القرآن واستشراف المستقبل: دراسة في مصير العالم والبشر

القرآن الكريم هو المصدر الوحيد الموثوق لاستشراف المستقبل الموعود للعالم

القرآن الكريم هو المصدر الوحيد الموثوق لاستشراف المستقبل الموعود للعالم

لطالما کان الاهتمام بمعرفة المستقبل والأحداث القادمة موضوعًا جذب انتباه البشر والعلماء على مر العصور التاريخية. فمن طبيعتنا الإنسانية أن نتطلع إلى المستقبل، وأن نسعى لفهم ما تخبئه لنا الأيام القادمة، سواء كانت قريبة أو بعيدة. ولا يقتصر هذا التطلع على مجرد إشباع الفضول، بل هو حاجة ملحة نشعر بها. يعتمد نجاحنا في الحياة بشكل كبير على مدى فهمنا للمستقبل، وإذا لم تستند هذه المعرفة إلى أسس سليمة،  فقد نواجه تحديات كبيرة في حياتنا الحاضرة والمستقبلية.

استشراف المستقبل هو علم نشأ بناءً على تلبية حاجة الإنسان لمعرفة المستقبل. يحتل هذا العلم اليوم مكانة مهمة في العالم، إذ يتغلغل في مختلف مجالات حياة الإنسان بما في ذلك مجالات سياسية، وثقافية، واقتصادية، واجتماعية. من بين مختلف الطرق في مجال استشراف المستقبل، فإن المنهج الأكثر دقة وعمقاً هو المنهج المستمد من القرآن الكريم. يكمن الفرق بين استشراف المستقبل القرآني ومختلف الأساليب الأخرى في اليقين الراسخ الذي يميزه. فعلى عكس المناهج الأخرى التي تطرح احتمالية وقوع الأحداث المستقبلية، فإن الرؤى المستمدة من القرآن الكريم خالية تماماً من مثل هذا الشك، وذلك لأنها مستمد من مصدر الوحي،  وانطلاقاً من ذلك، فإن كل نبوءة يحتويها القرآن الكريم مضمونة التحقق.

وبناءً على مناقشاتنا السابقة حول أهمية التفكير المستقبلي والدور الذي يلعبه كل فرد في صياغة مستقبل العالم، نتناول في هذا المقال مفهوم استشراف المستقبل في القرآن والرؤية التي صوّرها للمستقبل. وسوف نجيب على الأسئلة التالية: ما هو المستقبل الذي وعد به القرآن؟ وما هي البشائر التي وردت عنه؟  وما الأحداث المهمة التي تنبأ القرآن بوقوعها في ذلك المستقبل؟

 

القرآن؛ المصدر الأكثر موثوقية في تقديم صيغ الاستشراف المستقبلي

بما أن الله هو خالق الكون والإنسان، وله علمٌ شامل بكل شيء ماضٍ وحاضر ومستقبل، فإن القرآن الكريم، وهو كلامه، يعدّ المصدر الأكثر موثوقية في الاستشراف المستقبلي. لقد قدّم الله في القرآن قواعد أساسية شاملة في جميع مجالات الحياة، بما في ذلك فن استشراف المستقبل والتأمل فيه.

ومن الأمثلة على ذلك الآيات 105 و 106 من سورة الأنبياء والآية 5 من سورة القصص. وسوف نستعرض في ما يلي هذه الآيات التي تتضمن بشارات وتنبؤات قرآنية حول مستقبل العالم.

الآيتان 105 و 106 من سورة الأنبياء

“وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)”. [1]

كلتا الآيتين تحتوي على جوانب متعددة ومذهلة، سنقوم بمناقشة النقاط الأساسية فيهما من جوانب ثلاث.

  • الجانب الأول: عباد الله الصالحون هم أصحاب الأرض الحقيقيون

يشير الله تعالى في هذه الآيات إلى مسار التاريخ المحدد الذي يسير نحو سيادة الصالحين، وهم الذين تتطابق أفعالهم وأحوالهم تمامًا مع الغاية من الخلق وهي بلوغ مقام الخلافة الإلهية والتقرب من الله تعالى. هؤلاء الصالحون ملتزمون بأوامر الله تعالى محافظون على حدوده، مما يجعلهم أهلًا لتكريم خاص من الله، فخاطبهم تعالى بـ”عبادي” وهي صفة تشير إلى أعلى مراتب الشرف والإكرام التي يمكن أن ينالها الإنسان.

تدلّ هذه الآية إلى أن جميع الصالحين عبر التاريخ، من فجر الخليقة إلى  نهاية الزمان، يشكلون جبهة واحدة متماسكة. فهم يرتبطون ببعضهم البعض بروابط وثيقة عبر العصور والأزمان، وحقيقة وجودهم تسري عبر التاريخ. فجميع الأتقياء والصالحين الذين رحلوا عن دنيانا، وكل من يعيش في الحاضر، وكل من سيولد في المستقبل ويسلك طريق الهداية، هم في جبهة واحدة وأمة واحدة. وانتماء الفرد لهذه الجبهة يتجاوز حدود الزمان، ويتناسب مع سعة نفسه ودوره في بناء المستقبل.

هذه البشارة السارة تحمل لنا خبراً مهماً، وهو أنه إذا تبنى كل واحد منا أسلوب حياة إنسانياً وإلهياً في عصره، وعاش كما يليق بمكانته الإنسانية، فإنه سيكون في الجبهة التي ينتمي إليها جميع الأنبياء من آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، بالإضافة إلى جميع الصالحين والشهداء والصدّيقين، وسيُحشر معهم يوم القيامة. إذا كان أي إنسان على مسار حجة الله في زمنه، ونسّق أسلوب حياته مع إمام زمانه، فإنه يُعد من الصالحين. وفقاً لبشارة القرآن، فإن هذا الشخص لا يحصل على أجر أعماله في الزمن الذي يعيش فيه فحسب، بل يشارك أيضاً في أجر أعمال جميع الصالحين في الماضي والمستقبل. وفي هذا السياق، يتحول هذا الفرد إلى موجود خالد، تبدأ حياته من الماضي وتستمر إلى الأبد، ويصبح غير مقيد بحدود الزمان والمكان.

  • الجانب الثاني: معنى الإرث

يستخدم الله في هذه الآيات مفهوم “الإرث”، ويقول إن عبادي الصالحين سيرثون الأرض. إن استخدام كلمة الإرث يحمل دلالة مهمة؛ إذ إن الإرث لا يحدث إلا بعد وقوع وفاة، حيث تنتقل ممتلكات المتوفى بالكامل إلى الورثة. بناءً على ذلك، فإن مستقبل العالم وفقاً لخطة الله هو مستقبل غير قابل للتغيير، حيث سيتم القضاء بشكل كامل على جبهة الباطل، وتؤول الأرض بكل مواردها وثرواتها إلى المؤمنين الصالحين الساعين إلى الحق.

  • الجانب الثالث: ضمان انتصار الصالحين

لا شك أن السلطة كانت في معظم الفترات التاريخية في أيدي جبهة الباطل، من الطغاة والمتكبرين والمنافقين الذين حكموا الناس. ولكن من جهة أخرى، لا ينبغي لنا أن نغفل عن مسار نمو وقوة جبهة الحق على مر التاريخ. على الرغم من أن الصالحين كانوا دائماً عرضة للظلم وتحت اضطهاد الحكومات الاستكبارية حتى ظهور المنقذ الموعود، إلا أن مسار نموهم لم يتوقف في أي فترة من التاريخ، ولا توجد قوة قادرة على القضاء عليهم أو كبحهم بالكامل. لذا يجب أن نكون حذرين ولا ننخدع بعروض القوة الزائفة للمستكبرين. إن مسار انتصار الصالحين على الأرض هو تيار قوي يتقدم ببطء لكنه سينتصر بالتأكيد. كما أن القواعد الثقافية للصالحين، مثل المساجد و الأضرحة والمعابد والمنظمات والتيارات الثقافية، لن تُدمر أو تُهزم أبداً، وستظل دائماً مركزاً يجذب النفوس الطاهرة والواعية. هذا الثبات متجذر في الإرادة الإلهية، وهي القوة التي لا يمكن لأي قوة أن تعوقها.

الآية 5 من سورة القصص

هناك آية أخرى في القرآن الكريم يشير فيها الله تعالى إلى مستقبل العالم والبشرية، وهي الآية 5 من سورة القصص، حيث يقول:

“وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ”. [2]

في هذه الآية، يؤكد الله بوضوح أنه قد شاءت ارادته أن يجعل المستضعفين في الأرض أئمة وورثة للأرض. وعندما تُذكر إرادة الله، فهذا يعني أن سيادة المستضعفين على الأرض أمر حتمي، وهذا المستقبل غير قابل للتغيير. إن لفظ “المستضعفين” يحمل درجات متعددة ويشمل جميع المحرومين والمظلومين في العالم، بينما تتعلق أعلى مرتبة فيهم بالأئمة المعصومين (عليهم السلام) وسائر القادة الإلهيين؛ إذ أنهم رغم قدرتهم على قيادة الناس إلى السعادة، إلا أنهم لم يتمكنوا في أي فترة من التاريخ من تولي السلطة بالكامل وقيادة المجتمع بسبب وجود الطغاة وقلة الاتباع وعدم تعاون المجتمع.

تشكل البشارة الواردة في هذه الآية الدافع الأساسي لنا لاحتضان المستقبل بالأمل والعزيمة. هذه البشارة كافية لتملأ قلوبنا باليقين، وهو اليقين الذي يجب أن ننقله إلى أبنائنا والأجيال القادمة. تدلّ هذه الآية على أن مسار حياة المستضعفين والصالحين يتجه دائماً نحو القوة والتمكين، وليس نحو الضعف. هذه حقيقة شاهدناها بأعيننا وليس مجرد ادعاء. في القرن الماضي، غالباً ما وُصف الدين باعتباره أفيون الشعوب وسبب ضعفها واستضعافها، ومع ذلك أصبح الدين اليوم مصدر قوة ونشاط للناس. إن الإقبال العالمي المتزايد نحو الدين والتوحيد هو دليل على هذه الحقيقة.

هناك نقطة مهمة أخرى في هذه الآية وهي أن تحقيق هذا الوعد لن ينبع من تدخلات معجزية أو مساعدة إلهية؛ بل إن مشيئة الله هي أن يتحقق هذا الحدث من خلال الجهود الدؤوبة التي يبذلها الصالحون أنفسهم. لابد أن يصل المستضعفون والصالحون إلى قوة شاملة في الجوانب السياسية، والعسكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، والعلمية، والثقافية وغيرها، مما یمکنهم من التغلب على المستكبرين الأقوياء. إن انتصارهم يتوقف على جهدهم المستمر وعزمهم للقضاء على المستكبرين واسترداد الأرض المغتصبة، وبالتالي يصبحون الورثة الحقيقيين للأرض. ولتحقيق هذه الغاية، من الضروري أن ينشئوا أولاً حكومة قوية في منطقة معينة، مما يضع الأساس لتنمية كادر وقوة عسكرية قادرة على تدريب وتمكين الآخرين لهزيمة  الباطل.

في المقالات القادمة، سوف نتعمق في جوهر هذه الحكومة وإقامتها المقصودة.

 

[1]  «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ؛ إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ»

[2]  «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»

المشارکة

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *