كيف ينبغي تغيير نمط الحياة وإصلاحه على أعتاب عصر الظهور؟
نحن نعيش اليوم في مرحلةٍ لم تَعُد فيها التحوّلات العالمية مجرّد أحداث سياسية أو اجتماعية عابرة، بل تحوّلت إلى دلائل واضحة على اقتراب حقبةٍ مصيريّة من تاريخ البشرية؛ عصرٌ يتجلّى فيه الصراع بين جبهة الحقّ وجبهة الباطل بصورةٍ مكشوفة، ويُفرض على كلّ إنسان أن يُحدّد موقعه ويختار مساره. في مثل هذا السياق المصيري، لم يَعُد ممكنًا عبور هذا المنعطف التاريخي الحادّ بنمط حياةٍ عاديّ، مستكين أو استهلاكي. لقد أصبح تغيير نمط الحياة وإصلاحه أمرًا يتجاوز حدود التوصيات الشخصية أو النصائح الصحية لتحسين جودة الحياة؛ بل هو ضرورة حضاريّة وواجب تاريخي، يُهيّئ الإنسان لممارسة دوره الحقيقي في عصر الظهور. وكلّما تأخّر هذا التحوّل، ازدادت قابليّة الإنسان للانجراف في دوّامات الفتن، وارتفعت احتمالات سقوطه في لحظات الحسم.
في المقال السابق، تحدّثنا عن ضرورة تغيير نمط الحياة وإصلاحه كشرط للنجاة من اضطرابات آخر الزمان والاستعداد لظهور المخلّص الموعود. أما في هذا المقال، فإننا نسعى للانتقال من مستوى التنظير إلى حقل التطبيق العملي؛ إذ لا يكفي أن نرفع شعارات التمهيد، بل لا بدّ من إعادة بنية جذريّة لحياتنا اليوميّة، تبدأ من العمق وتمتدّ إلى التفاصيل.
إنّ استقراء المشهد العالمي في السنوات الأخيرة، بكلّ ما يحمله من تسارع نحو المصير المحتوم، يُثبت أنّ الناجين في لحظات الأزمات الكبرى هم أولئك الذين اتّخذوا قرار التغيير منذ زمن، وخرجوا من قوقعة نمط الحياة المريح والمتراخي، وشرعوا بجدّ في بناء هوية حياتية جديدة. تتجلّى في حياة هؤلاء علامات الاستعداد الحقيقي، لا في الأقوال والنيات فقط، بل في السلوكيات والبرمجة اليومية والقرارات المصيرية التي تتناغم مع وعيهم بالمرحلة، واستشعارهم بالمسؤولية التاريخية التي يحملونها.
في هذا المقال، نسلّط الضوء على ثلاثة مجالات محورية من بين عشرات العوامل المؤثرة في نمط الحياة، وهي: التغذية، والرياضة، والعلاقات الاجتماعية ذات الطابع الإيماني. فالتغذية الصحية المتوازنة لا تقتصر على إمداد الجسد بما يحتاجه من طاقة، بل تمثّل أيضًا غذاءً للروح، وأساسًا لنمو الفكر، وتعزيز الإرادة، ورفع مستوى الصمود في وجه الأزمات. والنشاط البدني ليس مجرّد وسيلة للحفاظ على اللياقة الجسدية، بل يُعدّ تدريبًا عمليًا على الصبر والمواجهة، والاستعداد النفسي والبدني للحضور الفاعل في ميدان الحق.
أما العلاقات الإيمانية الجماعية، وخاصة تلك التي تتجلى في مظاهر كالدعاء الجماعي ومجالس الاستغاثة، فتمثّل وسيلة لإحياء الروح الجماعية، وتوثيق الصلة بجبهة الحق؛ وهي عنصر مؤثر في تقوية صف المؤمنين وإضعاف جبهة الباطل في الوقت نفسه.
إننا اليوم على مشارف زمن الظهور، ولكن لا سبيل إلى اجتياز هذه المرحلة المفصلية بنجاح من دون مراجعة جادة وإصلاح جذري لنمط حياتنا. فإن لم نغتنم يومنا لإعادة بناء هذا النمط، فقد نفقد الغد بكلّ ما يحمله من فرص. إنّ هذا الإصلاح لا يقتصر على تعزيز القدرة على مواجهة أزمات آخر الزمان، بل يمهّد أيضًا لمشاركتنا الواعية في إقامة الدولة الكريمة بقيادة الإمام المهديّ المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف.
دور التغذية في تغيير نمط الحياة وإصلاحه في آخر الزمان
في التصورات التقليدية، تُعَدّ التغذية مجرّد استجابة لحاجات الإنسان البيولوجية والفسيولوجية؛ إذ يشعر الجسم بالجوع فنأكل لتوليد الطاقة. غير أنّ الرؤية الفطرية والإنسانية ترى أنّ غذاء الإنسان لا يقتصر على تزويد الجسد بالطاقة، بل يتعدّى ذلك ليكون من مكوّنات بناء الروح وتشكيل الشخصية. فما يختاره الإنسان من طعام، لا يؤثّر في بدنه فحسب، بل يترك بصماته العميقة على ذهنه، وإرادته، وحالته العبادية، واستقراره النفسي، بل وحتى على موقعه العملي في ساحات المواجهة في آخر الزمان. من هنا، تتحوّل التغذية إلى مسألة حضارية ذات بُعد استراتيجي.
في الصراع المصيري بين جبهة الحق وجبهة الباطل، لا يتعامل الأعداء مع موضوع تغذيتنا بتسطيح أو عفوية. فقد خطّطوا منذ سنوات طويلة، برؤية آخر الزمان واستراتيجية بعيدة المدى، لإضعاف بنيتنا الجسدية، وتشويش قدراتنا الذهنية، وإثارة اضطراباتنا العاطفية، وتوهين إراداتنا. فقد صُمّم كل شيء، من الصناعات الغذائية العالمية إلى الحملات الدعائية الاستهلاكية، ليصرفنا عن التغذية الفطرية والصحيّة. لهذا، بات لزاماً علينا نحن أيضاً أن نُعيد النظر إلى تغذيتنا من زاوية عقائدية وانتظارية، تتناسب مع متطلبات مرحلة آخر الزمان. فإن كانت أجسادنا تُغذّى بمنتجات كيميائية، وأطعمة صناعية ضارّة، أو أغذية فاقدة للبركة، فكيف ننتظر منها أن تصمد في أزمنة الأزمات؟
بحسب الروايات، فإنّ من خصائص أنصار الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشريف: القوّة البدنية، والصبر العالي، والجلَد في مواجهة المشاق، وهي صفات لا تنشأ من تغذية مُنهِكة أو مُخدِّرة أو مُسمّمة. فغذاء اليوم هو استثمار فعلي لمقاومة الغد صموده، وهذه ليست مجرّد عبارة إنشائية أو مقولة خطابية، بل حقيقة واقعية ملموسة. في زمن الفتن، لن يصمد إلّا من يمتلك جسماً مهيّئًا، وذهنًا يقظًا، وعزيمة راسخة. فالفوضى في النظام الغذائي، والإفراط في الأكل، واستهلاك الأغذية الرديئة، والإهمال في نوعية الطعام، لا تُلحِق الأذى بالجسم فقط، بل تُعرّض الروح والمصير للخطر أيضًا. فكيف يمكن لإنسانٍ مُنهَك، سمين، كسول، ومثقَل، أن يؤدي واجباته في اللحظات التاريخية الحاسمة؟ إنّ اضطراب النظام الغذائي يفتح الأبواب للاكتئاب، والعصبية، وضعف الإرادة؛ وهذه تمامًا هي الأهداف التي تسعى جبهة الباطل لتحقيقها ضمن خططها الخفيّة.
إنّ إصلاح نظام التغذية يُشكّل تدريبًا عمليًا على حفظ التوازن في الأزمات، وهو أحد الأركان الأساسية لتحوّل نمط حياة المنتظرين. فمَن اعتاد البساطة في المأكل، والاعتدال في الطعام، وتجنّب الضارّ من الأغذية، والرجوع إلى نمط التغذية الفطري، سيكون من أهل الثبات والصبر في الشدائد. إن أكل المؤمن هو في جوهره جزء من عهده مع جبهة الحق. فكما أنّ طهارة المال ضرورة دينية، فإنّ طهارة المائدة والعناية الواعية بالتغذية تندرج ضمن معالم نمط الحياة الإيمانية والمنتظِرة. فالتغذية السليمة، فضلاً عن ضمانها لصحة الجسد، هي ضمانٌ ليقظة الروح، وثباتٍ مستمر في مسار الظهور الإلهي.
دور الرياضة في تغيير نمط حياة المنتظرين وإصلاحه
الجسد البشري ليس مجرّد وسيلة للبقاء، بل هو حاضنة لتغذية الروح وتفتّحها. فالجسد الضعيف، والكسول، والخامل لا يَحُول دون أداء الأنشطة اليومية فحسب، بل يُفقد الإنسان أيضًا فرصًا معنوية ثمينة، كخلوة الأسحار، وقيام الليل، والتركيز في العبادة. في نمط الحياة المهدويّة، تُعدّ العناية بصحّة البدن وقوّته جزءًا من الاستعداد العمليّ للانخراط في جبهة الحق ومواجهة فتن آخر الزمان. وقد أمر القرآن الكريم في معرض الإعداد لمواجهة الأعداء بقوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾[1]، وهذه الآية لا تحصر الاستعداد في نطاق التسليح العسكري، بل تُشير إلى وجوب التجهّز الشامل بكلّ ما يمدّ الإنسان بالقوة والاستعداد لمواجهة أعداء الله. ومن بين هذه القوى هي امتلاك جسدٍ قويّ ومتين. فالجسد السليم لا يساند الجهاد الخارجيّ فحسب، بل يسهم في ميدان الجهاد الخفيّ مع النفس، من خلال ترسيخ الثبات الفكري، وحضور القلب في العبادة، والتيقّظ في لحظات اتخاذ القرار.
فإن كان الجسد سريع التعب، عاجزًا عن الاستيقاظ في السحر، قليل الحركة، مرتخي العضلات، وكانت صلاة الليل عليه ثقيلة، فإنّ من أبرز أسبابه هذا الضعف البدني، الذي يُبعد الإنسان تدريجيًا عن طريق النور والروحانية. وفي زماننا الحاضر، حيث بلغت معركة الحق والباطل ذروتها، بات العدوّ يُركّز بشكل غير مسبوق على مكامن ضعفنا، لا سيما تلك التي تُعدّ أدوات تجنيدنا في جبهة الحق. فالجسد الذي لا يتحمّل المشقّة قد يُقعد الإنسان في اللحظات المصيرية، حتى ولو كان من أهل الفكر والإيمان؛ إذ لا يُعوّل على إيمانه وحده إذا عجز جسده عن مواكبة ساحات المواجهة.
في هذه الرؤية، لا تُعدّ الرياضة مجرّد نصيحة لنمط حياة صحي أو وسيلة لتحسين المظهر، بل أصبحت تمرينًا على الانضباط، والإرادة، والتحمّل، ومقدّمة للارتقاء الروحي. فالذين يهملون أجسادهم كثيرًا ما يقعون في حالة من الخمول الروحي. في المقابل، أولئك الذين درّبوا أجسادهم على النظام والحركة والمشقّة، يكونون أقدر على تحمّل مسؤوليات جبهة الحق الثقيلة.
لقد غدت الكسالة البدنية اليوم إحدى علامات الانحدار الحضاري، ومؤشّراً واضحًا على الغفلة عن المستقبل. فالذين يستهلكون نهارهم في الخمول، والتراخي، وانعدام التخطيط، كيف سيكونون أبطال ميادين الغد الشاقة؟ الجسد الخامل يُثقل الروح، والروح المثقلة تعجز عن البصيرة، وعن اتخاذ القرار السليم، وتفقد قدرتها على التحليق نحو المعنويات.
إنّ تغيير نمط الحياة بدون العودة إلى برنامج رياضي منتظم وإيماني، يظلّ ناقصًا. فالنشاط البدني جزءٌ من عهد المؤمن مع ربّه؛ ليس لمجرّد المحافظة على صحّته الفردية، بل لتهيئة نفسه لنصرة جبهة الحق. الجسد الذي يكون مستعدًّا للعبادة، وللسهر في الأسحار، ولجهاد النفس، ولنصرة المظلومين، هو الجسد القادر على أداء دوره في مسار الظهور. وهذا الاستعداد لا يبدأ من صالة الرياضة أو من ميدان المعركة، بل ينطلق من تنظيم تفاصيل الحياة اليومية، ومن إرادة جادّة للنمو والتكامل.
الاستغاثة: الدعم الروحي لإصلاح نمط الحياة في عصر الظهور
نحن نعيش في مرحلة تاريخية حرجة، تَتَشابك فيها الحروب التركيبية أو الهجينة، وتتعاقب الأزمات، وتتراكم الفتن، وتتسارع الضغوط الممنهجة التي تستهدف نمط الحياة الإيمانية والإنسانية على حدٍّ سواء. لم يعد ممكنًا الاكتفاء بالنصائح الفردية أو الحلول الجزئية على أمل إصلاح ما اختلّ من الواقع؛ فاليوم، تسخّر جبهة الباطل كامل قواها الإعلامية والاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية لفرض نمط حياةٍ يناقض الفطرة ويعادي الإيمان؛ نمطٍ يدفع الإنسان نحو العزلة، وتآكل الهوية، والإرهاق الروحي.
في مثل هذا السياق المعقّد، يتحوّل إصلاح نمط الحياة من خيار فردي إلى واجب حضاري وتكليف تاريخي يُلقي بظلاله على المجتمع بأسره. ولا يمكن لهذا التحول الجوهري أن يتم من دون اعتماد ركائز نفسية، واجتماعية، وروحية صلبة وفاعلة.
من أبرز هذه الركائز الاستراتيجية هي اجتماعات الاستغاثة؛ تلك المراسم التي، إذا أُدركت حقيقتها، لا تُعدّ مجرّد حالة عاطفية أو طقسًا تعبّديًا، بل تتحوّل إلى درعٍ من نور، يواجه عواصف الظلام. فعندما يتضرّع الناس بقلوب خاشعة وصوتٍ واحد إلى الله، تتشكّل بينهم رابطة أعمق من مجرد اجتماع الأجساد؛ إنّه اجتماع الأرواح وتآلف القلوب. هذا الاتحاد الروحي يُنعش النفس من السبات، ويُحصّن الجو النفسي والاجتماعي في مواجهة الحرب الناعمة والتضليل الممنهج.
لا يمكن حصر إصلاح نمط الحياة في التغذية أو الرياضة الفردية فحسب. وإذا ما نظرنا إليه على أنّه توجيه شامل يشمل كافة مناحي الحياة، بما فيها الروابط الاجتماعية، تبيّن لنا أنّ الاستغاثة تمثّل جزءًا لا يتجزّأ من هذا المسار التحويلي. في عالمٍ باتت الفردية والعزلة أدوات فاعلة لإسكات صوت الإيمان، تُعدّ هذه الاجتماعات شكلًا من أشكال المقاومة العبادية، وإعلان ولاءٍ صريح لجبهة الحق.
إنّ مراسم الاستغاثة هي تمرين جماعي للعودة إلى الفطرة، وتأكيدٌ على الهدف المشترك، وتجسيدٌ للتلاحم في وجه موجات الاستهداف الروحي والمعنوي. والمشاركون فيها لا يكتفون باستمداد القوة الروحية لأنفسهم، بل يُسهِمون بشكلٍ فاعل في بناء حصنٍ معنوي منيع يُضعف جبهة الباطل ويُسرّع من تآكلها.
لذا، إن أردنا أن لا نغرق في دوّامة الأزمات، وأن نسلك طريق الإصلاح بثبات وبصيرة، فلا يجوز لنا أن نُهمل دعائم كبرى كـالاستغاثة. فهي مصدر متجدد لاستعادة التوازن الداخلي، وتعزيز الإيمان الجماعي، وتمتين البنية الاجتماعية تمهيدًا لظهور الحق. إنّها صورة حيّة من التعاطف الإيماني، القادر على إنقاذنا من السقوط وفتح الطريق نحو الفجر المنتظر.
لقد أظهرنا في هذا المقال أن إصلاح نمط الحياة مع اقتراب عصر الظهور، ليس خيارًا فرديًا أو نصيحة صحية فحسب، بل هو ضرورة حضارية ومسؤولية تاريخية ينبغي لكل صاحب ضمير أن يتحمّلها بوعي. وهذا التحوّل لا يتحقق بالنوايا الحسنة أو بالشعارات المجردة، بل من خلال إعادة بناء حقيقي وشامل لبنية الحياة: من الغذاء، إلى العادات اليومية، وصولاً إلى شكل العلاقات الإنسانية.
ما رأيكم أنتم؟ ما التحديات، أو التجارب، أو الرؤى التي واجهتموها أو تحملونها في سبيل إصلاح نمط الحياة الإيمانية والمنتظِرة؟ وما العوامل التي ترونها الأشد تأثيرًا في هذا المسار العميق؟
[1] . سورة الأنفال، الآية 60