لماذا يكون التعاطف والولاء هما الشرطان الوحيدان للظهور ولتشكيل الدولة الكريمة؟

النقطة الأخيرة لمستقبل الأرض والإنسان هي تشكيل الحكومة العالمية والدولة الكريمة للإمام صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف).  إن تشكيل وتأسيس أي جماعة أو مؤسسة أو حكومة يتطلب توفر شروطها، ولتشكيل هذه الحكومة، فإن الخطوة الأولى هي استيفاء شروط الظهور. الإمام صاحب الزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ذكر في رسالة كتبها إلى الشيخ المفيد قبل ألف عام، بأن تعاطف و ولاء الناس لبعضهم البعض هما شرطا الظهور.

إن للتعاطف والوفاء معاني مختلفة، لكن يجب أن نعرف معناهما الخاص كشرطان وحیدان للظهور.  الولاء  هو أن نكون قادرين على التضحية بالجوانب السفلية من كياننا من أجل الجانب الإنساني لدينا، فالمؤمن لابد أن يكون مواليا لإمام زمانه و يفضل الإمام على سائر أمور حیاته.

علی سبیل المثال، من معاني التعاطف كشرط للظهور هو أن يجتمع الشيوخ والأساتذة والنخب ويفكرون ويخططون لحل قضايا الناس الذین هم بلا مأوى والضعفاء من الأطفال وأيتام الإمام صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف). ولكن لماذا من بين كل هذه الصفات المهمة مثل امتلاك القوة العسكرية والثقافية، تم ذكر هاتين الصفتين، التعاطف والولاء، كشرطين وحيدين للظهور؟  ما هي الميزة المهمة والأساسية لهاتين الميزتين؟  كيف يمكننا تشكيل الدولة الكريمة من خلال حقن التعاطف والولاء في تشكيل هذه الدولة؟

نذكر في هذا المقال بعض الأمثلة على التعاطف والولاء كشرطين أساسيين للظهور، ونشير إلى دورهما في إزالة عقبات الظهور.

تشكيل الدولة الكريمة حلم يتجذر في عمق  التاريخ

ذكرنا سابقا أن الهدف الأسمى لجميع الأنبياء هو تشكيل وإنشاء حكومة ومجتمع الإسلامي، وعلى رأس كل هذه الجهود كانت جهود رسول الله(ص) ومن بعده الأئمة الطاهرين.  لقد كان كل همّ أهل البيت (عليهم السلام) هو تشكيل حكومة إسلامية، بحيث أنه ببلوغ هذا الهدف يصبح حكم المعصوم على المجتمع ممكناً، ويزدهر الناس بكل قدراتهم ومواهبهم الإنسانية.

لقد عبر المعصومون (ع) عن هذا الموضوع المهم بطرق ملهمة ومؤثرة، معبّرين عن حبهم العميق وشوقهم الكبير لخدمة الإمام صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف). فقد قالوا: “لَوْ أَدْرَکْتُهُ لَخَدَمْتُهُ أَیامَ حَیاتِی”، فهم يدركون تماماً أن الإمام هو من يُمكّنهم من تحقيق هذا الهدف العظيم.

وكما رأينا في المقالات السابقة، بذل الأئمة جهوداً كبيرة لتحقيق هذا الهدف، حيث استخدموا استراتيجية طويلة المدى في حياتهم. فقد أُرسل أمير المؤمنين علي(ع) إلى اليمن، وتم اختيار الكوفة كمركز للخلافة، وتم تدريب وإرسال الفقهاء والعلماء إلى إيران والحدود الإسلامية الأخرى. كما تم تشكيل شبكة من المحامين، و أصدروا أوامر للناس بالهجرة إلى إيران، وقاموا بتأسيس وتجهيز الحوزة العلمية في مدينة قم، واتخذوا جميع التدابير اللازمة لبناء حضارة إسلامية جديدة خلال فترة الإمامة التي استمرت 250 عامًا حتى وقت غياب الإمام.

ولكن ما هي علاقة هذه الاستراتيجيات السياسية بزيادة التعاطف والولاء؟ وكيف يمكن لهذين العنصرين أن يساهما في تحقيق شروط ظهور الإمام؟

الشرط الأول للظهور؛ الولاء

بعد فترة قصيرة من حكومة أمير المؤمنين، خرجت إدارة المجتمع من أيدي المعصومين (ع)، ولهذا السبب لم تكن هناك فرصة مناسبة للتعليم الديني. نتيجة لذلك، أصبح معظم الناس في العالم يحملون خصائص الأجزاء الحيوانية الأربعة للوجود فقط، ولا يعرّفون أنفسهم كإنسان. أي أنهم يعرّفون أنفسهم بناءً على مقدار الثروة والجنس والمهنة والعلم التي تخصهم. وبهذا التعريف الخاطئ، من الطبيعي أن يكون فهمنا لأنفسنا وللعالم ولله وللهدف من الخلق غير صحيح وغير كامل.

من التعاليم الباطلة الأخرى التي انتشرت بسبب عدم الاستفادة من سلطة الإمام ما يتعلق بأصول الدين وفروعه، والتي في هذا التقسيم غير الصحيح، تم تقديم التولي والتبري كفروع من الدين. في حين أن التولي والتبري هما أصلا الولاية التي تقوم عليها تعاليم معرفة النفس التي هي الدين كله.

الإنسان كائن لا نهائي جاء إلى الأرض ليدرك قوته اللامحدودة، ويحتاج لهذا الغرض إلى اتباع مرشد ومرب كامل ومعصوم. التولي والتبري هما في الواقع ترتيب الصداقات والعداوات بناءً على الرياضيات التي قدمها الإمام المعصوم. لقد أدّى التخلي عن الأئمة عبر التاريخ  إلى استشهادهم وعزلتهم ووحدتهم والجرائم التي ارتكبت بحقهم من قبل المجتمع المسلم، كان سببها جميعا الاستهانة بالتولي والتبري.

أحد أسباب غيبة الإمام صاحب الزمان هي هذه المسألة أيضا. لقد كانت حياة الإمام في خطر، وكان من المحتمل جداً أن المجتمع الذي استشهد فيه ثلاثة عشر معصوما ً قبله، رغم أنه ما زال يدعي الإسلام، لن يتفاعل مع استشهاده. ونتيجة لذلك فقد تم ذكر الولاء كأحد شروط الظهور، وهو أنه يجب على الناس أن يثبتوا قبل ظهور الإمام أن لديهم القدرة على حماية حياته.

الشرط الثاني للظهور؛ التعاطف

لقد جعل الله حرية إرادة الإنسان في القرآن شرفًا له، وهذا يعني أنه لا يمكن إرشاد البشر بالقوة.  من الآيات التي تناولت هذا المعنى يمكن أن نشير إلى الآية 56 من سورة القصص المباركة.. إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت” والآية 22 من سورة الغاشية المباركة«لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ»، والآية 3 من سورة الانسان  المباركة. إِنَّا هَدَينَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا»،  والآية 256 من سورة البقرة المباركة “«لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ» ” والآية 11 من سورة الرعد المباركة.. «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» “. من المنظور الإلهي  ينبغي على كل فرد وجماعة أن يسعى لتحقيق الهداية والسير على طريق النمو الإنساني؛ لأنه إذا سُلب الاختيار من الإنسان، فستصبح إنسانيته فارغة و بلا معنى.  لقد كان جهل الناس وسطوة الطغاة وغيرتهم عاملين حالا دون تشكيل الحكومة الإلهية عبر تاريخ الحياة البشرية على الأرض. هنا يبرز معنى العامل الثاني من شروط الظهور، أي المودة والتعاطف، و هو في الحقيقة بمعنى العمل والرغبة والجهد من القلب والتعاطف الصادق الذي سيؤدي في النهاية إلى تدمير الطغيان وتكوين حضارة الصالحين.

ذكرنا أيضا أن الحضارة الإسلامية الحديثة يجب أن تتشكل بإرادة الشعب، وعلى الشعب أن يختار الإمام بإرادته الحرة. هذا يعني أنه يتوجب علينا أن ندرك ضرورة وجود الإمام في حياتنا قبل كل شيء. عندما نصل إلى مرحلة من الوعي الذاتي التي تمكننا من فهم الغاية من وجودنا وتخطيط حياتنا بشكل يسعى نحو تحقيق تلك الغاية، سنجد أنفسنا نشعر بالتعاطف والولاء تجاهه بالتأكيد.  ومن خلال هذه الرؤية، لن تكون المشاكل الشخصية ذات أهمية بالنسبة لنا، بل سنعمل على تذليل العقبات التي تحول دون تحقيق التكامل الإنساني وسنعمل على تطوير الآخرين.

في حكومة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)  لا يوجد هناك اختلاف بين أحد أو فئات مختلفة، لا يوجد غضب وعناد وسرعة مزاج ومقارنة وتنافس، بل يكون الناس متفانون في خدمة بعضهم البعض وتكون الأجواء مشابهة لما نراه في زيارة الأربعين بين الأفراد المختلفة من مجتمعات مختلفة. عندما يصل الناس جميعا إلى هذه الدرجة من التعالي والصلاح في النفس ولا  يفضلون أنفسهم على أحد، يهيمن الحب الإنساني على القلوب و يحكمها سواء حتى لأولئك الذين يختلفون في الدين أو الطائفة  أو الوطن أو المذهب.

هذه النقطة تعكس مظهرًا من مظاهر التعاطف والولاء بين البشر؛ إذ تشير إلى الوصول إلى مرحلة يدرك فيها الجميع أن غياب الإمام والمتخصص المعصوم هو المشكلة الأساسية التي تواجه البشرية، وأن نمو الإنسان يمكن أن يتحقق فقط تحت إشرافه، وأن الجوانب الأخرى للوجود يمكن تحقيقها من خلاله. إذا تم تحقيق هذا الفهم، سيعمل البشر جميعًا بتعاون متبادل على تذليل عقبات الظهور، وسيكون هذا الجهد الجماعي نموذجًا لتحقيق شروط الظهور بالكامل.

إحدى شروط ظهور الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه الشريف) وتأسيس الدولة الكريمة هي وجود ثقافة عالمية تنشده وتدعو إليه. يعتبر الفقر الثقافي من أسباب غياب الإمام(عجل الله تعالى فرجه) لفترة طويلة، حيث يعني هذا الفقر أن الكثير من الناس في العالم لا يمتلكون فهمًا صحيحًا لذواتهم ومعاني حياتهم.

إذا كنا نرغب في رؤية هذا الحدث العظيم بأعيننا، أو في المساهمة في بناء المستقبل وتشكيل حكومة الصالحين الموعودة، علينا أولاً أن نطور التعاطف والرحمة تجاه الإمام، وبعدها علينا أن نشعر بالمسؤولية تجاه جميع شعوب العالم وجميع الأفراد. فالتعاطف والوفاء هما الشرطان الأساسيان لظهور الإمام(عجل الله تعالى فرجه الشريف). من أجل تحقيق وعد ظهوره، يجب أن يُنشأ هذان الموقفان بين سكان العالم، حيث لن تكون الحياة في دولة الإمام زمان الكريمة ممكنة إلا بالاستعداد لظروفها وبفهم رؤيتها والإلمام برياضياتها.