مسيرة الأربعين عبر التاريخ والتحديات التي واجهتها
تُعتبر مسيرة الأربعين واحدة من أكبر الشعائر الدينية في العالم الإسلامي، وهي رمز لوحدة وتضامن الشيعة. هذا الحدث المهيب، الذي يجذب سنويًا ملايين الأشخاص من إيران والعراق ودول أخرى إلى كربلاء المقدسة، ليس فقط تعبيرًا عن الحب والولاء للإمام الحسين عليه السلام وأصحابه الأوفياء، بل هو أيضًا من المستحبات المؤكدة في الثقافة الشيعية. فقد رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: “من زار الحسين عليه السلام ماشيًا كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة، ورفع له ألف درجة”[1]. وفي حديث آخر، قال عليه السلام: “من زار الحسين عليه السلام ماشيًا كتب الله له بكل خطوة ثواب عتق رقبة من ولد إسماعيل عليه السلام“.[2]
ومع ذلك، لم يكن إحياء مسيرة الأربعين عبر التاريخ أمرًا سهلًا دائمًا. يُظهر التاريخ بوضوح أن هذه المسيرة واجهت العديد من التحديات والقيود، بل وحتى المنع، بسبب التغيرات السياسية والاجتماعية والأمنية في كل عصر. من العصور القمعية للأمويين والعباسيين إلى الدعم المتذبذب للبويهيين والصفويين، ومن سنوات القمع في العصر العثماني وحكم البعث في العراق إلى الانفتاح بعد سقوط صدام، كان لكل فترة تاريخية تأثيرها الفريد على مصير هذه التقاليد العظيمة.
في العديد من الفترات، حاولت القوى السياسية منع إحياء الشعائر الشيعية من خلال فرض قيود وحظر وضغوط واسعة النطاق. ولكن حب الإمام الحسين عليه السلام وروح المقاومة والولاء لمبادئ عاشوراء لدى الناس جعلت هذه الحركة تستمر وتزدهر بشكل أكبر. في الواقع، تُظهر دراسة تاريخ مسيرة الأربعين استمرارية الهوية الجماعية المتجذرة في الإيمان والصمود وروح الحرية، وهي جوهرة صقلتها المحن والاختبارات وانتقلت من جيل إلى جيل.
في هذا المقال، سنستكشف الجوانب المختلفة لوضع مسيرة الأربعين والتحديات التي واجهتها منذ صدر الإسلام حتى العصر الحاضر، لفهم دور وتأثير هذه التقاليد العظيمة على هوية وثقافة وتماسك المجتمع الشيعي. وسنناقش الأسئلة الأساسية التالية:
- ما هي أهم العقبات والقيود التي واجهتها مسيرة الأربعين عبر التاريخ، وكيف أثرت على شكل ونطاق إحيائها؟
- كيف أثرت سياسات وإجراءات الحكومات على وضع مسيرة الأربعين عبر التاريخ؟
- ما هي العوامل التي أدت إلى زيادة أو تقليل الحرية في إحياء مسيرة الأربعين في مختلف العصور؟
مسيرة الأربعين في عصر القمع: المقاومة الصامتة للشيعة في العهدين الأموي والعباسي
واجهت مسيرة الأربعين منذ البداية صعوبات وتهديدات كبيرة. في القرنين الأولين بعد عاشوراء، كانت الأجواء السياسية والأمنية في العالم الإسلامي، خاصة في العراق، قمعية لدرجة أن أي تجمع أو حزن يذكر بثورة الإمام الحسين عليه السلام كان يُقمع بشدة. لكن الشيعة، رغم كل التهديدات، لم يتخلوا عن إحياء ذكرى كربلاء وحب الأئمة عليهم السلام، وهذا الصمود هو ما حافظ على هوية وثقافة الشيعة حتى اليوم.
مسيرة الأربعين في العصر الأموي
بعد مأساة عاشوراء، لم تكتفِ الحكومة الأموية بنفي وقمع ذكر الإمام الحسين عليه السلام فحسب، بل فرضت قوانين صارمة تحظر أي تجمع أو حزن أو زيارة لضريحه. في تلك الفترة، كان مجرد الحديث عن كربلاء وأهل الالصفحة الرئيسية عليهم السلام يعرض الشيعة للخطر والعقاب الشديد. تُظهر العديد من الوثائق والروايات التاريخية أن الزوّار كانوا يسلكون طرقًا سرّية، ليلية، وأحيانًا فردية وصامتة، للوصول إلى كربلاء، كي لا تنطفئ شعلةُ ذكر الحسين عليه السلام. وكان بعضهم يُعتقل في الطريق أو أثناء العودة ويتعرض لأشد العقوبات. في ذلك العصر، كان الأربعين في الواقع رمزًا للصمود والمقاومة الصامتة ضد ظلم الحكام الطغاة أكثر من كونها طقس جماعي علني.
وضع مسيرة الأربعين في العصر العباسي
مع انتقال السلطة إلى العباسيين، تغيرت آلية القمع لكن العداء لمسيرة الأربعين استمر. على الرغم من أن العباسيين رفعوا في بعض الفترات شعار دعم أهل الالصفحة الرئيسية عليهم السلام لمنافسة الأمويين، إلا أنهم بعد ترسيخ سلطتهم اعتبروا شعائر الشيعة تهديدًا لشرعيتهم. هناك أمثلة تاريخية لخلفاء مثل المنصور والمتوكل العباسي، الذين أمروا بمنع الزيارة وتدمير قبر الإمام الحسين عليه السلام ووضع الطرق المؤدية إلى كربلاء تحت المراقبة العسكرية. كان زوار الأربعين مضطرين للسفر في مجموعات صغيرة أو بشكل فردي، وغالبًا ما كانوا يشعرون بالخوف والقلق الشديدين. ومع ذلك، كانت هناك فترات خفف فيها بعض الخلفاء المعتدلين من القيود، مما أدى إلى ظروف أكثر انفتاحًا في بعض المناطق. لكن بشكل عام، كان القمع يخيم على شعائر الأربعين. رغم ذلك، استمرت هذه الشعائر، وإن كانت سرية ومحدودة، ولعبت دورًا مهمًا في تشكيل الهوية والتماسك الشيعي.
بزوغ فجر جديد للأربعين: من تساهل البويهيين إلى دعم الدولة الصفوية
مر تاريخ مسيرة الأربعين بالعديد من التقلبات، ووصل إلى فترات وفرت ظروفًا جديدة لإحياء هذه التقاليد. مع انتهاء عصر الضغط والقيود الأموية والعباسية وبداية حكم الدول الشيعية، بدأ فصل جديد في وضع مسيرة الأربعين. كان صعود البويهيين ثم تأسيس الدولة الصفوية نقطتي تحول مهمتين في توفير بيئة أكثر ملاءمة لإحياء الشعائر الشيعية، خاصة مسيرة الأربعين. لعبت هذه الفترات، بكل اختلافاتها وخصائصها السياسية والاجتماعية، دورًا حاسمًا في ترسيخ وتوسيع شعائر الأربعين، حتى يمكن اعتبارها بداية لترسيخ هذه المسيرة في المجتمع الشيعي.
ظروف مسيرة الأربعين في عصر البويهيين
مع بداية حكم البويهيين الشيعة في أجزاء من إيران والعراق، شهد وضع مسيرة الأربعين تغييرًا ملحوظًا لأول مرة. على عكس الفترات السابقة، التي كانت المسيرة فيها محفوفة بالخوف والقيود الشديدة، أصبحت الظروف أسهل إلى حد ما للراغبين في زيارة الإمام الحسين عليه السلام. أظهرت حكومة البويهيين، التي كانت تميل بوضوح إلى التشيع، تساهلًا وتعاونًا أكبر في إحياء الشعائر الدينية مثل عاشوراء والأربعين. في الواقع، تم الاعتراف بزيارة ومسيرة الأربعين إلى حد ما، وزادت حرية الزوار. تمكن الناس لأول مرة من إحياء مسيرة الأربعين بسلام أكبر، وإن كان دون دعم كامل، والحفاظ على ذكرى شهداء كربلاء. على الرغم من استمرار بعض القيود بسبب الظروف الاجتماعية أو بعض الحكام المحليين، إلا أن هذه الفترة كانت انفتاحًا ملحوظًا مقارنة بالعصرين الأموي والعباسي.
وضع مسيرة الأربعين في العصر الصفوي
في العصر الصفوي، عندما أصبح التشيع المذهب الرسمي لإيران، شهد وضع مسيرة الأربعين تحولًا كبيرًا. لم تكتفِ الدولة الصفوية بالسماح بإحياء شعائر عاشوراء والأربعين بحرية وعلى نطاق واسع، بل دعمتها أيضًا وشجّعت على إحياء مسيرة الأربعين وسائر تقاليد الحزن. في هذه الحقبة التاريخية، رُفعت جميع القيود، وشهد التاريخ مسيراتٍ ضخمة ومواكبَ منظّمة من المعزّين تسير في طرق متعدّدة نحو كربلاء وسائر الأماكن المقدّسة. وهكذا تحولت مسيرة الأربعين إلى رمز اجتماعي وديني، ولعبت دورًا مهمًا في تماسك الشيعة وترسيخ هويتهم الدينية. أدى الحضور الواسع للناس في مسيرة الأربعين، إلى جانب الدعم الرسمي والتسهيلات الحكومية، إلى توسيع وترسيخ هذه التقاليد أكثر من أي وقت مضى.
يُعتبر العصر الصفوي نقطة تحول في تاريخ مسيرة الأربعين، لأنه لأول مرة بعد قرون من الضغط والقيود، أمكن إحياء هذه الشعائر بحرية وعظمة، مما عزز جذورها في الثقافة الإيرانية والإسلامية.
استمرارية شعيرة الأربعين: تجاوز العقبات السياسية في العهد العثماني وتحديات الحدود في العهد القاجاري
مع مرور التاريخ وانتقال السلطة بين السلالات والإمبراطوريات، تأثر وضع مسيرة الأربعين دائمًا بالظروف السياسية والدينية والاجتماعية في كل عصر. بعد العصر الصفوي وتغيير المعادلات في المنطقة، كان للعصرين العثماني والقاجاري تأثيرهما المهم المليء بالتقلبات على تاريخ مسيرة الأربعين. وفرت الظروف السياسية والحدودية الخاصة أحيانًا فرصًا لإحياء هذه الشعائر بسهولة أكبر، كما خلقت أحيانًا أخرى عقبات وقيودًا جديدة، مما اختبر صمود إيمان الناس وولائهم. في هذا القسم، سنستعرض بالتفصيل وضع مسيرة الأربعين في العصرين العثماني والقاجاري لفهم أفضل لاستمرارية هذه التقاليد ومقاومتها في مواجهة العقبات والتطورات التاريخية.
وضع مسيرة الأربعين في العصر العثماني
في سياق دراسة تاريخ مسيرة الأربعين، يُعتبر العصر العثماني في العراق (من القرن العاشر الهجري حتى أوائل القرن العشرين الميلادي) فترةً مهمةً. خلال هذه الحقبة، حافظت مسيرة الأربعين على مكانتها كتقليد ديني عميق الجذور، رغم أنها لم تُقم دائمًا بحريةٍ كاملة. كانت سياسات الدولة العثمانية تتغير غالبًا بتأثير الظروف السياسية والدينية في المنطقة. في بعض الفترات، خاصة أثناء التوترات الطائفية بين الشيعة والسنة أو في أوقات الاضطرابات السياسية والاجتماعية، كانت تُفرض قيودا شديدة على إحياء مسيرة الأربعين.
في كثيرٍ من السنوات، كانت الحكومة العثمانية تغلق الطرق المؤدية إلى كربلاء، خاصةً في أيام الأربعين، أو تمنع الزوّار من إقامة المسيرة بحرية، عبر نشر القوات العسكرية وفرض قوانين صارمة. وفي بعض الأحيان، كانت تُحظر شعائر الأربعين تمامًا، ويضطر الزوار إلى السير في مجموعات صغيرة وبشكل سري. كانت هذه الظروف واحدة من العقبات الجدية التي واجهتها مسيرة الأربعين عبر التاريخ، لكنها لم تنجح أبدًا في منع إحياء هذه الشعيرة الروحية تمامًا.
وضع مسيرة الأربعين في العصر القاجاري
في العصر القاجاري، ورغم أن الأجواء العامة للتشيّع في إيران كانت أكثر ودًّا ودعمًا، فإن مشكلاتٍ مثل عبور الحدود والقضايا الأمنية استمرّت في التأثير على إحياء مسيرة الأربعين. فقد كان الزوّار الإيرانيون مضطرّين لعبور الحدود العراقية للمشاركة في المسيرة وزيارة مرقد الإمام الحسين عليه السلام، وهو ما كان ينطوي على قيود دبلوماسية ومخاطر أمنية.
ورغم هذه الصعوبات، لم يفتر حماس الشعب الإيراني للمشاركة في شعائر الأربعين قطّ، بل كان عدد كبير من محبّي أهل الالصفحة الرئيسية عليهم السلام يقطعون مسافاتٍ طويلة سيرًا على الأقدام للوصول إلى كربلاء.
في الواقع، لم يؤدِّ حضور الزوّار الإيرانيين في مسيرة الأربعين خلال العصر القاجاري إلى إحياء هذه الشعيرة الدينية فحسب، بل أسهم أيضًا في تعزيز الروابط الثقافية والدينية بين شيعة إيران والعراق. وعلى الرغم من استمرار القيود والتهديدات في تلك المرحلة، فإن روح التضحية والتضامن حوّلت مسيرة الأربعين إلى حركةٍ شعبيةٍ واسعة.
لم تتمكّن الحدود ولا الضغوط الحكومية من إيقاف استمرار هذه التقاليد القيّمة عبر التاريخ.
مسيرة الأربعين في عهد حزب البعث العراقي وما بعده
مع دخول القرن العشرين والتغيرات السياسية والاجتماعية والأمنية، بدأت مرحلة جديدة في مصير مسيرة الأربعين. مر العراق، كمركز رئيسي لهذه الشعيرة العظيمة، بسنوات مضطربة ومليئة بالتحديات، كان لكل منها تأثير عميق على طريقة إحياء المسيرة بل وحتى على وجودها. من تشكيل دولة العراق الحديثة بعد سقوط العثمانيين إلى التحولات المتعددة للحكام والأنظمة السياسية، كانت الشعائر الدينية، وخاصة مسيرة الأربعين، دائمًا مرآة للصراعات والأزمات، وأحيانًا للفرص الجديدة في هذا البلد.
فيما يلي، نناقش فترتين أساسيتين ومؤثرتين في التاريخ المعاصر لمسيرة الأربعين: أولًا، فترة القمع والاضطهاد في عهد حزب البعث وصدام حسين، ثم المرحلة الجديدة التي بدأت بعد سقوط هذا النظام، والتي حولت مسيرة الأربعين إلى واحدة من أكبر التجمعات الدينية في العالم.
تُعتبر فترة حكم حزب البعث العراقي، وخاصة عهد صدام حسين، واحدة من أكثر الفترات حرجًا ومرارة في تاريخ مسيرة الأربعين. بعد انقلاب البعثيين وترسيخ سلطة صدام، اتخذت الحكومة نهجًا قمعيًا وعدائيًا تجاه الشيعة العراقيين، وخاصة شعائرهم الدينية. في تلك الفترة، واجهت مسيرة الأربعين أشد أشكال الحظر والضغط. تم حظر أي تجمع أو حزن أو حركة جماعية نحو مرقد الإمام الحسين بشكل علني. تحت ذرائع مثل الحفاظ على الأمن ومكافحة التهديدات، قمعت حكومة البعث مسيرة الأربعين واعتبرت أي إشارة لإحيائها جريمة. تم اعتقال وتعذيب وإعدام آلاف الشيعة بسبب محاولتهم للمشاركة في المسيرة.
على الرغم من القمع السياسي وأجواء الرعب، واصل كثيرٌ من محبّي أهل الالصفحة الرئيسية عليهم السلام السير إلى كربلاء في سرّيةٍ تامة، متحمّلين المخاطر الجسدية والمالية، حفاظًا على تقليد زيارة الأربعين حيًّا. وتُعدّ هذه المرحلة ذروة الضغط والقمع ضدّ واحدةٍ من أبرز شعائر الشيعة في التاريخ.
بعد سقوط نظام البعث عام ۲۰۰۳، بدأت مرحلة جديدة في تاريخ العراق، وخاصة في إحياء شعائره الدينية. بعد سنوات من القمع والحظر، أتيحت لمسيرة الأربعين فرصة الظهور مرة أخرى، وتحولت بسرعة إلى واحدة من أكثر التجمعات الدينية روعة في العالم. في السنوات التالية لعام ۲۰۰۳، شهدنا نموًا متسارعًا في عدد الزوار والمشاركين في مسيرة الأربعين. يُقام هذا الحدث سنويًا، حاملًا معه رسالة الحبّ والولاء للإمام الحسين عليه السلام وأصحابه، بمشاركة ملايين الزائرين من شتّى بقاع الأرض: من إيران ودول الخليج، إلى أوروبا وأمريكا وآسيا.
اليوم، لا تُعتبر مسيرة الأربعين مجرد تقليد قديم، بل ظاهرة اجتماعية وسياسية فريدة تُظهر وحدة وتضامن الأمة الإسلامية. هذا التجمع الضخم، الذي هو ثمرة جهود ملايين المحبين، يوفر فرصة لتعزيز ثقافة الإيثار والمقاومة والسعي للعدالة، وأصبح رمزًا للهوية الشيعية في العالم المعاصر.
بلغت مسيرة الأربعين في العصر الحديث ذروة ازدهارها وانتشارها، ولا تزال تواجه تحديات وفرصًا جديدة سيتم تناولها في مقالات وتحليلات قادمة.
طريق العلماء: المسار التاريخي والروحي لمسيرة الأربعين
يُعتبر “طريق العلماء” أو “طريق الفرات” واحدًا من أقدم الطرق التي استخدمها زوار الإمام الحسين عبر التاريخ للسير إلى كربلاء. اكتسب هذا الطريق اسمه بسبب مرور العديد من العلماء ورجال الدين البارزين عليه على مر السنين. يبدأ الطريق من مسجد السهلة في الكوفة، ويُعتبر أحد الطريقين الرئيسيين للمسيرة بين النجف وكربلاء.
يتميّز هذا الطريق بمروره بجانب نهر الفرات وبساتين النخيل الخضراء، ممّا يضفي عليه جمالًا خاصًّا. وعلى النقيض من الطريق الرئيسي بين النجف وكربلاء، الذي ظلّ لسنواتٍ عديدة جافًّا، صحراويًّا، ويفتقر إلى المرافق الأساسية لخدمة الزائرين مشيًا على الأقدام، فقد استقبلت القبائل الشيعية الواقعة على طريق العلماء الزوّار بعفوية، وقدّمت لهم المأوى والطعام حبًّا بالإمام الحسين عليه السلام. ولهذا السبب، حظي هذا الطريق بشعبيةٍ أكبر بين الزائرين.
خلال حكم حزب البعث وسنوات سيطرة صدام حسين على العراق، عندما كانت مسيرة الأربعين محظورة، أصبح هذا الطريق ملاذًا للعلماء ورجال الدين والناس لإقامة الزيارة بأمان أكبر. اليوم، تُقام مسيرة الأربعين عبر ثلاثة طرق رئيسية: طريق الكاظمية، وطريق الحلة، وطريق العلماء. يبلغ طول طريق العلماء حوالي ۸۹ كيلومترًا، ويعمل معظم سكان هذه المناطق في الزراعة وتربية الحيوانات. بسبب الغطاء النباتي وقربه من النهر والمناخ المعتدل، يُعتبر هذا الطريق “أخضر مسارات كربلاء”.
من بين ميزات طريق العلماء الهدوء النسبي والبيئة المريحة، بعيدًا عن الزحام والضجيج المعتاد في الطريق الرئيسي بين النجف وكربلاء. على عكس الطريق الرئيسي المحدد بأعمدة مرقمة، لا توجد في هذا الطريق سوى علامات متفرقة لإرشاد الزوار. تُقام المواكب في هذا الطريق غالبًا في منازل سكان القرى، ويصبح الزوار ضيوفًا على أهل هذه المناطق، مما يعكس كرم الضيافة والثقافة الدينية لسكان هذه المناطق.
دور القيود المؤقتة في ديناميكية شعيرة مسيرة الأربعين
في مسار مسيرة الأربعين المليء بالتقلبات عبر التاريخ، كانت هناك دائمًا عقبات مؤقتة، معظمها ناتج عن الأزمات الأمنية أو تفشي الأمراض المعدية. على الرغم من أن هذه القيود أثرت أحيانًا على نطاق وروعة شعائر الأربعين، إلا أنها لم تنجح أبدًا في إيقاف هذه التقاليد العريقة والواسعة بشكل دائم.
الأزمات الأمنية
في سنوات مختلفة، خاصة في العقود الأخيرة، واجه العراق أزمات أمنية خطيرة، بما في ذلك الهجمات الإرهابية والتفجيرات وعدم الاستقرار العام، والتي استهدفت غالبًا زوار مسيرة الأربعين. على الرغم من أن هذه الأحداث كانت تهديدًا خطيرًا لسلامة وحياة الملايين من المشاركين في المسيرة، إلا أنها دفعت السلطات المسؤولة في كثير من الأحيان إلى فرض تدابير أمنية مشددة أو حتى قيود مؤقتة لحماية الزوار.
في بعض السنوات، تم إغلاق الطرق المؤدية إلى كربلاء، أو سُمح فقط لسكان مدن معينة بالمشاركة. لكن على الرغم من هذه الظروف، استمر حب الناس وولاؤهم للإمام الحسين في تشجيعهم على إحياء المسيرة، وبعد انحسار الأزمة، كان حشد الزوار المهيب يتجه إلى كربلاء مرة أخرى.
تفشي الأمراض
من الأمثلة البارزة الأخرى للقيود المؤقتة هو التفشي الواسع للأمراض المعدية مثل فيروس كورونا (كوفيد-۱۹) في السنوات الأخيرة. خلال سنوات الجائحة العالمية، فرضت الحكومة العراقية والدول الأخرى المستضيفة للزوار قيودًا صحية مشددة، وأحيانًا علقت أو أوقفت مسيرة الأربعين مؤقتًا.
أدى الحضور الكثيف للزوار في مكان واحد، مع احتمال انتقال المرض، إلى تحدٍ خطير، وتم تنفيذ بروتوكولات مثل التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات وحتى تقليل عدد المشاركين. ومع ذلك، أظهرت مسيرة الأربعين عبر التاريخ أنها حتى في ذروة الأزمات الصحية، بعد إدارة الأزمات ومرور الوقت، تُحيى مجددًا بنفس الحماس والحشود المعتادة.
بشكل عام، تُظهر التجربة التاريخية أن القيود المؤقتة، سواء الناتجة عن التهديدات الأمنية أو تفشي الأمراض الواسعة، لم تنجح أبدًا في إيقاف استمرارية وعظمة مسيرة الأربعين. بعد زوال هذه العقبات، استمرت هذه التقاليد بقوة وحماس أكبر، وأصبحت رمزًا لصمود وثبات أتباع أهل الالصفحة الرئيسية عليهم السلام.
مسيرة الأربعين عبر التاريخ ليست مجرد شعيرة دينية، بل تمثّل رمزًا قويًا للإيمان والصمود والهوية الشيعية. هذه الشعيرة، المتجذّرة في أعماق التاريخ الإسلامي، واجهت على مرّ العصور عقبات وقيودًا شتى، من ضغوط سياسية وحظر حكومي وتهديدات أمنية، إلى أزمات عالمية كتفشي الأمراض المعدية
ومع ذلك، تُظهر دراسة تاريخ مسيرة الأربعين أن محبة الشيعة للإمام الحسين وإرادتهم الراسخة لم تسمح يومًا بانقطاع هذه التقاليد العظيمة. صحيح أن الظروف الاجتماعية والسياسية في كل عصر أثّرت في شكل المسيرة ونطاقها، بل وعرّضتها أحيانًا لتهديدات جسيمة، إلا أنّ هذه الحركة الروحية لم تخبُ أبدًا، بل ازدادت وهجًا وعظمة مع تعاقب الأجيال.
قدّمت مسيرة الأربعين عبر التاريخ صورة ناصعة للولاء والتضامن والمقاومة، وأثبتت أن الإيمان العميق والقناعة الصادقة كفيلان بالحفاظ على القيم والتقاليد في وجه العقبات العابرة. واليوم، لم تعد هذه الشعيرة المليونية تمثل ثقافة وتاريخ الشيعة فحسب، بل أضحت نموذجًا حيًّا للإنسانية والتكافل والسعي نحو العدالة في العالم المعاصر. وبالتالي، فإن مراجعة وضع مسيرة الأربعين عبر التاريخ والعقبات التي واجهتها تُظهر أهمية الحفاظ على هذه التقاليد العظيمة، وتذكرنا بأن مسيرة الأربعين كانت دائمًا ركيزة أساسية لهوية وتماسك المجتمع الشيعي.
[1]حَدَّثَنِی عَلِي بْنُ الْحُسَینِ بْنِ مُوسَی بْنِ بَابَوَیهِ وَ جَمَاعَةٌ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِي بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِیرَةِ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ جَابِرٍ الْمَکْفُوفِ عَنْ أبِي الصَّامِتِ قَالَ سَمِعْتُ أبَا عَبْدِ اللَّهِ ع وَ هُوَ یقُولُ مَنْ اَتَی قَبْرَ الْحُسَینِ (علیهالسّلام) مَاشِیاً کَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِکُلِّ خُطْوَةٍ اَلْفَ حَسَنَةٍ وَ مَحَا عَنْهُ اَلْفَ سَیئَةٍ وَ رَفَعَ لَهُ اَلْفَ دَرَجَةٍ.
القمي، أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه (المتوفى سنة ۳۶۷ هـ)، كامل الزيارات، ص۱۳۳
[2] حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقُرَشِی الرَّزَّازُ عَنْ خَالِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَینِ بْنِ اَبِی الْخَطَّابِ عَنْ اَحْمَدَ بْنِ بَشِیرٍ السَّرَّاجِ عَنْ اَبِی سَعِیدٍ الْقَاضِی: … سَمِعْتُ اَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع یقُولُ مَنْ اَتَی قَبْرَ الْحُسَینِ ع مَاشِیاً کَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِکُلِّ خُطْوَةٍ وَ بِکُلِّ قَدَمٍ یرْفَعُهَا وَ یضَعُهَا عِتْقَ رَقَبَةٍ مِنْ وُلْدِ اِسْمَاعِیل.
القمي، ابوالقاسم جعفر بن محمد بن قولویه (المتوفى سنة ۳۶۷ هـ)، کامل الزیارات، ص۱۳۴