دراسة مسار انتصار الحق على الباطل في مستقبل العالم ودور الناس في هذا المجال

كيف سيكون المشهد النهائي في معركة الحضارات؟ إلى أين سينتهي الصراع الدائم بين جبهتي الحق والباطل في النهاية؟ في ظل هيمنة الظلم والجور التي تخنق أنفاس الناس في العالم، كيف يمكننا أن نأمل في انتصار الحق على الباطل؟

تعاقبت الأمم والشعوب على وجه الأرض منذ ملايين السنين، حاملةً معها حضاراتها وعاداتها وتقاليدها. تنوعت أنماط الحياة بين مختلف الأقوام، وتباينت ثقافاتهم ومعتقداتهم. لكن وسط كل هذه الاختلافات، ثمة عنصرٌ واحدٌ ظلّ ثابتًا لا يتغير وهو الصراعٌ الأبدي بين الخير والشر، والحق والباطل.

لم يخلُ تاريخ البشرية من ظلمٍ وتعدٍّ على حقوق الآخرين. ففي كلّ زمانٍ ومكان، وجدنا من يتجاوز حدوده ويسعى لتحقيق مصالحه على حساب الآخرين، دون مراعاةٍ للقيم والأخلاق. تتعدد أشكال الظلم، من حروبٍ مدمّرةٍ تُزهق الأرواح وتُشرّد الشعوب، إلى غزوٍ واستعمارٍ ينهب ثروات الأمم وينتهك كرامة الإنسان، إلى استبدادٍ وقمعٍ يقيد الحريات ويخنق الأصوات ويقف أمام دعوة الأنبياء إلى التوحيد، ويدعو الناس إلى الشرك والكفر واتباع الشيطان.

في المقابل، لم يخل التاريخ من رجالٍ صالحين آمنوا بالحقّ والعدل، وسعوا لنشره في أرجاء الأرض.

ناضل هؤلاء الرجالُ ضدّ الظلم والطغيان، ودافعوا عن حقوق المظلومين، ورفضوا الخضوع لسلطة الفاسدين والمستبدين. كما ضحّى هؤلاء الرجالُ براحتهم وأموالهم، بل وبأرواحهم في سبيل إعلاء كلمة الحقّ ونشر العدل.

يتساءل كلّ إنسانٍ متفكّرٍ عن مصير هذا الصراع الأبدي بين قوى الحقّ والباطل. كيف ستكون صورة العالم في المستقبل؟ هل سيستمرّ هذا النزاع إلى يوم القيامة ونهاية عمر الأرض؟ هل سينتصر الباطلُ بفضل قوّته وعسفه؟ أم أنّ النصر حليف الحقّ في النهاية، وأنّه سيُشكّل مستقبل التاريخ؟

لا يُمكن للإنسان، بحكم طبيعته المحدودة المُقيدة بقيود الزمان والمكان، أن يمتلك إجاباتٍ قاطعةً لأسئلةٍ تتعلق بالمستقبل. فمعرفة الغيب أمرٌ يختصّ به الله تعالى، خالقُ الكون وعالم أسراره.

لذا، فإنّ البحث عن أخبار المستقبل يتطلب الرجوع إلى مصدر المعرفة الحقيقي وهو الله تعالى. فقد بيّن لنا في كتابه الكريم، أي القرآن المجيد، ملامح المستقبل ومسار التاريخ، مُؤكّدًا على نصر الحقّ على الباطل في نهاية المطاف. تتضمّنُ آياتٌ عديدةٌ في القرآن الكريم بشاراتٍ إلهية بنصر الحقّ. من تلك الآيات: الآية 105 من سورة الأنبياء التي تشير إلى وراثة الصالحين للأرض. الآيات 171 إلى 173 من سورة الصافات، الآية 21 من سورة المجادلة هي من هذا القبيل أيضًا. لذلك فإن انتصار الحق على الباطل هو وعد الله ومن السنن الإلهية التي لا تتغير والتي ستحدث حتمًا.

ولكن السؤال هو كيف وتحت أي ظروف؟ وبمعنى آخر، هل سيحدث انتصار الحق على الباطل بالقوة والإجبار أو بالمعجزة، أم أن إرادة الناس واختيارهم له دور في ذلك؟ في هذه المقالة، سنتناول الإجابة على هذا السؤال.

دور الشعوب في عملية انتصار الحق على الباطل

من عبارات متكررة في أحاديث النبي والأئمة (عليهم السلام) هي عبارة «يَمْلَأُ اللهُ به الأرض قِسْطاً وَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَ جَوْراً» مع اختلاف طفيف في اللفظ. تشير هذه العبارة إلى ظاهرةٍ بارزةٍ في آخر الزمان، وهي انتشار الظلم والجور في الأرض بشكلٍ واسعٍ قبيل ظهور المخلص الموعود، والذي يُعتبر أبرز ميزة للعصر الذي يسبق الظهور. التأمل في معنى هذه العبارة يثير سؤالاً مهماً في الذهن وهو كيف يمكن أن يتحقق انتصار الحق على الباطل في مثل هذه الظروف الصعبة والمظلمة حيث يعم الظلم كل مكان؟ هل يحقق الإمام المهدي(عليه السلام) بصفته المخلص الموعود، هذا الانتصار باللجوء إلى معجزة أو باستخدام القوة والإجبار؟

للإجابة على هذه الأسئلة، من الضروري مراعاة نقطتين:

النقطة الأولى هي أن استخدام القوة المطلقة دون إيجاد استعداد نفسي وقبول شعبي مخالف للسنن الإلهية. فالله تعالى خلق الإنسان مختارًا، ولم يُرد إكراهه على قبول الحقّ بالقوة. لو كان الحقّ يتطلب القوة، لسعى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وسائر المعصومين(عليهم السلام) إلى ذلك. لكنّهم كانوا يحترمون خيار الناس في مجال الحكم والسياسة، حتى لو أدّى ذلك إلى ابتعادهم عن السلطة. إنّ غياب الإمام المهديّ(عجّل الله فرجه الشريف) لألف عامٍ هو شاهد على هذا المبدأ . فقد صبر(عجّل الله فرجه الشريف) طوال هذه الفترة حتى يدرك الناس حاجتهم إلى قيادةٍ إلهيةٍ لإدارة المجتمع، ويُبادرون باختيارهِ بإرادتهم الحرّة. يؤكّد دعاء سلامة الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه الشريف) على هذا المبدأ، عندما نقولُ: “حَتَّى تُسْكِنَهُ أَرْضَکَ طَوْعاً”. فالمقصود أنْ يسلّم الناس الأرض طوعًا إلى الإمام(عجّل الله فرجه الشريف) دون إكراهٍ. إنّ رغبة الناس واختيارهم لحكّامهم أمرٌ بالغ الأهمية. فإذا لم تُبن بنية الحكم على أساس اختيار الأغلبية، حتى لو كان الحكّام أفضل الناس، فلن يحقّقوا أيّ إنجازٍ، وسينهار ذلك البناء عاجلاً أم آجلاً.

النقطة الثانية التي يجب الانتباه إليها هي أنه لا يأتي نصر الحقّ على الباطل دفعةً واحدةً، بل هو مسارٌ تدريجيٌّ يتطلّب جهدًا مستمرًّا وبناءً ثقافيًّا راسخًا. لا يمكن لجبهة الحقّ أن تحقّق النصر دون جهادٍ مثابرٍ وجهدٍ دؤوبٍ من قبل أتباعها. فبناء جبهة الحقّ يتطلّب تكوين جيشٍ قويٍّ متّحدٍ يؤمن بالعدالة والحقّ. لذا فإن تكوين الحكومة تشكّل أرضية لبناء مسألةٍ بالغة الأهمية، ألا وهي مسألةُ ظهور الإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف). فلا بدّ أوّلاً أن يتم تأسيس حكومة صالحة في بقعةٍ من الأرض، ثمّ يتدرّج في توسيع قاعدتها الثقافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، بحيث تصبح جيشاً عرمًا قادرًا على جمع الصالحين من جميع أنحاء المعمورة تحت رايةٍ واحدةٍ، وإعدادهم للعب دورٍ محوريٍّ في حكومة الصالحين العالمية وتمهيد الأرضية لظهور الإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف). فبدون تشكيل حكومةٍ كهذه، يصبح ظهور الإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) أمرًا غير ممكنٍ، وذلك لأنّه – كما ذكرنا – لن يحكم العالم بقوّة السيف والإكراه.

قبل من أن يظهر ثورة الإمام(عليه السلام) في الساحة الخارجية، يجب أن يتشكل أولاً في قلوب الناس. لا يمكن أبدًا خلق إيمان قلبي وعاطفي لقبول الحق في الناس وإبقائهم على أهداف الدين والإمام(عليه السلام) بالقوة والقوة العسكرية. لذلك، فإن ضرورة تشكيل الحكومة الممهدّة للظهور مبدأ حتمي وعقلاني. السؤال الوحيد المتبقي الذي يجب الإجابة عليه هو: ما هي هذه الحكومة؟ وما هي خصائصها؟ وأين على الأرض يتم تشكيلها؟ سنناقش هذا الموضوع في مقالات لاحقة.