من كان على حق في أحداث السابع من أكتوبر؟ وما هي الظروف التي مهّدت وقوع هذا الحدث؟

بنظرة متفحصة للعالم من حولنا، يتضح أن الأمور لم تعد تسير كما كانت عليه، بل تسارعت وتيرتها بشكل يثير الدهشة ويستدعي التساؤل. فما الذي حدث في السابع من أكتوبر ليُحدث هذا الزلزال في وعي الشعوب؟ كيف تحولت أصوات الاحتجاجات من همسات متفرقة إلى صرخات موحدة تُسمع في كل أرجاء المعمورة؟ ماذا وراء هذا الغضب العالمي الذي دفع الطلاب والمدافعين عن الحرية للخروج عن صمتهم، مندّدين بجرائم تُرتكب وخداع يتكرر؟ ما هي تلك المشاهد الصادمة التي أشعلت ضمائر الأحرار من كل الثقافات والأديان؟ ولماذا أصبحت غزة وفلسطين فجأة محط اهتمام الجميع؟ والأهم من ذلك، كيف ستعيد هذه الأحداث تشكيل مصير العالم؟

بحث بسيط في عالم الأخبار يقودنا إلى تاريخ متكرر، وهو السابع من أكتوبر 2024! يبدو أن القضية تدور حول الصراع بين الشعب الفلسطيني والنظام الإسرائيلي على أرض تُسمى فلسطين، وبالأخص مكان يُدعى بيت المقدس. إنه صراع ذو جذور تاريخية طويلة، لكن أكثر مظاهره وضوحًا تجلّت في أحداث السابع من أكتوبر، التي لا تزال مستمرة حتى وقت كتابة هذا المقال.

قبل عام، وفي مثل هذه الأيام، اشتعلت شرارة الانتفاضة في فلسطين، لتبدأ فصلاً جديداً من الألم والصمود. خلال هذا العام، وبين أعين العالم الصامت، قُتل أكثر من 42,000 إنسان، وتشرد الملايين، وتحولت غزة إلى أطلال، بينما انتشرت صور مروعة عن حرق البشر أحياء واغتيال القادة السياسيين البارزين من فلسطين ولبنان، مثل يحيى السنوار، ومحمد الضيف، وسيد حسن نصر الله، وفؤاد شكر، وإبراهيم عقيل، وإسماعيل هنية. کما لم تكتفِ آلة الحرب الإسرائيلية بهذا الحد، بل امتدت اعتداءاتها إلى دول الجوار، مستهدفة لبنان، والعراق، وسوريا، وحتى إيران. لكن إيران لم تقف مكتوفة الأيدي، فردت بضربات عبر الطائرات المسيّرة والصواريخ، لتكسر أسطورة “القبة الحديدية” و”مقلاع داوود”، التي كانت تُعتبر رمزاً لهيمنة إسرائيل الجوية.

على مدار عام، أُخليت مناطق شمال إسرائيل من سكانها، وأصبحت قوة جيشها مادة للسخرية من قبل المقاومة في لبنان واليمن. كما قُطع المسار البحري الإسرائيلي تماماً من جهة اليمن، ما أدى إلى حصار بحري خانق.

ومع تصاعد الهزائم، غيّرت إسرائيل قواعد اللعبة، مستخدمة الفوضى لإسقاط النظام الشرعي في سوريا، عبر مجموعات إرهابية ذات صلات سابقة بها. من كان يصدق أن كل هذا يمكن أن يحدث خلال 365 يوماً فقط؟ إنها حقاً سنة غيّرت ملامح المنطقة وأعادت رسم خريطة الصراع.

 أين فلسطين؟

قد يظن الكثيرون في أنحاء العالم أنه لم يكن هناك مكان يُسمى فلسطين قبل السابع من أكتوبر. على مدى 75 عامًا، كانت وسائل الإعلام العالمية تحجب الحقيقة التي كانت تكمن وراء جدران قطاع غزة والضفة الغربية عن أنظار العالم. ولكن في السابع من أكتوبر، انهارت هذه الجدران، ليُفاجأ الجميع بحقيقة كانت غائبة عن الأعين. بعد مشاهدة هذا السيل المتدفق من الأحداث المدهشة التي وثقها الفلسطينيون بأنفسهم، قد يعتقد البعض، ممن ليس لديهم اطلاع سياسي عميق، أن فلسطين قد نشأت حديثًا. ولكن الحقيقة أن السابع من أكتوبر ليس بداية تاريخ فلسطين، بل هو مجرد فصل جديد في قصة طويلة من النضال والصمود.

فلسطين واحدة من أقدم الحضارات البشرية، التي تم تسليمها لليهود قبل 75 عامًا بمؤامرة من بريطانيا وأمريكا باعتبارها “أرضًا بلا شعب” وسعوا منذ ذلك الحین إلى الاستيلاء عليها. قصة العداء بين فلسطين وإسرائيل هي قصة معقدة للغاية، حيث أن البُعد السياسي هو أحد أبعادها الأقل أهمية.

 

جغرافيا فلسطين

فلسطين دولة تقع في قلب الشرق الأوسط بمساحة تزيد عن 27,000 كيلومتر مربع، حيث يشكل البحر الأبيض المتوسط حدودها الغربية بطول 224 كيلومترًا. تحدها سوريا والأردن من الشرق، ولبنان من الشمال، وشبه جزيرة سيناء وخليج العقبة من الجنوب. في الواقع، فإن هذه الأرض هي ذات أهمية جيوسياسية واستراتيجية كبيرة نظرًا لموقعها الذي يتقاطع بين ثلاث قارات: آسيا، وأوروبا، وأفريقيا، وهي بمثابة جسر يربط الدول العربية والإسلامية في آسيا بالقارة الأفريقية. لهذا السبب، كانت محط اهتمام العديد من الحكومات المختلفة والدول الاستعمارية على مر العصور. لقد لعبت فلسطين دورًا مهمًا في الماضي كممر تجاري لنقل البضائع من شرق آسيا إلى غرب أوروبا، ومن جزيرة العرب إلى مصر والعكس.  اكتسب هذا الدور أهمية أكبر لاحقًا مع افتتاح قناة السويس وانتقال النفط من الدول العربية إلى أوروبا وأمريكا.[1]

بالإضافة إلى أن فلسطين لها أهمية سياسية وجغرافية بارزة،  فإنها تحمل أيضًا مكانة تاريخية ودينية عميقة تجعلها محور اهتمام الديانات السماوية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام. بالنسبة لليهود، فهي تُعرف بأنها “الأرض المقدسة” التي وُعدوا بها وفق معتقداتهم، بينما يعتبرها المسيحيون المكان الذي شهد ميلاد السيد المسيح عليه السلام وموطنًا لحياة وعبادة السيدة مريم العذراء سلام الله عليها. أما المسلمون، فيرون في فلسطين مكانة مميزة كونها تحتضن أولى القبلتين أي المسجد الأقصى، مما يضفي عليها طابعًا دينيًا فريدًا يجمع بين الأديان الثلاثة.[2]

احتلال فلسطين بناءً على ادعاء باطل

ليس من الغريب أن يستخدم الكيان الإسرائيلي هذا الإرث التاريخي والديني كذريعة وغطاء لاحتلال فلسطين، مدعيًا أنها “الوطن الأبدي” لآبائهم وأجدادهم. في حين أن بني إسرائيل هم من نسل النبي إبراهيم عليه السلام، الذي كان من أهل أور في سومر، وهي منطقة تقع جنوب بلاد الرافدين، وهاجر لاحقًا إلى فلسطين. وفقًا لما هو مشهور، فإن الكنعانيين واليبوسيين كانوا من أوائل سكان فلسطين،[3] وقد أسسوا مدينة القدس قبل أكثر من 5500 عام قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وهي مسألة سنفرد لها مقالات منفصلة.

هذا الادعاء الباطل أصبح حجر الأساس لاحتلال فلسطين، وهو مجرد غطاء لتحقيق هدف أكبر يتمثل في السيطرة على أرض تتمتع بموقع استراتيجي بالغ الأهمية. هذا الموقع أتاح الفرصة لإنشاء كيان مصطنع وحكومة دمية في قلب الشرق الأوسط، ليصبح أداة تخدم مصالح الغرب الاستعماري والصهيونية العالمية وتساعدهم في فرض نفوذهم وتحقيق أهدافهم.[4]

الصهيونية العالمية وتشكيل إسرائيل

الصهيونية العالمية، منذ عدة عقود وحتى قبل قرون من حادثة السابع من أكتوبر، لم تقتصر على التحضير لاحتلال فلسطين من خلال المناورات السياسية القذرة، بل استخدمت أيضًا دعايات واسعة النطاق لتصوير اليهود كضحايا و نشر أكاذيبهم في عقول الناس حول العالم. هذا إلى درجة أن الكثير من الناس لا يزالون يعتقدون أن الفلسطينيين قد باعوا أراضيهم لليهود الإسرائيليين طمعًا في تحقيق مكاسب مادية أكبر،[5] أو أنهم عندما أتيحت لهم فرصة إقامة دولتهم رفضوا ذلك بملء إرادتهم بسبب ضعفهم وعجزهم. هذه الادعاءات، التي عززتها البروباغندا الإعلامية الغربية، شوهت صورة معاناة الشعب الفلسطيني في الرأي العام العالمي، وأظهرت اليهود كأمة مضطهدة تسعى فقط للعودة إلى “أرض أجدادها”.[6] مثل هذه الشبهات ما زالت تشغل أذهان الكثيرين بعد أحداث السابع من أكتوبر، وهي امتداد لنفس الادعاءات التي روجت لها الصهيونية لتبرير احتلالها لفلسطين وتشويه نضال الشعب الفلسطيني المشروع.

من بين هذه الشكوك كان الحديث عن عدم جدوى أحداث السابع من أكتوبر و”طوفان الأقصى”. في مواجهة هذه الشبهات، يجب أن ندرك حقيقة أن أن ما جرى في السابع من أكتوبر لفت أنظار العالم إلى  الجرائم والكوارث التي ارتكبها الصهاينة خلال  75 عامًا.

على الرغم من أن تاريخ نشوء الصهيونية العالمية ليس حديثًا، بل يعود إلى تاريخ الشعب اليهودي، إلا أن جهود الصهيونية العالمية قد اتخذت طابعًا جادًا في القرنين الأخيرين وحققت تقدمًا كبيرًا نحو تحقيق أهدافها النهائية.

كان اليهود في زمن النبي موسى عليه السلام يُعتبرون “شعب الله المختار” بهدف إقامة حكومة إلهية على الأرض. لكن مع عصيانهم وعدم اتباعهم لوصيهم، انحرفوا عن هذا المسار واتخذوا طريقًا مختلفًا سعياً لتأسيس حكومة عالمية تخلو من وجود الله. هذه الفكرة التي أرست أسس الصهيونية العالمية، لا تزال تدفع بهذا المشروع العالمي نحو الأمام، متجاهلة أي دور أو حضور إلهي في معادلاتها.

المؤامرات الخفية للصهيونية العالمية

لم تقتصر الصهيونية العالمية على تشكيل إسرائيل فقط، بل سعت لتنفيذ أهدافها وفقًا لخطة مسبقة في اتجاهات متعددة، وهدفت إلى السيطرة على عقول الناس في العالم لصالح نشاطاتها، فقامت بإنشاء منظمات عالمية متعددة استنادًا إلى البروتوكولات الصهيونية الخاصة بها، وسعت إلى دفع المجتمعات المختلفة نحو النظام الجديد أو ما يُسمى بتحقيق سيطرتها العالمية من خلال التهديد، والإغراء أو التشجيع.

يمكن القول إن الوسيلة التي ضمنت نجاح اليهود كانت الدعاية الإعلامية التي استخدمها هذا التيار للسيطرة على العقول، وأهم أداة تم توظيفها للتغطية على ممارسات إسرائيل القمعية وطموحاتها التوسعية وتبرير جرائمها في أذهان الناس، هي الادعاء بمظلومية الشعب اليهودي وعداء الشعوب لهم عبر التاريخ، وهو ما يُعرف غالباً بمصطلح “معاداة السامية”.[7] في الواقع، قضايا مثل الهولوكوست، وتصوير اليهود كأصحاب الأرض الأصليين في فلسطين، والادعاء ببيع الفلسطينيين أراضيهم طواعية، وغيرها، كلها عناصر تم طرحها مرارًا وتكراراً من أجل تثبيت فكرة أحقية اليهود في الاستيلاء على أرض فلسطين.

لقد أنشأت الصهيونية العالمية، بامتلاكها وسائل الإعلام، وصناعة الأفلام في هوليوود، والشبكات الإخبارية، والشركات الكبرى في مجال الدعاية، المواضيع اللازمة لفرض أفكارها ونشرها عبر مختلف الوسائل. حتى وسائل الإعلام تُستخدم كأداة لتضخيم هيمنة إسرائيل وشبكة معلوماتها،[8] وقد تم استخدامها في أحداث السابع من أكتوبر أيضًا من خلال التلاعب بالحقائق والرقابة لتغيير معتقدات الناس حول العالم. وتماما كما كانت وسائل الإعلام قد ساعدت في تحقيق أهداف أشخاص مثل معاوية والجماعة الأموية في بداية الإسلام، فقد كان لها دور في نشر الخوف والرعب من خلال تنظيمات مثل داعش، مما يعكس القوة الهائلة التي يمكن للإعلام أن يمارسها في تشكيل الرأي العام وخدمة الأجندات السياسية.

في أي جانب من التاريخ نقف؟

رأت الصهيونية العالمية في إنشاء إسرائيل مركزًا لتحقيق أهدافها العليا، مثل إقامة حكومة عالمية وخلق نظام عالمي جديد، مع أن هذه الأهداف كانت تواجه بالفعل عقبات كبيرة مثل الإسلام والثورة الإسلامية. ولهذا السبب، في الوقت الذي كان فيه الكيان الإسرائيلي يسعى، من خلال إقامة علاقات مع حكومات المنطقة، للسيطرة على العلاقات السياسية والاقتصادية في منطقة غرب آسيا بل وحتى العالم الإسلامي بأسره، فوجئ في السابع من أكتوبر عام 2023 بطوفان الأقصى. الحدث لم يهدد مخططاته فحسب، بل وضع وجوده بأكمله في دائرة الخطر.[9]

الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أننا نشهد اليوم لحظة حاسمة في تاريخ البشرية، حيث تتحدد معالم الجبهتين المتقابلتين اللتين كانتا في صراع منذ فجر الزمان. هذه الحرب العميقة التي لطالما تجلت في أحداث مرّت في الخفاء والعلانية على مر العصور، وصلت الآن إلى مرحلة من الوضوح لم نشهدها من قبل، لنجد أنفسنا اليوم على ضفافها في غزة وفلسطين.

إن ما حدث في السابع من أكتوبر ليس مجرد حدث عابر، بل هو تجسيد حي للصراع الأبدي بين الحق والباطل، والخير والشر. هذه المعركة التي تقترب لحظاتها الفاصلة تنكشف أمام أعيننا، وتفرض علينا الوقوف في مواجهة واقع لا مفر منه. والسؤال الآن هو: في هذه المعركة المصيرية، في أي جانب من التاريخ نقف؟

 

[1] https://www.marefa.org/جغرافيا_فلسطين

[2] بيتُ المقدس أُولى القبلتين ومَسرَى الرسول (ص) | مركز الهدى للدراسات الإسلامية

http://shiaonlinelibrary.com/الكتب/1530_بحارالأنوارالعلامةالمجلسيج-٩٩/الصفحة_272

[3] من هم الكنعانيون.. ولماذ فلسطين كنعانية؟

[4] وعد بلفورالمعرفة

[5] هل باع الفلسطينيون أرضهم وتخلوا عنها لليهود

[6] الدور البريطاني في إنشاء إسرائيل واستمرار مأساة الشعب الفلسطيني

[7] Anti-Semitism

[8] الدکتور علیرضا داودي، خبير سياسي وإعلامي

[9] من محاضرة السيد آیت الله الخامنه اي في تاریخ 03/06/2024

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *