وجود إشارات أو حتى نبوءات عن كربلاء في نصوص وكتب مقدّسة من بعض الديانات السماوية. وفيما يلي نتوقّف عند نماذج من تلك المصادر ومكانة الإمام الحسين عليه السلام في تلك الأديان.
H3 واقعة كربلاء في اللوح التاريخي «زيو سُدري»
يُعدّ اللوح التاريخي المعروف بـ«زيو سُدري» واحداً من الآثار الباقية من حضارات وادي الرافدين (العراق الحالي وما جاوره). وقد كُشف فيه عن نص مكتوب بالخط المسماري يروي قصّة قوم النبي نوح عليه السلام، وفيه إشارة إلى أنّ سفينة نوح، بعد انقضاء الطوفان، استقرّت في أرضٍ تُسمّى «كوربالا».
وكلمة «كور» تعني الأرض أو الجبل أو المدينة، أمّا «بالا» فلها معانٍ متعدّدة، منها: القربان، الحماية، الحفظ، والرعاية. وهي أيضاً مرادفة لكلمة «طَفّ» التي تُعدّ من أسماء أرض كربلاء. وبذلك يمكن أن يُفهم «كوربالا» على أنّه: «أرض القربان»، أو «أرض الحماية»، أو «أرض حفظ سفينة نوح»، بل و«أرض الطف».
هذا الاسم بحدّ ذاته يُعيد إلى الأذهان قداسة هذه البقعة المباركة، كما جاء في الروايات المأثورة؛ فقد نقل الشيخ ابن قولويه في كامل الزيارات (ص 267) والعلامة المجلسي في بحار الأنوار (ج 98، ص 110) عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: إنّ الله جعل كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يجعل مكة حرماً.
مكانة الإمام الحسين عليه السلام في الديانة الزرادشتية
يحظى الإمام الحسين عليه السلام بمكانة رفيعة بين أتباع الديانة الزرادشتية، حيث يُنظر إليه بوصفه رمزاً للفداء والصمود في وجه الظلم، والذود عن الحقيقة. فالزرادشتيون، الذين هم إحدى الأقليات الدينية في إيران، يُعظّمون القيم الإنسانية المتجسّدة في نهضة عاشوراء، ويُبدون تقديرهم لها بطرق شتى. ومن مظاهر ذلك أنّهم يمتنعون عن الكثير من احتفالاتهم الدينية عند حلول أيام عزاء الإمام الحسين عليه السلام، ويؤجّلونها إلى مواعيد أخرى، بل ويشاركون في مجالس العزاء، مظهرين ولاءهم واحترامهم للإمام وأصحابه الأوفياء.
وتذكر الروايات التاريخية أنّ بعض الزرادشتيين يعدّون الإمام الحسين عليه السلام بمثابة «صهرهم» من جهة النسب، وذلك لزواجه من السيّدة شَهربانو بنت يزدجرد الثالث، آخر ملوك الدولة الساسانية في إيران. ومن هذا المنطلق ينشأ في وجدانهم نوعٌ من الرابطة المعنوية والقرابة الروحية بينهم وبين أهل الصفحة الرئيسية النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا يزال هذا الارتباط ملموساً حتى اليوم؛ إذ يقوم الكهنة الزرادشتيون في مدينة يَزد، عند حلول شهر محرّم، بإطفاء نيران معابدهم، ويشاركون في إحياء مراسم العزاء، تعبيراً عن الحزن والمواساة للإمام الحسين عليه السلام.
اسم الإمام الحسين عليه السلام في الكتاب المقدّس لليهود
يرى بعض الباحثين من علماء الشيعة أنّ الكتاب المقدّس لليهود يتضمّن إشاراتٍ إلى واقعة عاشوراء واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام. ومن بين هذه النصوص ما ورد في سفر إرميا، وهو أحد أسفار التوراة الذي يروي سيرة النبي إرميا، أحد أنبياء بني إسرائيل الكبار، الذي عاش في زمن الصراع بين الإمبراطوريتين البابلية والمصرية.
في الإصحاح السادس والأربعين من هذا السفر، نجد عبارات لافتة تذكر نهر الفرات وتتحدّث عن أحداثٍ تجري حوله: «ذلك اليوم هو يوم انتقام الربّ الإله، لأنّ للرب ذبيحة عند نهر الفرات في أرض الشمال.»
هذه الإشارة جعلت عدداً من الباحثين يذهبون إلى أنّ الكتاب المقدّس قد سبق وأشار إلى فاجعة كربلاء، بما يؤكّد أنّ مقام الإمام الحسين عليه السلام في الأديان الأخرى لم يكن صناعةً متأخرة في العصور اللاحقة، بل له جذوره في النصوص القديمة.
وقد تناول الباحث في الأديان الإبراهيمية؛ هادي علي تقوي، هذا الموضوع في مقال بعنوان: “دراسة مقارنة بين الذبيح المقدّس في سفر إرميا والذبح العظيم في الروايات الإسلامية” وطرح فيه سؤالاً محورياً: هل تشير هذه العبارات في سفر إرميا إلى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام عند شاطئ الفرات؟
وفي مقدّمة مقاله نقل عن الباحثة المسيحية إيزابيلا بنيامين قولها في دراسة بعنوان: “من هو قتيل شاطئ الفرات؟”: «أثناء مطالعاتي الدينية في الكتاب المقدّس، وقفت على نصّ عجيب في الآية العاشرة من الإصحاح السادس والأربعين من سفر إرميا. هذا النصّ يحدّد وقوع الحدث في صحراء بالعراق قرب بابل. وبعد التأمل وجدت أنّ هذه النبوءة لم تتحقّق منذ نزولها إلا مرّة واحدة فقط، وهي مأساة كربلاء.» وقد شدّدت الباحثة على أنّ هذا الحدث لا ينطبق إلا على مأساة عاشوراء.
كما نجد في سفر إرميا إشارات أخرى، منها: «يا أيّها الفرسان! أعدّوا خيولكم واركبوا، وتهيّأوا بخوذكم، وأصلحوا رماحكم، والبسوا دروعكم.» (إشارة إلى تجهيزات جيش يزيد). وفي العبارة الخامسة: «لماذا أراهم مرتعبين وقد ارتدّوا إلى الوراء؟» (إشارة إلى هزائم جيش يزيد أمام ثبات أصحاب الحسين). كما أن يقول إرمياء النبي: «أبطالهم تحطّموا، لأنّ الرعب من كلّ جانب.» (تصوير لهلع جيش عمر بن سعد عند كلّ حملة من أنصار الحسين). ونجد في الآية السادسة: «أشدّاؤهم لا ينجون، بل يسقطون عند نهر الفرات في الشمال.» (إشارة إلى أنّه مهما بلغت قوّة المقاتلين، فلن يستطيعوا الفرار من مصيرهم في مواجهة أصحاب الحسين). وفي الآية العاشرة: «ذلك اليوم هو يوم انتقام الربّ من أعدائه… لأنّ للربّ ذبيحة عند نهر الفرات في أرض الشمال.» وقد ربط بعض المفسّرين بين هذه العبارة وبين ما ورد في آخر الزمان من قيام الإمام المهدي عليه السلام لينتقم من قتلة الحسين بسيف ذي الحدّين، كما أشارت إليه المزامير. يقول النبي أرميا في تتمة الآية العاشرة: “السيفُ يأكلُ حتى يشبع ويرتوي من دمائهم، ويسكَرُ، لأنّ للرب الإله صباؤوت ذبحًا في أرض الشمال عند نهر الفرات”.
أما في سفر المزامير (الإصحاح 74، من الآية 5 وما بعدها) فيأتي: «قدسُك أُحرق بالنار، ومسكنُك دُنّس.»
وهو نصّ يرى بعض الباحثين أنّه يتطابق مع حادثة إحراق خيام آل الالصفحة الرئيسية يوم العاشر من محرّم سنة 61 هـ.
وهكذا يتّضح أنّ ما سمّاه سفر إرميا «الذبح العظيم عند الفرات» لا ينطبق في التاريخ اليهودي أو المسيحي على أيّ واقعة، سوى المأساة الخالدة التي وقعت في كربلاء.
الإمام الحسين عليه السلام في الديانة المسيحية
عندما نتحدّث عن البشارات أو النبوءات في الكتب السماوية، كـ الكتاب المقدّس عند المسيحيين، لا ينبغي أن نتوقّع أن يُذكر اسم الإمام الحسين أو سائر الأئمة عليهم السلام تصريحاً؛ إذ حتى البشارات الخاصّة بالسيد المسيح عليه السلام لم ترد بهذه الصراحة، بل جاءت في صورة أوصاف وإشارات مبهمة يستدلّ منها المسيحيون على المقصود. ومع ذلك، نجد في نصوصهم عبارات لافتة، منها ما جاء في نسخة سريانية: «اَنَا مُعَمِّدْ اَنَا لَکُنْ بِمِیا لِتیبُو تا هُوَ دین دِبْتِری آتا خُسِیْن»ْ وفي اللغة السريانية يُنطق الحرف «ح» أحياناً «خ»، فيصبح «خُسَين» هو نفسه «حُسين». وقد وردت كلمة خُسين في «المعجم الآرامي الشامل» (The comprehensive Aramaic Lexicon) بمعنيين: “الأقوى”، و”الأجمل”. والجميل هو عين الترجمة لمعنى اسم «حسين» في اللغة العربية.
وفي موضع آخر من الكتاب المقدّس يَرِد الحديث عن «النَّفْس الزكية» التي يُظلم صاحبها، ويُعتدى على حُرمتها، ويُمثّل بجسده، وتُنهب أمواله؛ وهي أوصاف لا يخفى على المتأمل أنّها تحاكي مشهد كربلاء.
كما جاء في نصّ آخر: «حينما يتقلّد حسين السلاح ويحفظ أهل الصفحة الرئيسيةه، يكون متاعه في أمان. والعصمة له. فإذا نُزع سلاحه عنه، مُثّل بجسده وقُطّع.»
وهذه العبارات تُشير بوضوح إلى الإمام الحسين عليه السلام وواقعة عاشوراء. ومكانته في الديانات الأخرى بلغت من الأهمية أن يشير الكتاب المقدّس للمسيحيين إلى شهادته هو وأصحابه في كربلاء. ولعلّ في هذه النبوءات حكمة إلهية تهدف إلى لفت أنظار أتباع سائر الأديان إلى أوصياء الله الحقّ على الأرض، حتى لا يكون لأحدٍ حجّة في ادّعاء الحرمان من الهداية السماوية.
وكما رأينا، يتحدّث الكتاب المقدّس عن شهادة رجالٍ عند الفرات، كما يشير القرآن الكريم أيضاً إلى «الذبح العظيم» في قوله تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 107]. وعلى الرغم من أنّ ظاهر الآية يرتبط بقصة نبي الله إبراهيم عليه السلام حين همّ بذبح ولده قرباناً لله، إلّا أنّ الروايات الواردة عن الإمام الرضا عليه السلام ـ كما في بحار الأنوار (ج 12، ص 124؛ ج 44، ص 225) نقلاً عن عيون أخبار الرضا والخصال للشيخ الصدوق ـ تبيّن أنّ المقصود بالذبح العظيم هو الإمام الحسين عليه السلام، إذ لا ذبيح أعظم عند الله من سيّد الشهداء.
وهكذا، من الألواح البابلية القديمة، إلى نصوص الكتاب المقدّس، ومن معابد الزرادشتيين إلى كنائس المسيحيين، يبقى اسم الحسين عليه السلام مشعّاً في الديانات والثقافات، لا يحدّه تاريخ ولا يقيّده دين بعينه. ومسيرة الأربعين ما هي إلّا امتداد لهذا الأثر العابر للزمان والمكان؛ حيث يجتمع الملايين، على اختلاف ألسنتهم ومذاهبهم، حول حقيقة واحدة: مقاومة الظلم وصون الكرامة الإنسانية. ولعلّ سرّ خلود الحسين عليه السلام أنّ قصته ليست قصّة رجل أو أمّة، بل قصّة الإنسان كلّه.