الانتقال من المجتمع المسلم إلى المجتمع الإسلامي في ظلّ فهم أهمية معرفة النفس
ما هي مكانة معرفة النفس وأهميتها في الحضارة الإسلامية الحديثة؟ وما هي مكانة البشر في حكومة الصالحين التي سيقيمها الإمام المهدي(عليه السلام)؟ وعلى أي أساس يتم تقييمهم؟ لفهم جوهر الحضارة الإسلامية الحديثة وحكومة الصالحين التي ستُقام بعد ظهور الإمام المهدي(عليه السلام) بشكلٍ صحيحٍ، من الضروريّ أن نتعرف على الأسس العقائدية والدينية لهذه الحضارة. تُمثّل الحضارة الإسلامية الحديثة حضارةً ترتكز على الإسلام أساسًا، ويعتبر القرآن الكريم دستورها، بينما يتولّى القائد المُتخصصّ المعصوم تطبيقه وتفسيره. ويهدف تأسيس هذه الحضارة إلى تحقيق العدالة بجميع أبعادها، وتوفير الظروف اللازمة لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. تُولي الحضارة الإسلامية الحديثة اهتمامًا كبيرًا بجميع جوانب الوجود ومراحل حياة الإنسان، وتهدف إلى تحقيق الغاية من خلق الإنسان، وهي التخلّق بالأخلاق الإلهية والتشبّه بالله تعالى. لا تنظر الحضارة الإسلامية الجديدة إلى الإنسان ككائنٍ محدودٍ ينشأ ويُفنى، بل كوجودٍ متكاملٍ ينتمي إلى الله تعالى ويسعى للعودة إليه.
في الحضارة الإسلامية الحديثة، يتم الاهتمام بجميع أبعاد وجود الإنسان وجميع مراحل حياته، ويصل الإنسان إلى الهدف الذي خلق من أجله، وهو التخلق بالأخلاق الإلهية والتشبه بالله. الإنسان ليس مجرد مخلوق ممتد من الولادة إلى الموت في نظرة هذه الحضارة، بل هو مخلوق من الله إلى الله، لقد كان عند الله قبل أن يأتي إلى الدنيا، وسيعود إليه بعد الموت.
هناك اختلاف جوهريّ بين نظرة الحضارة الإسلامية إلى الإنسان ونظرة الحضارة الغربية. ترى الحضارة الغربية الإنسان كائنًا حيوانيًا متطورًا، تبدأ حياته مع ولادته وتنتهي بموته أو حسب عقيدة التناسخ، تنتقل روحه باستمرار من جسد إلى آخر في عالم الدنيا. لذلك، فإن الإنسان الذي يُربّى وفقًا لمعايير الحضارة الغربية، يختلف تمامًا عن الإنسان المثالي في الحضارة الإسلامية الحديثة، وهنا تكمن أهمية معرفة النفس. معرفة النفس تُخلّص الإنسان من النظرة الضيقة والحيوانية لنفسه، وتُنظّم علاقاته مع كل شيء.
أهمية معرفة النفس في تكوين المجتمع الإسلامي
الإنسان المثالي في الحضارة الإسلامية الحديثة هو الذي يدرك أهمية معرفة النفس ودورها في تنمية شخصيته وشخصيات من حوله. يتكون المجتمع الإسلامي، الذي كان الهدف النهائي لجميع الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، من أفراد لا يعرفون أنفسهم فقط على المستوى الفردي، بل ينظمون أولويات محبوبيهم بشكل صحيح ويسعون لتحقيق هدف خلقهم. كما يسعون جاهدين لنشر هذه المعرفة بين أفراد المجتمع الآخرين قدر الإمكان. بعبارة أخرى، إنهم يدركون أهمية معرفة النفس ويعملون على تعريف أفراد المجتمع، والبلاد، وحتى العالم بأسره بذاتهم الحقيقية والإنسانية. هذا يعني أنه بدلاً من العيش في مجتمع مسلم والالتزام بآداب وأحكام الإسلام فقط، فإن لديهم نظرة مستقبلية للدين ويسعون جاهدين لخلق المعايير اللازمة لنمو وسمو جميع البشر وتحقيق سعادتهم وفقًا لمعايير الدولة الكريمة. ترتبط أهمية وفارق المجتمع الإسلامي عن المجتمع المكون من المسلمين، بمقدار فهمنا ومعرفتنا بأنفسنا وديننا ومكانة الإنسان الحقيقية وجهودنا لتمهيد الطريق لتحقيق هذه المكانة الحقيقية.
ولكن ما هو دور معرفة النفس في هذه الحالة؟ أو بعبارة أخرى، ما هو دور معرفة أنفسنا أو عدم معرفتها في بناء هذا المجتمع الإسلامي؟
يتعلق تقيّمنا بنوع أمانينا، وأحزاننا، وآمالنا، وشكوانا، وكل ذلك يتعلق بقدر معرفتنا لأنفسنا وكيفية هندسة محبوباتنا. نتقيّم بقدر الاهتمام الذي نعطيه لكل من الأمور الحيوانية، أو العقلية، أو الإنسانية، وعلى هذا الأساس نشكل خياراتنا، وعلاقاتنا، وسلوكنا، أو حتى ترتيباتنا الفكرية. الحقيقة أنّ قيمتنا هي تابعة لقلوبنا والسعة التي نوجهها فيها للأمور المختلفة. بحسب هذا التقيّم نشعر بالمسؤولية نحو الحياة والسعادة الدنيوية والأخروية لنا وللآخرين.
يختلف الأمر اختلافًا كبيرًا بين أن نعتبر أنفسنا كائنات مادية محدودة ونعرّف حياتنا في هذه الأيام المحدودة فقط، وبين أن نرى أنفسنا ككائنات أبدية غير محدودة ونعتبر وفاتنا من الدنيا ولادة لحياة واسعة ولكن معقدة وأبدية في الآخرة. بناءً على هذا الاختلاف في نوع تقييم الذات ونوع النظرة إلى العالم، سنختار خيارات وأولويات مختلفة تمامًا، وبالتالي سنخلق حياة ومجتمعًا وحتى عالمًا مختلفًا لأنفسنا وللأشخاص من حولنا. إذا لم ندرك أهمية معرفة النفس، فسنختار قيمة أدنى من قيمة الإنسان لأنفسنا، وسنختار دون قصد عيشًا مثل النباتات والحيوانات. هذا يعني أننا سنصبح في النهاية حيوانات مقدسة تلتزم ظاهريًا بالطقوس الدينية، لكنها لا تدرك قيمة ومكانتها الحقيقية، ولا تبذل أي جهد لتشكيل حكومة إسلامية ومنح البشر الحب والسعادة والسلام، وهي سمات الحياة السعيدة.
النهوض بمعايير المجتمع الإسلامي يتطلب تربية أفراد صالحين، يبلغون في المرحلة الأولى من حياتهم الشخصية مستوى من التوازن والتعادل. ولا يتسنى ذلك إلا بمعرفة النفس، وفهم أهمية معرفة النفس، وهندسة المحبوبات بشكل صحيح. ففي ظل معرفة النفس فقط نستطيع التعود على أسلوب الحياة في الحكومة الإسلامية، ونتعرف على القيم وقواعد الحياة والنمو في ظلّ الدولة الكريمة.
أهمية معرفة النفس في اكتشاف حاجتنا إلى الإمام
من الطبيعي أن بعض أفراد المجتمع، الذين ينظرون إلى الحياة بنظرة مادية بحتة، ويرون غاية أهدافهم في امتلاك منزل فخم وسيارة باهظة الثمن وشهادات علمية عليا وحسابات بنكية ممتلئة، لا يتحملون صعوبات تحقيق مجتمع إسلامي مثالي يضع الله و أهل البيت والجهاد في سبيل الله في مقدمة محبوباته. لذلك، فإنّ بناء مجتمع إسلامي يتطلب أفرادًا لا يكتفون فقط بهندسة محبوباتهم بشكل صحيح، بوضع الله وأهل البيت والجهاد في سبيل الله في مقدمة أولوياتهم، بل يساهمون أيضًا بقدر ما يستطيعون في نشر أهمية معرفة النفس ورفع مستوى الوعي الذاتي لدى من حولهم.
الغاية القصوى من رسالة الأنبياء والمعصومين(عليهم السلام) هي إيصالنا إلى هدف الخلق، وهو التشبه بالله واكتساب أسمائه وصفاته. لكن الوصول إلى هذا التشبه يتطلب بلا شك بيئة مناسبة. ففي الحقيقة، سعادتنا وسلامتنا الأبديتان في الآخرة مرهونتان بسعادتنا وسلامة نفوسنا في هذه الدنيا. لذلك، نحن بحاجة إلى إدارة حياتنا في الدنيا بشكل صحيح. من يشغل نفسه بالقرارات غير المستقبلية، والاختيارات غير المتخصصة، والسلوكيات المُنطلقة من الهوى، لن يشعر أبدًا باحتياج جانبه الإنساني للنمو والتطور. بل سيصبح قلبه مُثقلة بزخارف الدنيا، ولن يشعر بالحاجة إلى وجود معصوم متخصص يرشده وينظم علاقاته وسعادته الدنيوية والأخروية.
نحن رهائن أفعالنا؛ والتي هي ما تُشكل مستقبلنا، لبنة لبنة. فهي تُمهد الطريق لاختياراتنا وقراراتنا المستقبلية، وتُحدد في النهاية سعادتنا أو شقاوتنا الأبدية. وإدارة حياتنا في الدنيا تتدرج في مستويات وأهمها هو حُكم المتخصص المعصوم. بمعنى آخر، نحتاج إلى شخص يكون بمثابة دليلنا الإلهي والمتخصص في هذه المسيرة المليئة بالتحديات، ويُساعدنا على تنمية قدراتنا الإنسانية الكامنة. لكننا لا ندرك هذه الحاجة إلى الإمام إلا عندما نُصبح على دراية بأبعاد وجودنا، ونُدرك مراحل حياتنا، ونفهم الغاية والمكانة الرفيعة التي تمّ تحديدها لنا كبشر.
بالنسبة للإنسان الذي يرى نفسه مجرد مجموعة من اللحم والعظام، وينظر إلى الموت كنهاية لحياته، لا تصبح معرفة النفس ذات أهمية، بل تُصبح فكرة وجود الإمام والدين بلا معنى بل قد تصبح عائقًا. عندما نجهل تعقيدات وجودنا ومراحل حياتنا، لا ندرك أنّ الحياة فنٌّ يتطلب الخبرة، ولا نشعر بالحاجة إلى إمام أو متخصص معصوم ليرشدنا في كيفية العيش بالشكل الصحيح. بينما لا تضمن أيّ تعليمات أو خارطة طريق لنا السعادة والهناء إلا إذا تم تصميمها بوعي كامل بأبعاد وجودنا ومراحل حياتنا الثلاث. بدون معرفة النفس وفهم الذات، نُصبح عاجزين عن تمييز ما هو نافع لنا وما يُبعدنا عن هدف خلقتنا، ونُصبح عاجزين عن تهيئة الأرضية لِمجيء متخصص معصوم يضمن لنا السعادة الدنيوية والأخروية.
الفهم المتفائل والمستقبلي للدين والسعي لاكتساب معرفة النفس هما السبيل الوحيد للمشاركة في المستقبل الحتمي والمبارك والموعود به من الله. الثورة الإسلامية هي آخر تيار حضاري تم تأسيسه من قبل الصالحين من أجل الوصول إلى الحضارة الإلهية الحديثة وإبادة الحضارة القديمة للطغاة والجهلة غير المتخصصين، وقد وفرت المقدمات اللازمة للوصول إلى الدولة الكريمة.
في هذا المقال، ناقشنا أهمية معرفة النفس في بناء المجتمع الإسلامي، واعتبرناها أساسًا لسعادة الدنيا والآخرة. وذكرنا أنّ تحقيق هدف الخلق يتطلب وجود بيئة مناسبة وحاكمية معصوم متخصص. إنّ إدارة حياتنا الدنيوية، التي هي مقدمة لتحقيق السعادة الأبدية، لا يمكن تحقيقها إلا في ظلّ وجود حاكمية إمام معصوم. ولكن دون إدراكنا لأهمية معرفة النفس، فلن ندرك ضرورة وجود الإمام، ولن نسعى جاهدين لتحقيق المجتمع الإسلامي الذي يُعدّ بيئة مناسبة لتحقيق هدف خلقتنا.
