دراسة وجهات نظر بعض المدارس حول الإنسان الكامل وتقديم نموذج حقيقي له
ما هو الكمال النهائي للإنسان؟ من هو الإنسان الكامل؟
على الرغم من تنوع الرؤى والميول بين البشر، إلا أن الجميع يشترك في رغبة واحدة، وهي الوصول إلى الكمال وتحقيق السعادة. لذلك، لا يوجد هناك اختلاف حول اعتبار الكمال هدفاً سامياً، لكن الخلاف الحقيقي يكمن في تحديد مفهوم الكمال الإنساني ومعنى الإنسان الكامل. لقد حاولت جميع المدارس الفكرية الإجابة عن هذا السؤال، إلا أن رؤى كل منها جاءت متباينة.
على سبيل المثال، يعتقد مذهب البوذية أن الحياة مليئة بالمعاناة، وأن الإنسان يصل إلى الكمال عندما يتجاوز مراحل المعاناة. من منظور هذا المذهب، الإنسان الكامل هو من يصل إلى “النيرفانا” بعد اجتياز مراحل الجزاء والعقاب على أعماله في الحياة الدنيا، وذلك عبر تجسدات مختلفة. فإذا نجح الإنسان في تحقيق هذا المقام، يكون قد بلغ الكمال الحقيقي، وإلا، فإن روحه ستستمر في الدوران بين الأجساد المختلفة وتعيش تجارب المعاناة بلا نهاية.
أما نيتشه، الفيلسوف الأكثر تأثيرًا في القرن التاسع عشر والذي أثرت آراؤه بشكل كبير على تعزيز الفكر المادي وظهور مذهب ما بعد الحداثة، فقد أطلق على الإنسان المثالي لقب “الإنسان الأعلى” أو “السوبرمان”. من وجهة نظره، الإنسان الكامل أو الإنسان الأعلى هو من يتحرر من الجهل والخرافات، ويتجاوز القيود الأخلاقية ليصل إلى الحرية الكاملة، فتراه يتمرد على قيم عصره، ويحرر نفسه من القيود الاجتماعية، ويلجأ إلى أي وسيلة لإثبات تفوقه والسيطرة على العالم من حوله. من وجهة نظر نيتشه، لم يعد الله موجوداً، وفي عصر يغيب فيه الله، يصبح الإنسان الأعلى بديلاً له، متحملاً مسؤولية السلطة العليا ومعنى الوجود.
تعتبر المدارس الفكرية العقلانية أن جوهر الإنسان الأساسي هو العقل. الإنسان الكامل من وجهة نظرها هو من وصل إلى الكمال في التفكير والتعقل، وفهم العالم كما هو. وفي المقابل، ترى بعض المدارس الصوفية والعرفانية أن العقل عاجز وغير مؤثر في تحقيق كمال الإنسان ونموه، وترى أن المعرفة الباطنية والسير في طريق القلب هما السبيلان الوحيدان لوصول الإنسان إلى الكمال. بحسب وجهة نظرهم، كلما ابتعد الإنسان عن غير الله وركّز اهتمامه على الله وحده، زاد نجاحه في بلوغ مراتب الكمال.
رغم هذا التنوع الواسع في وجهات النظر، يبرز هنا هذا السؤال: من هو الإنسان الكامل حقًا؟ وهل هو كائن مثالي بعيد المنال كما ذُكر في مذهب نيتشه أو البوذية، أم أن هناك وجود حقيقي وعيني له؟
ما هو مؤكد أن للإنسان حقيقة وجودية واحدة فقط، وبالتالي لا يمكن تصور نقاط كمال متعددة له. تنبع هذه الاختلافات في تعريف الإنسان الكامل من النظرات القاصرة والأحادية الجانب نحو الإنسان. إذا تم التعرف على الإنسان كما هو حقًا، وحُدّد الهدف النهائي لخلقه، لتبيّن الكمال الحقيقي له بكل وضوح.
سنقوم في ما يلي بنقد وتحليل موجز للآراء المذكورة، وصولاً إلى تعريف الإنسان الكامل وتحديد مصداقه بناءً على حقيقة الإنسان الوجودية.
نقد وتحليل الآراء حول الكمال الإنساني
إلى جانب جميع الانتقادات التي يمكن توجيهها لمذهب البوذية والمدارس المشابهة، يمكن اعتبار عدم الإيمان بالعالم الآخر واحدًا من أهم النقائص. فبالرغم من أن هذه المذاهب ترى أن الروح هي الجانب الأساسي في وجود الإنسان، إلا أنها تعتقد أن الروح لا تذهب إلى عالم آخر بعد موت الجسد، بل تبقى في هذا العالم وتواصل حياتها في أجساد أخرى مثل أجساد البشر الآخرين، أو في شكل جنين، أو نبات، أو حيوان.
إن ما يقدمه مذهب البوذية هو في الواقع انتقال من حالة الفعل إلى حالة الإمكان، وهو أمر مستحيل عقلاً. فعندما تتجاوز روح الإنسان مراحل النفس النباتية والحيوانية وتفعّل العديد من قدراتها، لا يمكنها أن تتعلق بجنين لا يزال في طور الإمكان، أو بنبات أو حيوان في مراتب أقل من التكامل. وبالتالي، بالنظر إلى أن هذا المذهب يقدم تعريفًا خاطئًا للإنسان ومراحل حياته، فإن نظريته حول الإنسان الكامل خاطئة من الأساس أيضاً.
إن النظريات المادية، كنظرية نيتشه، تنفي وجود البعد الروحي المتعالي في الإنسان، وبالتالي تقدم تعريفاً أحادي البعد عنه بحيث يرتكز كماله على الجوانب الجسدية فقط. ولكن، الإنسان الكامل الذي تصفه هذه المدارس ليس سوى حيوان متطور، بلغ مستويات عالية من القوة والمتعة والحرية.
أما المدارس الفكرية العقلانية فتعتبر أن شخصية الإنسان تعتمد على عقله. من وجهة نظرهم فإن الإنسان المتكامل هو الذي قد اكتسب حكمة ووصل إلى كمال التفكير. هذا التعريف ناقص وأحادي الجانب أيضاً، لأن عقل الإنسان لا يوصله إلا إلى مرتبة الملائكة، وليس إلى مرتبة الإنسان الحقيقية، بينما المكانة الحقيقية للإنسان ليس أسمى من مرتبة الملائكة.
أما المدارس الصوفية والعرفانية فترى أن جوهر الإنسان يكمن في قلبه، فهي تعتبر أن الإنسان الحقيقي هو من يحب، وليس من يعقل. تطرح هذه المدارس تهذيب النفس والابتعاد عن كل ما هو غير الله كوسيلة لتحقيق الكمال الإنساني. يرى مؤيّدو هذه المدارس أن الإنسان يسعى نحو الكمال المطلق، أي الله، ولا ينبغي له أن يتجه نحو الكمالات المحدودة.ورغم أن هذه الأفكار تحمل قيمة كبيرة، إلا أنها لا تتوافق تماماً مع مفهوم التكامل الإنساني، إذ إن بلوغ الكمال لا يعني التخلي عن العقل أو تجاهل العالم المادي.
ما هي حقيقة الإنسان الكامل؟
ما ذكرناه كان شرحًا موجزًا لبعض الآراء التي قدمتها المدارس الفكرية المختلفة حول الإنسان الكامل والمثالي. وكما لاحظتم فقد قدّمت كل مدرسة تعريفًا للإنسان الكامل بناءً على رؤيتها الخاصة للعالم وحددت نقطة معينة على أنها الكمال الإنساني. السؤال الآن هو: أي نظرية من هذه النظريات هي الصحيحة؟
الحقيقة أن تعريف الإنسان الكامل لا يمكن الوصول إليه بدون فهم دقيق لأبعاد الوجود، و مراحل الحياة، وهدف خلق الإنسان. ولذلك فإن المدارس التي تدرس الإنسان بمعزل عن مبدأ ومقصد حياته، أو تتجاهل البعد الروحي لوجوده، تقع في الخطأ عند تعريف الإنسان الكامل وتحديد مصداقه.
كما يدل اسمه فإن الإنسان الكامل هو من يملك جميع القيم والكمالات الإنسانية بأعلى درجاتها، ولا يوجد في وجوده أي نقص أو عيب. بعبارة أخرى، الإنسان الكامل هو الإنسان المتزين بكل الكمالات. ولكن ما هي هذه الكمالات؟ ومن أين تنشأ؟ للإجابة على هذه الأسئلة، يجب العودة إلى قصة خلق الإنسان وهدف وجوده.
الله خلق الكون بأسره لأجل الإنسان، وخلق الإنسان ليصل إلى مقام الخلافة الإلهية. الخليفة هو الذي ينوب عن شخص آخر ويملك الإذن بالسيادة والحكم نيابة عنه. شرط الخلافة هو التشابه، فلا يمكن لشخص أن يكون خليفة لشخص آخر إلا إذا كان يشبهه في كل الجوانب، وإلا فلن تكتمل خلافته. لذلك، فإن الإنسان لا يستحق لقب “خليفة الله” إلا إذا تشبّه مع الله، الله الذي هو الكمال المطلق من جميع الجوانب، وتصبح جميع أسماء الله وصفاته متجسدة ومتحققة في وجوده.
إن تحقيق أسماء الله في كيان الإنسان هو أمر بالغ الأهمية. فالإنسان، رغم أنه يحمل جميع أسماء الله، إلا أن هذه الأسماء غير مفعّلة وتحتاج إلى تربية لتتحقق، تماما كما أن باقي القدرات والمواهب في مختلف أبعاد الوجود تحتاج إلى تطوير. على سبيل المثال، من لديه موهبة الرسم لا يمكنه أن يحقق هذه الموهبة دون تدريب وتنمية. ينطبق الأمر نفسه على من لديه مواهب في الموسيقى، أو الخط، والرياضة، وغيرها. لتحقيق أي موهبة، يجب على الإنسان مراعاة عوامل متعددة، وأهمها وجود المدرب. المدرب هو شخص يشبه تلميذه في وجود تلك الموهبة، ولكنه سبق وأن حقق تلك الموهبة في ذاته. إذا أراد التلميذ تطوير مواهبه، يجب عليه اتباع المدرب والسير على خطاه.
فيما يتعلق بالجانب الإنساني من وجودنا، وهو الجزء الذي يمكنه أن يصبح خليفة الله، فإن مدربنا أو مربينا هو الإنسان الكامل. الإنسان الكامل هو الشخص الذي تتجسد فيه جميع كمالات وأسماء وصفات الله، مما يجعله مشابهًا لله من ناحية، ولكنه في نفس الوقت يمتلك جسدًا ماديًا مثلنا من ناحية أخرى. لذلك فإن الإنسان الكامل ليس كيانًا خياليًا أو مثاليًا نبحث عنه في أحلامنا. إنه شخص يمتلك مطلق الحرية، أو مطلق العشق، أو مطلق العقل، شخص يمتلك توازنًا تامًا في جميع جوانب وجوده، حيث تنمو جميع الكمالات والقيم الإنسانية إلى أقصى حد دون أن يعوق بعضها نمو الآخر. الإنسان الكامل هو بطل جميع القيم الأخلاقية والإنسانية، ويظهر كل بُعد من أبعاد شخصيته لنا في أكمل وأرقى حالاته الممكنة. لذلك فهو الشخص الوحيد الذي يمكن أن يقودنا اتباعه إلى تحقيق هدف خلقنا.
ولكن، من هو المثال الحقيقي والملموس للإنسان الكامل؟
الأئمة المعصومون: تجسيد حي للإنسان الكامل
لقد خلق الله في بداية الخلق حقيقة لا تختلف عنه في الأسماء والصفات، إلا أن الله هو الخالق وهذه الحقيقة مخلوقة. لقد خلق الله كل عوالم الوجود وجميع الكائنات من هذه الحقيقة الأساسية. هذه الحقيقة التي تُسمى بأسماء متعددة؛ مثل الروح، المثل الأعلى، الحقيقة المحمدية، وغيرها، هي جوهر الإنسان الكامل. إذًا، فقد خلق الله الإنسان الكامل أولاً، ثم خلق باقي العوالم والبشر من نور وجوده. وهذا هو معنى قوله تعالى: “وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي” الذي قاله الله عن خلق الإنسان.
الإنسان الكامل هم المعصومون(عليهم السلام) ومقام الخلافة الإلهية فيهم بالفعل. أي أن جميع أسماء وصفات الله قد تجلت فيهم بأعلى درجات الكمال. يتميز المعصومون بالعصمة، أي أنهم منزهون عن الخطأ والذنوب، ولكن عصمتهم اختيارية وليست جبرية كما هي الحال مع الملائكة. المعصومون قادرون على ارتكاب الذنوب، ولكنهم يبتعدون عن المعاصي باختيارهم الواعي و بإرادتهم الحرة. لو كانت عصمتهم جبرية، لما أمكن أن يكونوا قدوة حقيقية لبقية الناس، لأن الاقتداء بهم سيكون حينها غير ذي جدوى. إن نمط حياتهم، وتعاملاتهم الاجتماعية، وسيرتهم الفردية، وكل أعمالهم وسلوكياتهم تشكل نموذجًا يُحتذى به الآخرين نموذجًا يمكن من خلال اتباعه الوصول إلى مقام الخلافة الإلهية. وإذا كانت هذه العصمة غير اختيارية منذ بداية الخلق، لكان التشكيك في إمكانية الاقتداء بهم محقًا، ولما استطاعوا أن يكونوا المعيار الصحيح لمسيرة الإنسان نحو هدفه من الخلق.
بناءً على ما ذكرناه فإن القضية الأهم في حياة كل إنسان والتي قد تهدد حياته الدنيا وأبديته إذا لم يَعتني بها، هي علاقته بالإمام المعصوم. بدون توضيح هذه العلاقة، لن يفهم الإنسان هدف خلقه، ولن يُحقق أي نمو حقيقي في شخصيته، ولن يتحرك نحو تحقيق غاية وجوده.
قد يصل كل منا إلى مراتب عالية من العلم والمعرفة أو إلى كمالات مادية ونباتية وحيوانية بدون تنظيم علاقتنا بالإنسان الكامل، ولكننا لن نصل أبدًا إلى الكمال الإنساني. قد نصبح أطباء أو مهندسين متميزين؛ قد نصبح تجارًا، فنانين، أو صناعيين ناجحين؛ لكننا لن نصبح بشرًا صالحين، لأن السير نحو الكمال الإنساني له معاييره الخاصة.
السير نحو الكمال الإنساني يعني السير نحو اللانهاية، يعني التشبه بالله من خلال اكتساب أسمائه وصفاته. لا يمكن لأي شيء محدود أن يقودنا إلى كمالات غير محدودة. فلا علم، ولا عالم، ولا أي أستاذ يمكن أن يساعدنا في تحقيق الصفات الإلهية. الشخص الوحيد الذي يمكن أن يقودنا إلى هذا الهدف هو من كان تجليًا كاملًا لأسماء الله وأكمل مظهر لله، وهو ولي الله والإنسان الكامل.