دراسة التدابير الرئيسية للنبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) في مسار تشكيل الحكومة الإسلامية
وُلِد النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) في عصر الجهل والظلام في جزيرة العرب، في السابع عشر من ربيع الأول من عام الفيل، الموافق لعام 570 ميلادي، في مكة. وشهدت السماوات والأرض ولادته بآيات عظيمة، منها انهيار أربعة عشر عمودًا من قصر كسرى في المدائن، وجفاف بحيرة ساوة، وانطفاء نار معبد فارس التي كانت مستمرة لمدة ألف عام. وينتسب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بثلاثين واسطة إلى إبراهيم الخليل عليه السلام. اسم والديه آمنة بنت وهب وعبدالله بن عبدالمطلب، حيث توفى عبدالله قبل ولادة النبي، فكفّله جده عبد المطلب ثم عمّه أبو طالب.
تمت كتابة العديد من الكتب حول سيرة النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وخصائص شخصيته، وعن الأحداث التي شهدتها فترة حياته، بالإضافة إلى طريقة حكمه وسلوكه في التعامل مع المؤمنين والمعارضين. ومع ذلك فإن العديد من جوانب شخصيته وسلوكه الفردي والاجتماعي لا تزال غير معروفة للناس. من المهم أن لا تكون نظرتنا إلى أسلوب حياة وسيرة النبي محمد وبقية المعصومين (عليهم السلام) مجرد نظرة تاريخية، لأنهم ليسوا شخصيات عادية. إن النبي والثلاثة عشر معصومًا بعده هم النماذج والمرشدين للناس نحو التطور، ولا يستطيع أي منا الوصول إلى كمال الإنسانية والهدف الأصيل للخلق دون أن نطابق خصائص شخصيتنا وأسلوب حياتنا بخصائص شخصيتهم وأسلوب حياتهم. ولكن، لن يفهم ذلك إلا من وصل إلى معرفة النفس وفهم سبب وجوده في هذا العالم.
في هذه المقالة نستعرض بإيجاز جانبًا من سيرة النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) والتدابير التي أجراها لتأسيس الحكومة الإسلامية، بالإضافة إلى علاقته الوجودية مع الله سبحانه وتعالى.
لمحة عن فترة شباب النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هجرته
على الرغم من أن الدين السائد بين الناس في عصر الجاهلية كان الوثنية، إلا أن النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وُلِد في أسرة عرفت بتوحيدها وطهارتها. وقد عبّر عن طهارة نفس عائلته بقوله: “لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات”[1]، ولم يلوث بأوساخ الجاهلية أبداً.
كانت جزيرة العرب في عصر الجاهلية تتسم بمجموعة من الممارسات السلبية والأعراف المتخلفة منها الحروب والصراعات الخطيرة وغير المجدية، ووأد البنات، وأنواع الخطايا، وانتشار السحر والشعوذة، والتفاخر، والانغماس في الملذات، والتنافس المالي والقبلي. وسُمِّيَت هذه الفترة بعصر الجاهلية لعدم وجود أي قانون اجتماعي أو نبي نزل عليه الوحي[2]. إن الجاهلية بشكل عام مصطلح قرآني يشير إلى نوع من الخصائص السلوكية والأخلاقية والعقائدية التي كانت سائدة في الفترة التي سبقت الإسلام في شبه الجزيرة العربية.
وقد أمضى النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) فترة من شبابه في رعي الأغنام والعمل في التجارة. مما أتاح له التعرف على السيدة خديجة بنت خويلد، التي كانت امرأةً تجاريةً مرموقةً ذات مكانة اجتماعية مرموقة، وكانت تعمل في التجارة، فتزوجها. روي أن ثمرة هذا الزواج كانت أربع بنات و هن: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة الزهراء(سلام الله عليها) وولدين هما: قاسم وعبد الله. وقد توفي جميع أولاد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلا فاطمة الزهراء عليها السلام في حياة أبيها، فاستمر نسله الشريف من صلبها(عليها السلام).[3]
في زمنٍ ساد فيه عبادة الأوثان، لم يتأثر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالبيئة المحيطة به، بل ظلّ موحدًا محافظًا على فطرته السليمة، مؤمنًا بالله الواحد القهار وكان يقضي الكثير من وقته في غار حراء في الاعتكاف والخلوة مع الله، إلى أن بُعث رسمياً من قبل الله تعالى كنبي في 27 من رجب في سنة الأربعين من عام الفيل. بدأت رسالته لهداية الناس في العالم عندما بلغ سن الأربعين، وقد شكل هذا الحدث التاريخي نقطة تحول كبرى في تاريخ البشرية، إذ أطلق شرارة ثورة روحية واجتماعية غيرت وجه العالم، وجذبت إليه القلوب الواعية.
ورد عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وفقاً لحديث متواتر ومعروف: «إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخلاق»[4]، أي أنه أُرسِل ليكمّل الفضائل والكمالات الإنسانية والأخلاقية. الكمالات الأخلاقية هي الأسماء والصفات الإلهية التي أودعها الله في الإنسان في بداية الخلق عندما نفخ من روحه في جميع البشر، ولكنها لا تظهر ولا تتكامل إلا بتعليم الله ورسوله وأئمته المعصومين عليهم السلام. فمن سلّم نفسه لتربيتهم وسلك سبيلهم، بلغ أعلى المقامات الإنسانية وهو مقام الخلافة الإلهية. والخليفة هو الذي تتجلى فيه صفات الله جميعا، وهو مقام مختصٌّ بالإنسان ولا يستطيع أي من المخلوقات الأخرى، حتى الملائكة أن تناله.
بدأ النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) دعوته وقيادته عازمًا على التربية الإنسانية وتهذيب النفوس وتنوير العقول وقد شرع في نشر دعوته سرًا خلال السنوات الثلاث الأولى من البعثة، حيث تمكن من استنارة قلوب قرابة أربعين شخصاً بحقيقتهم الإنسانية وينقذهم من الضلال. وفي ظل رعاية النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتوجيهاته الحكيمة، ازداد إيمانهم وتصلب عزمهم على الحق يوماً بعد يوم. ولم يجد المشركون حرجًا في مضايقة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في بداية دعوته السرية، إلا أن الأمر تغير حينما أمره الله تعالى بالظهور العلني بدعوته. فواجه صلى الله عليه وآله وسلم حينئذٍ شتى أنواع الأذى والتعذيب، بدءًا من الإغراء بالمال والجاه، وانتهاءً بالسخرية والتهديد والضرب. بل وصل بهم الأمر إلى التآمر على قتله، مما اضطره إلى الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة، ليشيد فيها دعائم الدولة الإسلامية.
إجراءات النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لتشكيل الحكومة
على الرغم من أن تربية الإنسان قد تبدو أمراً فردياً، إلا أن الأمر ليس كذلك في الأصل. الإنسان كائن اجتماعي وله أبعاد متعددة. تتطلب التربية الصحيحة لأبعاد وجود الإنسان إعداداً اجتماعياً، وما لم تتشكل حكومة توفر الظروف لنمو وتربية الإنسان بشكل شامل، فإن أي جهد في سبيل نمو الشخصية للأفراد سينتهي عملياً إلى طريق مسدود. بناءً على هذا المبدأ، فإن أحد الأهداف الرئيسية لجميع الأنبياء هو تشكيل حكومة إلهية، لكي يتمكنوا من نشر المعارف الإلهية براحة بال. لم يكن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مستثنياً من هذه القاعدة أيضاً، فقد كان منذ بداية بعثته يترقب الفرصة التي تمكنه من تأسيس أسس حكومة إسلامية بالاعتماد على مشاركة الناس.
وبالنظر إلى الشواهد التاريخية، لم تكن هناك دولة أو حكومة سياسية متماسكة قبل ظهور الإسلام في حياة العرب، حيث تعرف الناس لأول مرة وبعد ظهور الإسلام وبعثة النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، على نظام سياسي واجتماعي خارج النظام القبلي، واكتشفوا أنظمة مختلفة ثقافياً وعسكرياً وقضائياً واقتصادياً وسياسياً، و كان لهذا الأمر دور كبير في نموهم الفردي والاجتماعي. إن هدف النبي من هجرته إلى المدينة كان تأسيس نظام سياسي وتنظيمي نموذجي، ليكون قدوة لجميع الأجيال وفي جميع الأزمنة والأمكنة. كان النظام الذي أنشأه النبي يتمتع بمعايير متنوعة من بينها كانت هناك سبعة معايير أكثر أهمية وبارزة، وهي: الإيمان والروحانية، القسط والعدل، العلم والمعرفة، الصفاء والأخوة، تزكية النفس والتهذيب الأخلاقي، القوة والعزة، والعمل والحركة والتقدم المستمر[5]. لقد دخل النبي المدينة ليقيم مثل هذا النظام ويتركه للأبد في التاريخ كقدوة، لكي تجتهد الأمم اللاحقة للوصول إلى مثل هذه المجتمع المتكامل والمتحضر.
بعد أن استقرت الحكومة الإسلامية في المدينة وما حولها، بدأت رسالة رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) العالمية في الازدهار. ففي السنة السادسة للهجرة، وبعد صلح الحديبية الذي تم عقده لتخفيف التوتر بين المسلمين ومشركي مكة، أرسل النبي(صلى الله عليه وآله) عدة رسائل إلى ملوك الدول المختلفة مثل إيران، والروم، ومصر، والحبشة، يدعوهم فيها إلى الإسلام. وقد ذكر المؤرخون أن عدد الرسائل المرسلة كان اثني عشر، و ذكر آخرون أنها كانت ست وعشرون رسالة.
العلاقة الوجودية والحقيقية بيننا وبين رسول الله محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)
لا يوجد في العالم إلا وجود واحد، وهو الوجود المطلق واللامتناهي، أي الله سبحانه وتعالى. إن الله موجود أزلي وأبدي، لم يُوجد من مكان ما، وهو قائم بذاته. يخلق الله في بداية الخلق، وفي أول تجلٍ له، حقيقة تُعتبر أقرب الموجودات إلى نفسه، لا تختلف عنه من حيث الأسماء والصفات. إلا أن الله هو الخالق وهذا الموجود هو المخلوق. أما بقية العوالم والموجودات فهي من هذه الحقيقة أو المصدر الأول. تُدعى هذه الحقيقة بأسماء مختلفة مثل الروح، واللوح، والقلم، والعقل، والمثل الأعلى… وهي نفس الحقيقة الوجودية لرسول الله محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك فإنها ُسمى “الحقيقة المحمدية” أو “نور محمد”. إذن فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته هم أكمل تجليات الأسماء والصفات الإلهية.
لقد تجلى الله تعالى في سائر الموجودات أيضاً بالتأكيد، وأساسًا فإن كل شيء في العالم هو تجلٍّ لأسماء الله تعالى وصفاته. ولكن، هذه التجليات ليست متساوية، فقد تجلى الله في كل موجود بحسب بنيته الوجودية وهدف خلقه، بعدد محدود من الأسماء فقط. في هذا السياق، فإن الكائنات الوحيدة التي تجتمع فيها جميع الصفات الإلهية وتعتبر مرآة كاملة لله تعالى هم النبي وآل بيته عليهم الصلاة والسلام). بالنظر إلى هذه النقاط، فإننا نحن البشر جميعا، بغض النظر عن العرق والخصائص التي كنا عليها، قد خُلقنا من نور النبي(صلى الله عليه وآله وسلم). بعبارة أخرى، إن الروح التي تشكل البعد الأساسي لوجودنا، تنبثق من روح النبي صلوات الله عليه، كما أن النبي وآل بيته(عليهم السلام)، هم الأصل والجذر والأسرة الحقيقية لنا.
يوجد هناك نوعان من العلاقة بيننا و بين المعصومين باعتبارهم أعلى تجليات الله والمثل الأعلى للخلق؛ إحداهما علاقة حقيقية والأخرى علاقة قانونية. تعود علاقتنا الحقيقية مع آل البيت إلى أن حقيقة وجودنا أو روحنا هي نفس الحقيقة المحمدية ونور وجود النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم). إن والدينا هما الوسيلة التي أدت إلى ولادة جسمنا إلى هذه الدنيا فقط، بينما الروح بين جنبينا والتي تشكل حقيقتنا وبعدنا الخالد، فهي من جنس آل البيت(عليهم السلام) وهم يُعتبرون آباؤنا وأمهاتنا الحقيقيون.
أما العلاقة القانونية فترتبط بمقام الإمامة والقيادة الذي يتبوؤه الأئمة المعصومون عليهم السلام. فالنبي وأهل بيته هم حجج الله على الأرض ومرشدونا الوحيدون نحو غاية الخلق والسعادة الأبدية. ولذلك فإن الطاعة لهم هي السبيل الوحيد لتحقيق مقام الخلافة الإلهية الذي خلقنا له.
لقد كانت جميع جهود رسول الله منذ بعثته وحتى نهاية عمره المبارك مبنية على هذا الأصل، وهو أن يأخذ بأيدي الناس ويوجههم نحو هدف الخلق. لقد بذل(صلى الله عليه وآله) جهودًا كبيرة ولم يطلب أجرًا أو مكافأة من أحد سوى أمر واحد، وهو المودة والمحبة لذويه. هذه المحبة لا تعود بالنفع على النبي وأهل بيته، بل إن جميع فوائدها تعود إلى البشر أنفسهم. المودة تعني الحب مع للطاعة. والطاعة هي التي تجلب التشبّه، والتشبّه بآل البيت (عليهم السلام) يعادل التشبّه بالله، لأنهم كما ذكرنا أرقى تجليات الخلق ومظهر كامل لأسماء الله وصفاته.
لقد أوكل الله مهمة هداية البشر إلى المتخصصين المعصومين، النبي وآل البيت(عليهم السلام)؛ لأن الهداية مسألة تتطلب تخصصًا كاملًا. الشخص الذي يتولى هداية البشر يحتاج إلى معلومات تخصصية عن الإنسان والعالم، ولا تتوفر هذه المعلومات إلا عند المعصومين المتخصصين، إذ أنهم يحصلون على علمهم مباشرة من خالق الكون، وهو الله، ولذلك فلا يوجد نقص أو عيب في هذا العلم.
يُشبّه الاعتماد على المتخصصين المعصومين في مسار الحياة بركوب سفينة. مسار السفينة هو نحو الشاطئ، وكل من يركب هذه السفينة يصل إلى شاطئ النجاة بالتأكيد، حتى لو ارتكب الناس خطأ خلال الرحلة. أما من لم تكن لديه سفينة فلن يصل إلى الشاطئ أساسًا وسوف يغرق في محيط الضياع. هذا هو سبب تأكيد الإسلام على مسألة الولاية والطاعة لأهل البيت(عليهم السلام). من قَبِل جميع أصول العقائد وأحكام الإسلام لكنه أنكر مسألة الولاية فليس له دين، لأن حياته تكون جاهلةً غير متخصصة، و حركته نحو الآخرة تشوبها الخلل والخطأ. سوف نتحدث عن هذا الموضوع وورثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته في المقالات القادمة.
[1] بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ١٥ – الصفحة ١١٨
[2] تاريخ العرب (مطوّل). المؤلفين: الدكتور فيليب حتّي, الدكتور أدورد جرجي و الدكتور جبرائيل جبّور. الناشر: دار الكشاف للنشر والطباعة و التوزيع . سنة النشر : 1951م
[3] . الخصال للصدوق ؛ ج2 ؛ ص404 و ابنهشام، سیرة النبویه، دار المعرفة، ج۱، ص۱۹۰.
[4] بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٦٨ – الصفحة ٣٨٢
[5] إنسان بعمر 250 سنة، مجموعة من المحاضرات والدراسات التي ألقاها الإمام الخامنئي دام ظله في سيرة الأئمة الأطهار عليهم السلام، ص 32 و 33