ما هي حادثة غدير خم وما هي الأحداث التي جرت فيها؟
غدير خم هو موضع بين مكة والمدينة، شهد حدثًا عظيمًا في تاريخ الإسلام، وهو واقعةُ غدير خمّ، إذ أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في العام الأخير من عمره الشريف أعلن الحجّ، فلبّى نداءه معظم المسلمين، ورافقوه في رحلة الحجّ. وفي ختام هذه الرحلة المباركة، والتي عُرِفتْ باسم “حجة الوداع”، وأثناء العودة من مكة في 18 ذي الحجة سنة 10 هجرية، أمر(صلى الله عليه وآله وسلم) جميع المسلمين بالتجمع بالقرب من غدير خم ليلتقي بهم.
ألقى النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خم خطبة كاملة ومُحكمة، عيّن فيها الإمام عليًّا(ع) وصيًا وخليفة من بعده. وأعلن صراحة أنّ طريق نجاة الإنسان يكمن في محبة عليٍّ(ع) وولايته الحقيقية، وجعل طاعته الصادقة هي الشرط الوحید لحسن العاقبة والفلاح في الدار الأخرى. ومن أهمّ نقاط هذه الخطبة الشريفة أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بيّن سلسلة ولاية أهل البيت(ع)، ووصف كل واحدٍ منهم بأنه أفضل مُربٍّ وهادٍ في عصره.
بعد إلقاء الخطبة، أقبل الناس مسرورين نحو الامام علي(عليه السلام) وترددت أصوات التهاني والتبريكات في المنطقة لتهنئة ذلك المنصب. ولكن لم يمض وقتٌ طويل حتى تُوفّي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وفُرِغَتْ العهودُ، وكأنّ غدير خمّ، وتقديم الخليفة، وتأكيد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمره بالبيعة لأمير المؤمنين(ع)، وعهود الناس له، لم تحدث أبدًا. اجتمع عدد من المسلمين في السقيفة، واختاروا خليفةً للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنفسهم.
الموضوع الأساسيّ هنا هو أنّ الله تعالى قد حدّد واجب أمّته في كل عصرٍ من خلال نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في واقعة غدير خمّ. كما شرح(صلى الله عليه وآله وسلم) دور الغدير في مختلف الأزمنة البشرية وربط سره في سعادة الإنسان.
نظرة عامة على حادثة غدير خم
للبحث التاريخيّ في واقعة غدير خم، ينبغي أن نستعرض الأحداث التي سبقتها. لم يسافر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكة إلا ثلاث مرات فقط بعد هجرته إلى المدينة. كانت المرة الأولى بعد صلح الحديبية لأداء العمرة، والمرة الثانية لفتح مكة، والمرة الثالثة والأخيرة في السنة العاشرة للهجرة لأداء “حجة الوداع”، حيث أعلن(صلى الله عليه وآله وسلم) رسمياً عن الحج[1]، لكي يشارك أكبر عدد ممكن من الناس في هذه الفريضة. بعد هذا الإعلان العام، توافدت قبائل المهاجرون والأنصار إلى الحج من مكة والمدينة وأهل اليمن و مناطق أخرى. كان للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هدفان رئيسيان من هذه الرحلة: الأول هو تعليم أحكام الحج، والثاني هو تحديد ما يتوجب على الناس في فترة ما بعد رحيله، بالإضافة إلى شرح مسألة الخلافة و الولاية.
ورد في وثائق حادثة غدير خم أن بلال الحبشي بعد انتهاء مراسم الحج، أعلن للناس بأمر من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسرعوا جميعاً، ما عدا المرضى، للوصول إلى غدير خمّ بين مكة والمدينة، على بعد ثلاثة أميال من الجحفة. تحرك أكثر من مائة وعشرين ألف شخص مع النبي(ص)، وتجمع حوالي اثني عشر ألفاً من اليمن في هذا المكان. وعندما وصلوا إلى الغدير، قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن اجتمع الناس جميعا: «يا أيها الناس! أنا رسول الله، فأجيبوا داعي الله.» وأمر(صلى الله عليه وآله وسلم) المنادي أن يعلن: توقفوا جميعاً، ليعد من تقدم، وليسرع باللحاق من تخلّف. مع انتشار هذا الخبر توقف القوم وعاد المتقدمون، و بما أن الحر كان شديداً أمر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مقداد وسلمان وعمار بتجهيز مكان مناسب للبرنامج الذي سيستمر ثلاثة أيام. بعد إقامة صلاة العصر، صعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على المنبر وأمر الإمام علي(عليه السلام) بالصعود أيضاً، ووقف على مستوى أدنى منه على يمينه[2]. ثم ألقى خطبة هامة جداً لها محتوى مصيري.
محتوى خطبة الغدير
عند دراسة حادثة غدير خم ومحتوى خطبة الغدير نرى أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد حمد الله والاعتراف بوحدانيته أعلن أنه مكلف بتبليغ وحي الله للناس ويخاف من عذاب الله؛ لأن الله أوحى إليه: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ».[3] كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد طلب من الله إعفاءه من هذا الأمر خوفًا من فتنة المنافقين، ولكن جبريل(عليه السلام) هبط عدة مرات وأتم الحجة على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بإبلاغه آية التبليغ.
أعلن النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ هذه هي ستكون آخر مرة يلتقي فيها مع أمّته هكذا، وأن إمامة ورعاية أمته هي في عهدة علي(عليه السلام) وأولاده(عليهم السلام) إلى يوم القيامة.
تحدث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرًا عن مراتب علم وفضائل علي(عليه السلام) ودعاه أمير المؤمنين، وبيّن أن إنكار علي(عليه السلام) ذنبًا لا يُغفر، حيث يُعتبر ذلك من البشائر المهمة في الغدير. تحدث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بصراحة ووضوح عن خلافة علي (عليه السلام) و تنصيبه أميرا للمؤمنين، و دعا لأصحابه ولعن أعدائه. إن حادثة غدير خم هي دليل على حقانية أهل البيت(عليهم السلام)، رسم فيها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مكانة الإمامة وبيّن أهميتها. كما ذكر(صلى الله عليه وآله وسلم) حوالي مئتي منقبة وفضيلة لعلي(عليه السلام) وحذر الناس من نار الحسد تجاهه في هذا الأمر.
ورد في تاريخ حادثة غدير خم أيضا أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أكّد على تبليغ هذه الرسالة للناس حيث شدّد على ضرورة إبلاغ الحاضرين للغائبين. واعتبر أن فهم محتوى رسالة الغدير وإيصالها إلى الآخرين من أعلى درجات المعروف. وقد تم تدوين نص خطبة غدير بدقة في العديد من الكتب الإسلامية، بما في ذلك “الاحتجاج” و”اليقين” و”روضة الواعظين” و”نزهة الكرام” و”العدد القوية” و”الصراط المستقيم” و”الإقبال” و”التحصين” و”الغدير” و”نهج الإيمان”، مما يضمن بقاءها ونقلها عبر الأجيال.
تقديم المهدي الموعود(عج) في خطبة الغدير
تم التركيز كثيراً في حادثة الغدير خم ونص الخطبة، على الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف)؛ إذ أن النبي(ص) حرص في عدة مواضع من الخطبة على تقديمه(عج) بشكل كامل. في الجزء الأول من الخطبة، تحدث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) صراحةً عن استمرار نوره في أمير المؤمنين(عليه السلام) والأئمة من نسله إلى الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ثم اعتبره المنتقم من جميع الظالمين، سواء ظلموا الله تعالى أو المستضعفين من عباده بما فيهم الأئمة(عليهم السلام).
في الجزء الثاني من الخطبة، تحدث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل مستقل عن الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف) مبيّنًا خصائصه ومنزلته. وتُعدّ هذه الخطبة حجة قطعية من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في إثبات وجود الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف).
النقطة المثيرة في خطبة الغدير هي أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد استخدم لفظ “ألا” ثماني عشرة مرة في هذا الجزء، مستخدمًا كل وسيلة لجذب انتباه الناس ودفعهم إلى التمعّن في كلامه. في هذه الخطبة، اعتبر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن طليعة ولاية الأمر هي في يد الإمام علي (عليه السلام) وختامها عند الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
في الجزء الثالث من خطبة الغدير والذي طلب فيه الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) البيعة من الناس، أشار مرة أخرى إلى خاتمية الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف) وإمامته. أما نقطة الذروة في الخطبة فهي تتجلّى في وصف النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لمستقبل العالم كلوحة فنية دقيقة ومدهشة، حيث تحدث في الجزء الثامن من الخطبة، بشكل خاص عن حكومة الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف) و علمه و ولايته و عصمته. لقد ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) حوالي 25 مرة في خطبة الغدير.
عندما أكمل الله في هذه الواقعة دين الإسلام وأوضح مهمة هداية ورعاية جميع الأمم، أنزل آية الإكمال.[4] يختلف رأي الشيعة والسنة في تفسير آية “إكمال الدين“ يعتقد أهل السنة أن إكمال الدين يتعلق باكتمال الأحكام الشرعية[5]. بينما يعتقد الشيعة أن المسألة تتعلق بولاية أمير المؤمنين وأهل البيت(عليهم السلام)، لأنه تم التحدث عن يأس الكافرين من الإسلام، فالآية تتحدّث عن يأس الكافرين من الإسلام، ولا ييأس الكفّار يأسًا كاملًا إلّا عندما يكون المسلمون تحت تربية وهداية قائد وزعيمٍ ومرشدٍ رفيع الشأن وحكيم، يكون خليفة النبيّ(ص) ومن جنسه ويتولى رعاية وإرشاد وتدبير أمور الأمة ليديم الدين بأفضل شكل.
يتفق المسلمون على أن آية الإكمال نزلت في حجة الوداع، ولكنّهم يختلفون في تحديد الوقت المحدّد لنزولها. فمعظم علماء الشيعة يعتقدون أنّ هذه الآية قد نزلتْ في يوم غدير خمٍّ أو بعده بقليلٍ[6]. بينما يعتقد علماء السنة أن الآية نزلت في يوم عرفة[7]. ويرى السيّد العامليّ أنّ آية الإكمال قد نزلت مرّتين: مرّةً في يوم عرفة، حيث أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعلنها آنذاك لأسباب معينة؛ ثمّ نزلتْ مرّةً أخرى في يوم غدير خمّ بعد نزول آية التّبليغ والتأكد من عدم وجود أيّ خطر.
H2 وقائع ما بعد خطبة الغدير
بعد إعلان خلافة وولاية أمير المؤمنين(عليه السلام)، صرّح النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن حقيقة باطن القرآن وتفسيره تُوَضّح فقط من قبل الشخص الذي سيرفع يده. ثم رفع يد أمير المؤمنين (عليه السلام) عالياً حتى رأى الناس بياض إبطيهما. عندها قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عبارته المشهورة: “مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ [8]». ثم قال: ألا و إني بايعت الله، وعليّ قد بايعني، وأنا أخذكم بالبيعة له عن الله عز و جل.
- البيعة العامة:
نظراً لكثرة الحاضرين في واقعة غدير خمّ واحتمال تهرّب البعض من البيعة الفرديّة، واجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صعوبة في أخذ البيعة من كلّ شخص على حدة، لذا فإنه(ص) قال في نهاية خطبته: “معاشر الناس، إنكم أكثر من أن تصافقوني بكف واحد، وقد أمرني الله أن آخذ من ألسنتكم الإقرار بما عقّدتُ لعلي أمير المؤمنين، ولمن جاء بعده من الأئمة مني و منه، على ما أعلمتكم أن ذريتي من صلبه. فقولوا بأجمعكم: إنا سامعون مطيعون راضون منقادون لما بلغت عن ربنا وربك في أمر إمامنا علي أمير المؤمنين ومن وُلد من صلبه من الأئمة. نبايعك على ذلك بقلوبنا وأنفسنا وألسنتنا وأيدينا[9]. على ذلك نحيي وعليه نموت وعليه نُبعث.” و ذكر في التاريخ أن الجميع كانوا ملزمين للقيام بهذه البيعة بأي طريقة ممكنة[10].
والمثير للاهتمام هو أن الزمن الوحيد في التاريخ الذي طلب فيه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من الناس أن يهنئوه فيه، هو عند واقعة غدير خم. حيث قال: “يا قوم هنئوني هنئوني إن الله تعالى خصني بالنبوة و خص أهل بيتي بالإمامة”[11]. وههنا قال أبوبكر وعمر بلسان الاعتراض على النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): هذا من الله أو من رسوله؟! فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): نعم حقّاً من الله ومن رسوله. وهذا الاعتراض يدل على نفاقهم حيث كان أوّل مَن سارع إلى البيعة بأمير المؤمنين(عليه السلام) هم أولئك الّذين نَكَثُوا عهدهم أسرع ما يكون، وهُم مَن وقع عليهم أَكبر الأذى من الإمام(عليه السلام). ومن بين هؤلاء، كان أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير. و قد جاء في تاريخ واقعة غدير خم، أن عمر قال أثناء البيعة لعلي(عليه السلام): “بخٍ بخٍ لك يا أبا الحسن، فقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة”.
- بيعة الرجال:
بعد انتهاء الخطبة، أقبل الناس بالصلوات والتهاني نحو رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام)، وسبق بعضهم الآخرين في البيعة له. أمر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بنصب خيمة لإقامة مراسم البيعة بين الناس، وبعد ذلك جاء الناس مجموعات إلى خيمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبايعوه، ثم ذهبوا إلى خيمة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبايعوه أيضاً.
- بيعة النساء:
أمر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بإحضار إناء كبير فيه ماء، وأن يضرب عليه بستار بحيث إن النساء كنّ يضعن أيديهن في الإناء خلف الستار، وأمير المؤمنين(عليه السلام) يضع يده في الإناء من الجانب الآخر، وبهذه الصورة تمت بيعة النساء. استمرت مراسم البيعة لمدة ثلاثة أيام، وترنّم شعراء مثل حسان بن ثابت بأشعارهم النابضة بالحماس في هذه المناسبة. ثم وضعوا عماماتهم التي تعرف باسم “سحاب” كتاج شرف على رأس أمير المؤمنين(عليه السلام)[12].
لماذا واقعة غدير خم هي إكمال الدين؟
إن الأرض لن تخلو أبدًا من حجة الله، وإذا خلت لحظة من حجة الله، لساخت بأهلها. لقد وضع الله نبيًا لهداية وإرشاد البشر في كل عصر من العصور، وحتى في الفترات التي لم يكن فيها نبي، كان هناك أولياء الله مثل عبد المطلب مسؤولين عن تنوير طريق البشر.
أُرسل النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) كخاتم الأنبياء، وجاء ليكمل دين الإسلام برسالته من جانب الله كدين كامل ويعرفه كالدين الخاتم لجميع الأديان. ولكن ماذا عن مصير الناس بعد النبي الخاتم؟ كيف يمكن لهم أن يظلوا مؤمنين بهذا الدين بدون حجة ونبي من الله؟ وكيف لهم أن يتعاملوا مع الشكوك والأسئلة التي قد تراودهم؟
بُعث النبي(صلى الله عليه وسلم) ليبلغ آخر الأديان وأتمها، ولكن كيف يتسنّى له أن يُغطّي جميع تفاصيله خلال عمره المحدود في هذا العالم؟ كيف يمكن لعمر وجسد واحد أن يوفر حاجة الناس إلى هادٍ في الأزمنة المستقبلية؟
على الرغم من أن جوهر الدين قد تم تبيينه في القرآن الكريم، إلا أنه بحاجة إلى قرون من التحليل والتفسير لفهم أسراره وكشف حقائقه. فكما أنّ القرآن الكريم له سبعون بطنًا، كذلك فهم هذا الدين العظيم يحتاج إلى قرون من الدراسة والتدريس والتأمل. ولم يكن أحدٌ قادرًا على القيام بهذه المهمّة العظيمة سوى إنسانٍ كاملٍ ومعصومٍ، من نسل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي كان يحيط بجوهر هذا الدين وفهمه على أكمل وجه، بما في ذلك الحقائق الدينية ومعرفة النفس وعلم الإنسان وفلسفة الوجود ومعرفة الله تعالى.
مع هذه المعلومات، قد نفهم سبب شعور رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بسعادة غامرة في واقعة غدير خم إلى هذا الحد عندما خاطبه الله قائلا: “اليوم أكملت لكم دينكم”، لأنه إذا لم يُعرّف وليّاً معتمداً وموثوقاً لتربية البشر من بعده قبل أن يرحل عن الدنيا، لذهب تعب 124 ألف نبي وجميع أولياء الله هباءً. لذا فقد اختار الله أمير المؤمنين(عليه السلام) وصياً وخليفةً مستحقًا ومناسبًا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليتولى مسؤولية هداية وتربية البشر ليصلوا إلى منزلة خليفة الله على الأرض. وبما أن حياة الإمام علي(عليه السلام) كانت محدودة أيضاً، وكان لا بد من أن يستمر مسار الهداية لفترة ما بعد حياته، فإن واقعة الغدير قد تكررت في حياة كل من الأئمة الاثني عشر المعصومين(عليهم السلام)، فكان كلّ إمام معصوم في عصره صورةً طبق الأصل من الإمام علي(عليه السلام)، و الأشخاص المخلصين الذين بقوا على نهجهم مع الإمام، هم أولئك الذين عاهدوا عليّ زمانهم فأصبحوا من المرفوعي الرأس في عصرهم.
مصير عهود واقعة الغدير
يُمثّل كلّ من واقعة غدير خم وسقيفة بني ساعدة، حادثةً مفصليةً في تاريخ الإسلام، حيث شكّلتا المنبع لكثيرٍ من الخير والشرّ على حدٍّ سواء. وبالمناسبة فإن كلتا الواقعتين مرتبطتان بمسألة خلافة وقيادة أمة الإسلام بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). لقد قدّم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خم خليفته بصراحة ووضوح بلا أي شكوك أو إلتباس، وأعلن عن شدة عواقب عدم الانقياد لأمير المؤمنين علي(عليه السلام)، وكان حريصاً على أخذ البيعة من أصحابه. ولكن، ومع انتشار خبر وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبينما خيّم الحزن على المدينةَ، وكان أهلُ بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يُجهّزون جثمانه الطاهر، اجتمعت مجموعةٌ من الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وهو مكانٌ لتجمّع زعماء المدينة ودون أيّ اعتبارٍ لواقعة غدير خم، قرّروا تعيين سعد بن عبادة خليفةً للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) متجاهلين العهود التي أدّوها في غدير خم. وصل خبر هذا الاجتماع إلى بعض المهاجرين، مثل عمر وأبي بكر، فحضروا إلى سقيفة بني ساعدة. أمّا أمير المؤمنين(عليه السلام) وعمّه العباس بن عبدالمطلب، فقد وصلهما الخبر أيضاً، لكنّهما واصلا مراسم غسل النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وتكفينه. زاد عدد أفراد السقيفة وزاد عدد الراغبين فيها. حاول الأنصار ممّن شاركوا في التهنئة بيوم غدير خم، اختيار الخليفة من بينهم، وحاول المهاجرون أيضًا أن يحضوا بذلك أيضاً بأي وسيلة [13].
في النهاية، تمّ اختيار أبي بكر خليفةً للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل المهاجرين. وقد تمّت هذه البيعة بحضور عددٍ قليلٍ من كبار صحابة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). بعد إعلان هذا الخبر، اعترض عدد من الصحابة المقربين مثل الإمام علي (عليه السلام)، وعباس، وحوالي اثني عشر شخصًا آخر على هذه البيعة. أما الصحابة المخلصون مثل سلمان، وأبوذر، ومقداد، وابن أبي كعب، وزبير، وعبد الله بن عباس، وبعض الآخرين لم يشاركوا في البيعة العامة، ولكنهم أجبروا على المشاركة فيها لاحقا.
بعد يوم من البيعة في السقيفة، قرر الصحابة جلب المسلمين إلى مسجد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتحويل البيعة الخاصة في مجلس السقيفة إلى بيعة عامة. وكان اسم الإمام عليّ(عليه السلام) على رأس قائمة مَن يجب أن يبايعوا؛ لأنّ واقعة غدير خمٍّ كانت سند حقّانيّته وخلفته الشرعيةَ. رفض الإمام عليّ(عليه السلام) البيعة، مُؤكّدا على حقّه المُنكَر في الخلافة، ثم ثارت إلى جانبه السيدة فاطمة(سلام الله عليها)، ابنة رسول الإسلام وزوجة الإمام علي(عليه السلام) مدافعة عن حقّه الشرعيّ، ولكن الظالمين لم يكفوا عن مضايقتها ومارسوا عليها أشد أنواع الظلم والقهر حتى أُعدت الأسباب لاغتيالها، ثم أجبرو الإمام علي(ع) البيعة بأكثر الأساليب الفاضحة.
ذهب الإمام علي(عليه السلام) والسيدة فاطمة (سلام الله عليها) مرارًا وتكرارًا لدعوة الأصحاب، ولكن لم يقبل غير 44 شخصًا فقط، وفي النهاية، بقي 4 فقط من بينهم الذين ثبتوا على بيعة الإمام علي (عليه السلام) وهم سلمان، وأبوذر، ومقداد، والزبیر[14].
رغم أننا نقرأ باستمرار تاريخ واقعة غدير خم، إلا أن الغدير ليست حادثة محصورة في السنة العاشرة الهجرية فقط، بل هي نهجٌ رسّمه الإمام عليّ(عليه السلام) واستمرّ إلى أنْ يَسْلَمَه إلى المهديّ المنتظر(عجل الله تعالى فرجه الشريف). وخلال هذه الفترة فقد تكررت أحداث شبيهة بغدير في عهد كلٍّ من الأئمة المعصومين الاثني عشر(عليهم السلام) على مدار 250 عامًا من إمامتهم.
إن الغدير هو أهم عيد في تاريخ الإنسانية، لأنه في ذلك اليوم أعلن الله عن طريق مَلَك الوحي لرسوله الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم) أن الإنسان بدون مربٍ متخصص ومعصوم، في كل عصر وزمان هو موجود ناقص وغير مكتمل، والشرط الوحيد لتطوير وجوده هو التربية والرعاية تحت إشراف إنسان هادٍ وخبير. كما أن كل إنسان على مر التاريخ لا بد و أنه سيقع على عاتقه بيعةٌ مع إمام عصره، إن مفتاح حل مشاكل العالم جميعًا هو البيعة الحقيقية مع صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف) في قلوبنا.
[1] . الطبرسی، احمدبن علي، الاحتجاج علی اهل اللجاج ، مشهد: نشر المرتضی، 1403 ق، ج1، ص 56
[2] . المجلسي، محمدباقر، بحارالأنوار لدرر الأخبار الأئمه الأطهار، بیروت: دار احیاء التراث العربي، ج 21، ص 387 و چ 23، ص 203/ الامیني، عبدالحسین، الغدیر، طهران، دارالکتب الاسلامیة، 1383، ج 1، ص 10 و 24
[3] . المائدة، 67
[4]. المائدة،3: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا
[5] . الآلوسي، محمود بن عبدالله، روح المعانی، بیروت: دارالکتب العلمیة، 1415، ج3، ص 333 و 334
[6]. الامیني، عبدالحسین، الغدیر، طهران، دارالکتب الاسلامیة، 1368ش، ج 2، ص 115
[7] . ابن کثیر، اسماعیل بن عمر، تفسیر القرآن العظیم، بیروت: دارالکتب العلمیة، 1420، ج3، ص 26
[8] . الطباطبایی، المیزان في تفسير القرآن، ج 5، ص 196/ السهمودي، نورالدین، جواهر العقدین فی فضل الشرفین، ج۲، ص۹۸
[9] . المجلسي، بحارالأنوار لدرر الأخبار الأئمه الأطهار، ج37، ص 217/ الامیني، الغدیر،ج1، ص271
[10] . المجلسي، بحارالأنوار لدرر الأخبار الأئمه الأطهار، ، ج37، ص 217/ الامیني، الغدیر، طهران، ج1، ص 399 و 400
[11] . المجلسي، بحارالأنوار لدرر الأخبار الأئمه الأطهار، ج37، ص 159/ الامیني، الغدیر، طهران،، ج1، ص 274
[12] الامیني، عبدالحسین، الغدیر، طهران، دارالکتب الاسلامیة، 1368ش، ج1، ص 291
[13] ابن قتیبه، عبدالله بن مسلم، الإمامة و السیاسیة، قم، المکتبة الحیدریة، 1386، ج1، ص 21 تا 23
.[14] الهلالي، سلیم بن قیس، اسرار آل محمد، اسماعیل الزنجاني، قم: الهادي، 1377