مهمة الأنبياء ظاهرة خارجة عن الحدود الجغرافية والتاريخية
ما هي أهم مهمة للأنبياء والرسل الإلهيين؟ لماذا أرسل الله الأنبياء والمرشدين إلى جميع الأمم في كل العصور؟ هل كانت مهمة النبي فقط تعليم الناس ضمن الحدود الجغرافية والتاريخية لعصرهم؟ هل يمكن اعتبار رسالة الأنبياء جزءًا من مجرى التاريخ المستقبلي؟ رغم مرور القرون والفارق الزمني الكبير بين أنبياء القبل وأتباعهم حتى اليوم، كيف يشارك هؤلاء في حكومة الصالحين للعالم؟
في هذه المقالة سوف نتطرق إلى مسألة رسالة الأنبياء، وعالمية هذه الرسالة عبر التاريخ، ودورهم وأتباعهم في مستقبل تطور وتأسيس الحضارة الإسلامية الحديثة على مستوى العالم، ولكن وقبل ذلك لا بد من توضيح نقطة ما مما ورد في المقالات السابقة حول ما ذكرناه من بنية الإنسان والهدف من خلقه وحاجته إلى متخصص معصوم.
ذکرنا ان بنية وجودنا كبشر مبنیة علی الجانب الانساني، أي الجزء الرئيسي من وجودنا، والذی لديه إله واحد فقط وهو الله. الغرض من خلقنا هو أن نصبح مشابهين لله و متخلقین بصفات الإله ونصبح خلفاء الله. وبطبيعة الحال، نحن بحاجة إلى مدرب لتحقيق هذا الهدف السامي. هذا المدرب بالإضافة إلى كونه مشابهًا لله تمامًا، لديه كل المعلومات المتخصصة عن بنية وجودنا، والغرض من خلقنا، وعلاقتنا بعالم الطبيعة والمملكة، وباختصار جميع المعلومات السبعة. فئات من المعلومات المتخصصة التي تحدثنا عنها في المقالات السابقة وهذا الشخص ليس سوى متخصص معصوم.
والرجوع إلى المتخصص في جميع المجالات أمر طبيعي وعقلاني، ومن يخالف ذلك فهو جاهل، أما عن الإنسان نفسه، فإن الأمر أهم بكثير؛ ولأننا نحن البشر أكثر المخلوقات تعقيدًا في العالم، جسديًا وروحيًا، ومن أجل تحقيق السعادة والنهاية السعيدة، فإننا بحاجة ماسة إلى التوجيه المتخصص الذي يقدمه الوحي الإلهي والممثلون المعصومون. واجب الدين یمکن ان نقول هي نفسها.
الدين هو مجموعة من التوجيهات المتخصصة التي تقدم بهدف تنظيم علاقاتنا مع الدنيا والآخرة وخلق السعادة الأبدية من الوحي ومن خلال نواب معصومين. یزیدنا الدين بمؤشرات السعادة في كافة الأبعاد الجسدية والنباتية والحيوانية والعقلية وفوق العقلية ويجعلنا ننمو في جميع أبعاد وجودنا بطريقة متوازنة ومتناسبة، ولكن كل هذه النعم لا تحدث إلا بطريقة واحدة وهي خلال سيادة متخصص معصوم في المجتمع.
سيادة المتخصص المعصوم شرط أساسي لتحقيق هدف الخلق
إن حكم المتخصص المعصوم في المجتمع هو الشرط الأساسي والرئيسيّ لِاستقرار أحكام الدين.
فما دامَ المتخصص المعصوم لم يحكمْ المجتمعَ ولم ينفذْ حكمه، فلا ينبغي أن نتوقعَ تطبيق أحكام الدين بالكامل، ولا أن نعتقدَ أنّ البشرَ سيصلون إلى النموّ والتكامل اللذين يستحقّونهما.
إن غياب حاکمیة المعصومین وابتعادهم عن إدارة المجتمعات وقيام حكومات مستكبرة ومستبدة في العالم هو ذلك الحدث المؤسف الذي أصاب البشرية على مر القرون وتسبب في حرمان مليارات البشر من الوصول إلى إمامهم ومعلمهم الحقيقي وحياتهم، منذ ولادتهم وحتى وفاتهم، وتوقف کمالهم عند مستوى الجانب الجمادي، أو النباتي، أو الحيواني، أو العقلي. في حين أن هدف خلق الإنسان ليس الوصول إلى هذه الكمالات. نحن لم نأت إلى هذا العالم لنتزوج، أو نصبح آباء، أو نجمع الثروة، أو نتقدم في تعليمنا، ثم نموت. هذه ليست الكرامة الأساسية للإنسان. بل شأن الإنسان الأساسيّ هو الوصول إلى مقام الخلافة الإلهية وتحوّله إلى تجلٍّ كاملٍ لله على الأرضِ، ولا يتحقّق هذا الهدفُ إلاّ في ظلّ طاعةِ اللهِ ورسلهِ.
النقطة المؤلمة هنا هي أنّنا نحزن كثيرًا على موت الأسماك واحتراق الأشجار وفناء الكائنات الحية في الكوارث الطبيعية، بينما لا نُبالي بغياب المتخصص المعصوم في المجتمع.
فغيابُ الإمامِ عن المجتمع هو بمثابة موت الجزء الإنسانيّ من وجودِنا، وفقدانِ جميعِ المواهبِ التي ولدنا لتطويرها.ولهذا السبب فإن الله بصفته ربنا ومعلمنا الحقيقي يؤكد في كثير من آيات القرآن الكريم على أهمية طاعة الرسل لإحياء البعد الإنساني للوجود، وإيقاظنا من غفلتنا، وتوجيهنا نحو الحياة الطيّبة الإنسانية.
من هذه الآيات، الآية 24 من سورة الأنفال التي تقول ” ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون”، أو في موضع آخر: «وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ»[1] أي لا يوجد هناك شعب إلا ويرسل الله لهم هاديا يرشدهم وينجيهم من الحياة الحيوانية. لذلك، كان جزءًا مهمًا من رسالة النبي هو تعريف الناس بإلههم الحقيقي، أي الله، ولتحقيق هذا الهدف، اعتبروا أنفسهم ملزمين بإقامة حكومة حتى يتمكنوا في ظلها من تحكیم قواعد الإسلام بحرية في المجتمع، ولكن لم یتسن لجمیع الأنبياء ان يشكلوا حكومة. وحتى الذين نجحوا لم يستطيعوا أن ينفذوا وصايا الله في المجتمع كما ينبغي لأن ضغط المستكبرين والطغاة كان موجوداً دائماً، مما سبب خيبة أمل للأقلية الصالحة التي وقفت إلى جانب معتقداتها. لذلك، كان جزءًا مهمًا آخر من مهمة النبي هو إعادة الأمل لأتباعه والوعد بمستقبل يُزال فيه شر المستكبرين عن الناس إلى الأبد وتحل محلهم حكومة عالمية صالحة.
مهمة الأنبياء، ظاهرة عابرة للزمان والمکان
كما ذکرنا فإن جزءًا مهمًا من مهمة الأنبياء، هو تعريف أهل عصرهم بالمستقبل المشرق الذي سيتحقق على يد رجل من ولد خاتم الأنبياء وهو نبي الإسلام. في الواقع، كان على جميع الأنبياء تثقيف أتباعهم ليس فقط للعصر الذي يعيشون فيه، بل أيضًا للمستقبل.
المستقبل الذي سيتولى فيه المتخصص المعصوم السلطة في المجتمع وسيتحقق هذا الحلم الذي طال أمده لکي يوضع الإنسان في مكانته الحقيقية. في هذا السياق، حرص جميع الأنبياء الإلهيين على تعريف أتباعهم برسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره النبي الخاتم، وبابنه المهدي المنتظر باعتباره المخلص الموعود.
إن هذا الجهد لبناء المستقبل وتمرير أفكار الناس وقلوبهم عبر سياج الحدود التاريخية والجغرافية له فائدتان في غاية الأهمية؛ فائدته الأولى هي أنه يبقي الأمل حياً في نفوس الناس على اختلاف أعمارهم، ويجعلهم أكثر إصراراً وتشجيعاً على الطريق الذي سلكوه، لأنهم يرون أنفسهم جزءًا من تيار أكبر بكثير. بهذه الطريقة تتعزز فيهم روح الوحدة والتعاطف مع كل الصالحين في العصور المختلفة. أي أنهم على يقين بأن آثار أعمالهم الصالحة لا تقتصر على وقتهم بل إن هذه الأعمال هي حجر الزاوية في الحضارة الإلهية والإسلامية في مستقبل البشرية. أما الفائدة الثانية، أو بالأحرى الأهم من هذا العمل، فهي أن الأمم بهذه الروح والجهد تساهم في بناء المستقبل، لأن القاعدة العامة هي أن كل إنسان ملزم بنواياه، لأن نوايا قلوبنا ورغباتها هي دلاله التشابه الحقيقي لوجودنا مع الشيء الذي نتمنى أو ننويه في قلوبنا، والتشابه مع أي ظاهرة سيكون مصحوبا وقريبا منها. عندما يتعلق الأمر بأمر مقدس وعظيم، فإن روحه مرتبطة بهذا العمل، ونتيجة لذلك، حتى لو فشل في القيام بذلك، فسيتم تسجيل هذا الإجراء كإجراء إيجابي في ملف أفعاله. إنه نفس الشيء مع النوايا السيئة.
کل من كان في قلبه نية سيئة، أو اكتفى بما يفعله غيره من أفعال غير لائقة، ولو لم يكن له يد في فعلها بنفسه، فإن ذلك الفعل يُسجل في ملف أفعاله. وبالتالي فإن الصالحين وأتباع الأنبياء الإلهيين لا ينتمون إلى عصرهم فقط؛ بل يعتبرون من جنود الله في كل العصور. إنّ الشعور الجميل والبناء بالانتماء إلى جيش الله والمصاحبة مع جميع الصالحين، لَحلاوة وعظمة لا يُضاهيهما أيّ متعةٍ أو فخرٍ.
وبحسب النقاط التي ذکرناها فإن مهمة الأنبياء لم تقتصر على زمانهم ومكانهم؛ بل هم جزء من حركة عالمية ضخمة تشكلت على مر القرون ضد الحكومات المستكبرة، وستؤدي في النهاية إلى ظهور المخلص الموعود وإقامة الحكم الصالح في العالم. ولذلك فإن الاهتمام بمستقبل التاريخ أمر ضروري وواجب جداً على الجميع في كافة العصور. بل يمكن القول بأنه لا وجود لدين حقيقي دون إيمان بمستقبلٍ موعودٍ للعالم، يحكمه متخصص معصوم. فبدون هذا الإيمان، وبلا جهودٍ لتمهيد الأرضية لهذا المستقبل، تتحول رحلتنا الدينية إلى مجرد سلسلة من العبادات الواجبة والمستحبة، دون تحقيقٍ حقيقيٍ للنمو والتطور. ولذا، تُعدّ مسألة الاهتمام بالمستقبل جوهريةً لدرجةٍ يمكننا معها القول: إنّ عابدًا لا يمتلك فهمًا مستقبليًا للدين، لا يفقه الدين حقًا. فالدين هو النظرة الإيجابية للمستقبل، والسعي الحثيث لتحقيقه. ولكن لماذا؟
ذکرنا أن الإسلام له ثلاث خصائص ومعايير رئيسية، وهي الرحمة والسكينة والسرور. الرحمانية تعني الحب والمودة الواسعة تجاه جميع مخلوقات الله. إن التعاطف مع جميع شعوب العالم والرغبة في تحسين الوضع العالمي في ظل معرفة النفس وفهم البعد الإنساني للوجود هي رغبة يجب أن تكون موجودة في قلوب جميع المسلمين. إن العمل والجهد هما من صفات الرغبة والنية الصادقة. ونتيجة لذلك، إذا كان الشخص مؤمناً حقيقياً، فإنه سيحاول الإسراع في تحقيق وظهور المخلص الموعود، وهذا الجهد سيجعل منه مشاركاً في عملية بناء المستقبل من بداية خلق الإنسان إلى الأبد.
لو أن المرء وسّع رؤيته العالمية إلى هذا الحدّ، واعتبر نفسه جزءًا من تيار بناء مستقبل التاريخ، لَأَضْحَتْ كلّ أعماله ذات قيمةٍ لانهائية، وشارك في جميع الأعمال الصالحةِ للماضين والمستقبلين. هذا هو ما سعى إليه الأنبياء وجعلوه من أهمّ أهداف رسالتهم.
[1] سوره الرعد الایه 7