ما التغييرات التي ستطرأ على القيم وأسلوب حياة البشر بعد إقامة الدولة الكريمة؟

ما التغييرات التي ستطرأ على القيم وأسلوب حياة البشر بعد الدولة الكريمة؟

الفروق بين عالم ما بعد إقامة الدولة الكريمة والوضعية الحالية المليئة بالأزمات

ما هو سبب التحدث عن عالم سيأتي بعد الدولة الكريمة منذ الآن؟ في عالم نعيش فيه كل يوم وسط أزمات جديدة، لم يعد السؤال عن مستقبل أفضل خيارًا، بل أصبح ضرورة حيوية. قد يبدو هذا السؤال في البداية مجرد فكرة تجريدية أو مثالية، لكن إذا نظرنا بصدق إلى الوضع الحالي وتعمقنا فيه، سنكتشف أن المجتمعات البشرية، بغض النظر عن الحدود والديانات واللغات، تقف على عتبة تحول كبير؛ تحول يستدعي إعادة تعريف الأمل والمعنى والعدالة على مستوى عالمي.

هل يستحق عالمنا الحالي حقاً استمرار هذه الأزمات والضياع؟ نحن نواجه يوميًا أخبارًا عن الفساد المنتشر، انهيار الأسر، الهجرة الجماعية، تضخم التوقعات وفقدان القيم، وكأن المجتمع البشري في صراع دائم للعبور من المأزق الذي لم تنجح الحلول التقليدية في معالجته. ربما يجب علينا أن نسأل أنفسنا مرارًا: هل من الممكن تصور نوع آخر من الحياة؟ هل هناك مستقبل يمكن للبشر فيه أن يجلبوا الأمل، والعدالة، والروحانية من ذكريات الماضي إلى واقع ملموس في العالم؟ هل يمكننا أن نبحث عن هذا المستقبل في إطار “عالم ما بعد دولة الكريمة”؟

لطالما كانت القدرة على تصور عالم أفضل والأمل فيه، محركًا رئيسيًا للحضارات والحركات الكبرى. ولكن في عالم يتلاشى فيه الأمل يومًا بعد يوم وتصبح الأزمات فيه أكثر شيوعًا، كيف يمكن تحويل رؤية مشرقة لعالم ما بعد الدولة الكريمة إلى قضية عامة؟ تكمن أهمية هذا السؤال ليس فقط على المستوى الفلسفي أو المثالي، بل هو أيضًا مطالبة اجتماعية وأخلاقية وعقلية. فإذا كنا لا نعلم بالضبط ما هو العالم المظلم الذي نحتاج للعبور منه وأين سنصل في المستقبل، فكيف يمكننا تعبئة القوة اللازمة للحركة والتغيير والمقاومة ضد السلبية الاجتماعية؟

تُعلمنا التجارب والدروس الدينية والتاريخية أنه لا توجد حضارة عظيمة وُلدت بين عشية وضحاها. المجتمعات التي دخلت عصرًا جديدًا كانت قد رسمت صورة دقيقة لمستقبلها المثالي قبل أي تحول خارجي. لذا فإن الحديث عن عالم ما بعد الدولة الكريمة ليس مجرد تمرين عقلي، بل دعوة لإعادة قراءة الأزمات، تقييم قدرة التغيير الجماعي، وتنمية الإيمان بإمكانية مختلفة. ما الذي يجب أن يتغير في داخلنا لتمكيننا من قبول عالم جديد؟ وما هي مسؤوليتنا في بناء مقدّمات تحقيق هذا الوعد؟

هذه المقالة هي محاولة لتقديم صورة واقعية، نقدية، وموجهة نحو المستقبل، عن العالم الذي يمكن ويجب أن نفكر فيه، ونسأل عنه، ونسعى لتحقيقه. سنتناول في ما يلي الأزمات الحالية، أساسيات التحول، وعلامات عالم ما بعد الدولة الكريمة لنكون أكثر استعدادًا للمشاركة الفاعلة والمؤثرة في بناء هذا المستقبل المشرق.

الأزمات و المآزق التي تعصف بعالم اليوم

يشهد العالم اليوم أزمات اجتماعية، ثقافية، اقتصادية ونفسية تتّخذ ملامح جديدة ومقلقة. انعدام الثقة بالمؤسسات الحاكمة، تفكك الأسرة، عدم الشعور بالأمان، وتزايد موجات الهجرة، ليست سوى نماذج من تبعات وضع مأزوم يدفع الإنسان نحو نوع من التيه الروحي.

يكفي أن نُلقي نظرة على شوارع المدن المزدحمة، أو الأخبار المشحونة بالتوتر، أو القلق الدائم الذي يثقل كاهل الشباب حيال مستقبلهم؛ كل هذه المشاهد تعكس واقعًا يقول إن عالم اليوم عالقٌ في دوّامة من المشكلات غير المحلولة، وإنّ الأمل في التغيير بات أضعف من أي وقت مضى.

من جانب آخر، تعاني المجتمعات من أزمات اقتصادية متفاقمة، كالرّكود، والتضخّم المنفلت، والتفاوت الطبقي العميق، مما أدى إلى تآكل الثقة الاجتماعية. حتى في الدول المتقدمة، يعيش كثير من الناس مشاعر الوحدة، والقلق المزمن، أو فراغ المعنى في حياتهم اليومية.

كما أصبحت أزمات الهوية، تفشّي الاكتئاب، وظهور أنماط جديدة من الإدمان أكثر وضوحًا، حتى باتت تهدد الأساس النفسي والصحي للمجتمعات الإنسانية. وكل هذا يُبرز – أكثر من أي وقت مضى – الحاجة الملحّة لنموذج بديل؛ نموذج لا يقتصر على إصلاحات سطحية ومؤقتة، بل يفتح باباً واسعًا أمام تحقّق عالم ما بعد الدولة الكريمة.

في ظل هذه الظروف، أصبح التحول الجذري مطلبًا عامًا وشاملًا. فالأزمات المزمنة لم تقتصر على تقويض مستوى الرفاه المادي، بل طالت عمق الحياة، معناها، وجودتها. فهل يمكننا أن نأمل بالخروج من هذا الانسداد التاريخي ما لم تتضح لنا معالم واضحة لعالم ما بعد دولة الكريمة؟

الجواب على هذا السؤال يرسم الطريق نحو عبور من الفوضى إلى المستقبل المنشود. فإذا كانت الأزمات قد صارت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، فإنّ الدافع والرؤية نحو الدولة الكريمة هي الشعلة التي تستطيع أن تعيد الأمل إلى القلوب المُنهكة وتُطلق شرارة التغيير من جديد.

الدولة الكريمة: نقطة انطلاق التغيير

لطالما كان تاريخ البشرية ساحةً للصراع بين الطموح والواقع؛ حيث أثبت الإنسان، في وجه التناقضات والأزمات، أن عطشه للتغيير وأمله في التحوّل قادران على تغيير مصير الحضارات. واليوم، وقد علق العالم في قلب الظلمات والمآزق، تتوجه الأنظار من جديد نحو نقطة مضيئة؛ نحو دولةٍ تبشّر بإحياء القيم المنسية، بعودة العدالة، وباستعادة المعنى الحقيقي للحياة.

ما الذي جعل البشر يشعرون بهذه الحاجة العميقة لقيام دولة الكريمة؟ يكفي أن نتأمل في حجم الفشل المتراكم والآلام المتزايدة، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي؛ من المعاناة الاقتصادية، وأزمة الثقة، إلى ضياع الهوية وفقدان المعنى. ستظهر الدولة الكريمة في اللحظة التي تعجز فيها كل القوى عن معالجة هذه الأزمات من جذورها. فالإنسان المعاصر، رغم مظاهر التقدّم، يبحث غالبًا دون وعي، عن مخرجٍ جديد، عن طريقٍ يُمهّد لدخول عالم ما بعد الدولة الكريمة.

الانتظار لقيام الدولة الكريمة ليس مجرّد تمنٍّ ديني أو حلم أسطوري، بل هو ردّ فعل جوهري على عطشٍ إنسانيٍّ شامل للنجاة والرفاه الحقيقي. وقد بات هذا الانتظار عميقًا ومتجذرًا إلى الحد الذي تحوّل فيه إلى نموذجٍ ذهني، وأفقٍ مثاليٍّ تسعى إليه الأجيال. يتساءل الجميع: هل سيكون العالم بعد الدولة الكريمة هو ذلك الأفق المفقود الذي طالما حلمت به الحضارات؟ إن هذا الوعد، وهذا الانتظار، يشكّلان دافعًا لا ينضب للسعي، والتفكير، والتحرك نحو فجرٍ جديدٍ ومشرق.

العالم بعد الدولة الكريمة: واقعٌ يتشكّل وتحوّلٌ تدريجي

الحديث عن العالم بعد قيام الدولة الكريمة لا يزال بالنسبة لكثيرين، أقرب إلى حلمٍ بعيدٍ منه إلى احتمالٍ واقعي. لكن حين نمعن النظر في عمق الأزمات المتجذّرة التي يعانيها العالم، وفي العطش غير المسبوق الذي يشعر به الإنسان المعاصر للخلاص من هذا الانسداد الحضاري، نُدرك أن بزوغ غدٍ جديد ليس مجرّد احتمال، بل ضرورة مصيرية. في هذا النص، نحاول تقديم صورةٍ واضحة، تحليلية وموثّقة لذلك التحوّل الجذري الذي يبدأ مع قيام الدولة الكريمة، ويعيد رسم معالم ذلك المستقبل الإنساني. تُظهر مراجعة الواقع أن جميع أبعاد الحياة الفردية والجماعية، من الفكر والمعرفة، إلى المجتمع والطبيعة، وحتى مفهوم الروحانية، باتت تعاني من أزماتٍ مستحكمة وتآكلٍ داخلي، ما جعل الأمل في التغيير أحد أشدّ احتياجات الإنسان المعاصر إلحاحًا.

ما ينتظرنا هو عبور حضاري شامل يحدث في أربع ساحاتٍ كبرى، مما يُعيد تشكيل العالم من أساسه. هذه الدولة تنمو فيها العقلانية ويزدهر فيها العلم، فتتفجّر العقول وتتحقق طفراتٌ معرفية وتقنية واسعة. كما تتبدّل فيها الهياكل الاجتماعية والعلاقات الإنسانية في ظلّ عدالةٍ شاملة، ومشاركةٍ جماعية، وحاكميةٍ للصالحين، ووحدةٍ عالمية تنبذ الظلم والعنف، وتُعيد للناس الأمل، والطمأنينة النفسية، وهويتهم المفقودة. في عالم كهذا، تستعيد فيه الطبيعة والاقتصاد حياتهما، فينعكس ذلك رخاءً عامًا، وازدهارًا لمواهب الأرض، وتلبية عادلة وواعية للحاجات البيئية. وبما أن الدين يتجسّد بصورة كاملة، تنكشف للإنسان معانٍ جديدة للحياة، وتُعاد صياغة علاقته بالله والكون والوجود.

هذه الصورة ليست حلمًا طوباوياً، بل مسارٌ يبدأ من قلب المعاناة، ويتّجه نحو غدٍ يُصبح فيه العدل، والعقل، والروح، والانفتاح الشامل، حقائق ملموسة لا رؤى حالمة؛ واقعٌ جديد يولد أمام أعيننا، لا ليُدهشنا، بل لنكون جزءًا من صناعته.

التحولات العقلية والمعرفية: انطلاقة عصر ازدهار العقل والعلم

تُمثّل التحولات العقلية والمعرفية الركيزة الأساسية للنهضة الكبرى في العالم بعد قيام الدولة الكريمة؛ عالمٌ يعود فيه العقل والعلم إلى مكانتهما السامية والحقيقية. ففي وقتٍ تُعاني فيه البشرية من أزمات السطحية، والجمود العلمي، والبعد عن العقلانية، يَعدنا هذا العالم القادم بعصرٍ جديد يكون فيه العقل لا أداةً للفهم فحسب، بل محركًا للنمو الفردي، والازدهار الجماعي، والقفزة الحضارية.

في هذا الأفق الجديد، تتسع حدود الفهم، والتحليل، والإبداع، والأخلاق، بشكل غير مسبوق. تحلّ العقلانية الديناميكية محلّ التعصّب والجهل، ويتحوّل العلم والتكنولوجيا إلى أدوات للارتقاء وخدمة الإنسان في جميع أبعاده. فيما يلي نتناول تحوّلين محوريين في هذا المسار: تكامل العقول وانفجار العلم والتقنية، بوصفهما علامتين بارزتين لمستقبلٍ مشرق يُبنى في ظلّ دولة الكريمة.

تكامل العقول: قفزة غير مسبوقة في الفهم والتفكير

من أعجب وأعمق التحولات في زمن الدولة الكريمة، ظاهرة تكامل العقول. في عالمٍ تصارع فيه البشرية الجهل وضيق الأفق وضعف الإدراك، تُشكّل هذه المرحلة انفجارًا في المواهب العقلية ونضوجًا جماعيًا فريدًا في الوعي الإنساني. وصفَ أهلُ الالصفحة الرئيسية عليهم السلام هذه المرحلة بأنها عصرُ اكتمال العقول، حيث يصل الفهم الإنساني إلى مستويات لم يسبق لها مثيل. يقول الإمام الباقر عليه السلام: «إذا قام قائمُنا وضع الله يدَه على رؤوس العباد، فجمع بها عقولَهم، وكملت به أحلامُهم.»[1] هذا الحديث لا يتحدث عن زيادة المعلومات فحسب، بل عن تحوّل شامل نحو التوازن، والعمق، والعقل الجماعي، والانفتاح على آفاق جديدة من الإدراك والتحليل.

في هذا العصر، تصبح القدرة على التمييز بين الحق والباطل أكثر دقّة، وتتسارع وتيرة النمو العلمي، ويتعزز النضج الأخلاقي والاجتماعي، بحيث تُستأصل الجذور العميقة للجهل، ويَسود الوضوح والنضج والقدرة السليمة على اتخاذ القرار. وعندها تتشكّل مجتمعات عاقلة، مسؤولة، ومتوازنة، تُدار بالحكمة والعلم لا بالهوى والانفعال.

العلم والتكنولوجيا: تلاحم الأخلاق والتقدّم في عصر الدولة الكريمة

رغم القفزات الهائلة في العلم والتكنولوجيا اليوم، لا يزال الإنسان المعاصر يعاني من أزمات متفاقمة. فالسرعة المحمومة في التطوّر، والصراعات المحتدمة، واحتكار الموارد، وثقافة الاستهلاك، جعلت من كثيرٍ من مكتسبات العلم سيفًا ذا حدّين. بل إنّ المجتمعات التي نالت حظًا وافرًا من هذه المعارف، لم تَسلم من القلق، والوحدة، وانهيار الأسرة، وتدهور البيئة، وأزمة الهوية. وهكذا نشأت فجوة عميقة بين التقدّم العلمي وبين جودة الحياة الحقيقية. ولكن في العالم بعد قيام الدولة الكريمة، سيأخذ التطوّر العلمي منحىً متوازنًا، أخلاقيًا، وهادفًا. فلن يكون العالم آنذاك أداةً للهيمنة أو الاستهلاك المُفرط، بل وسيلةً لخدمة الإنسان، وتلبية احتياجاته الحقيقية، وتحقيق رفاهه المادي والروحي. تأتي هذه الرؤية متناغمة مع تعاليم الإسلام، حيث يقول الإمام الباقر عليه السلام: “إِذَا قَامَ قَائِمُنَا وَضَعَ اللهُ يَدَهُ عَلَى رُءُوسِ الْعِبَادِ، فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ وَكَمُلَتْ بِهِ أَحْلَامُهُمْ، حَتَّى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَتَقْضِي فِي بَيْتِهَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ(صلى الله عليه وآله)”،[2] ما يعني أن الفهم والعلم سيصبحان عامّين، متاحين، ومنغرسين في صميم الحياة اليومية. في ذلك العالم، ستفتح آفاق المعرفة إلى أقصى حدودها.

ورد عن الائمة المعصومين عليهم السلام أن العلم كلّه يتكوّن من ۲۷ حرفًا، وما عُرف حتى اليوم منه إلا حرفان فقط. أما عند ظهور القائم عليه السلام، يُظهر الله باقي الحروف الخمسة والعشرين. إنه انفجار معرفي هائل، وفتح لأسرار الطبيعة والكون، ببركة قيادة معصومة خبيرة. أما ما هي نتيجة هذا التحوّل؟

سوف تزول عندها الفجوات العلمية، ويشمل العالم أمنٌ ورفاهٌ شامل، ويسود على المجتمعٌ علمٌ فاضل يربط التقدّم بالمحور الأخلاقي والكرامة الإنسانية. وباختصار، فإنّ العالم بعد الدولة الكريمة، سيكون مَعلَمًا لعلمٍ مسؤول، نقي، وأخلاقي، في خدمة الإنسان بكل أطيافه.

التحوّلات الاجتماعية والبنيوية: إعادة تشكيل نسيج المجتمع الإنساني في العالم بعد الدولة الكريمة

تُشكّل التحوّلات الاجتماعية والبنيوية الأساس لانتقال المجتمع من عصر الاضطراب وأزمة الهوية إلى العالم الجديد الذي يتفتح بعد قيام الدولة الكريمة؛ ذلك العصر الذي تُستبدل فيه الهياكل البالية والتمييزية، بنظام إنساني جديد عادل ومنفتح على الكرامة.

في ظلّ هذه التحوّلات، تتحوّل مفاهيم مثل العدالة، والأمن النفسي، والصحة الأخلاقية، والمشاركة الشعبية، وازدهار الهوية الجماعية، من شعارات معلّقة إلى حقائق ملموسة تنبض بالحياة. لقد أصبحت مشكلات مريرة مثل التمييز، وعدم المساواة، وضياع الهوية، وضعف الثقة الاجتماعية، وتفشّي انعدام الأمان، واقعًا يلفّ حياة الأفراد والمجتمعات. ولكنّ العالم الذي ينبثق بعد الدولة الكريمة سيكون ساحةً لتحقيق أعمق تطلّعات الإنسان، حيث تُعاد صياغة الأسس القانونية، والعلاقات الإنسانية، والمشاركة الاجتماعية، على قاعدة الكرامة، والأمان، والرخاء الجماعي. في هذا العالم الجديد، تصبح العدالة ومكافحة التمييز مبدأً لا يُمسّ؛ وتغدو حكومة الصالحين ومشاركة الشعب واقعًا فعليًا لا مجرّد حلم؛ وتتحقق وحدة الإنسانية على أساس الحقّ كحقيقة يمكن لمسها لا كأمنية بعيدة، ويُستأصل الظلم والعنف من الأرض ليكونا حجر الأساس في إقامة سلام شامل وسكينة اجتماعية؛ كما أن تحوّل الأخلاق والعلاقات الإنسانية سيمتدّ إلى عمق التفاعلات اليومية، حتى تُصبح الحياة الاجتماعية مُشرعةً على أفق من النقاء والاحترام المتبادل. أما الأمل والطمأنينة النفسية، فلن يكونا بعد الآن طموحًا نظريًا أو مفاهيم عائمة، بل واقعًا حيًّا يسري في تفاصيل الحياة المشتركة.

في بقية هذا المحور، سنتناول بشيءٍ من التفصيل أبعاد هذه التحوّلات الاجتماعية والبنيوية، كما وردت في الروايات الإسلامية، واستنادًا إلى الرؤية المستقبلية التي ترسمها الدولة الكريمة. هذه التحوّلات تُعيد صياغة مفهوم الحياة الفردية والجماعية من الجذور، وتُمهّد لبناء حضارة إنسانية مزدهرة، عادلة، ومفعمة بالمعنى.

عالمٌ بلا تمييز: تحقُّق العدالة وكرامة الإنسان في العالم بعد الدولة الكريمة

يُظلِّل حياة الكثير من البشر اليوم ظلٌّ ثقيل من التمييز، واللامساواة، والتصنيفات الجائرة، من الامتيازات الطبقية غير المعلنة، والوصمات القومية والجندرية، إلى هياكل اجتماعية تُمزّق كرامة الإنسان عبر فواصل موهومة لا تستند إلى منطق أو عدل. في مثل هذا الواقع، تتلاشى مشاعر الانتماء، ويضعف الأمل في حياة عادلة.

يُقابل صوت المحرومين بالتجاهل، ومرارة عدم تكافؤ الفرص، وتَرهُّل نظام “الجدارة الصُورية”، كلّ ذلك يزرع في القلوب بذور عدم الثقة، ويُطفئ جذوة الحماس. وحتى الجهد الفردي، كثيرًا ما يصطدم بجدران البُنى الفاسدة والأحكام غير العادلة، فينتهي إلى طريق مسدود.

ولكن في العالم الذي يولد بعد قيام الدولة الكريمة، تصبح العدالة لا مجرّد قانون مكتوب أو بند دستوري، بل روحًا حيّة تتخلّل نَسج الحياة الجماعية. في هذا النظام الجديد، لا مكان لامتياز بسبب لون، أو لغة، أو ثروة، أو نسب. بل المعيار الوحيد للاستحقاق والنمو هو الاستقامة، والأخلاق، وخدمة الناس.

كل أشكال التعدّي على حقوق الآخرين تُجتثّ من الجذور ويُعاد بناء منظومة تقييم الإنسان على أسس شمولية وإنسانية، لا قومية، ولا ذكورية، ولا طبقية. وفي ظلّ هذا التحوّل، يشعر الجميع بالأمان النفسي والعدالة؛ ولا يُحرم حتى أصغر طفل في قرية نائية من حلمه، ولا يُقصى عن فرصة حياته، لمجرّد مكان ولادته.

كما لا تبقى الصحة الاجتماعية، والانتماء، وتكافؤ الفرص، مجرد شعارات، بل تتحوّل إلى واقع محسوس متغلغل في العلاقات اليومية وأساس الحُكم والإدارة. وفوق ذلك، فإن تحوّل الإنسان بعد قيام الدولة الكريمة، وتغيّر نظرته لذاته، سيجعل الكثير من المفاهيم التي نُطلق عليها اليوم “ظلمًا” أو “تمييزًا”، بلا موضوع، وتفقد معناها. لأن  لك العالم الجديد يُعيد تعريف الكرامة والعدالة من جذورهما، ويغرسهما في قلب الحياة.

وقد رسمت أحاديث أهل الالصفحة الرئيسية عليهم السلام هذا المشهد مرارًا؛ ومن ذلك ما قاله الإمام الباقر عليه السلام: «إذا قام القائم حكم بالعدل وارتفع في أيامه الجور وأمنت به السبل وأخرجت الأرض بركاتها ورد كل حق إلى أهله ولم يبق أهل دين حتى يظهروا الإسلام ويعترفوا بالإيمان.»[3]

بهذا، لا يكون العالم بعد دولة الكريمة قد أزال التمييز فقط، بل جعل من الكرامة الإنسانية والسلامة الروحية حقًّا أصيلًا لكلّ إنسان. والنتيجة هي مجتمع تُعاد فيه ولادة الأمل، ويأخذ كلّ فرد نصيبه من الفرص والاحترام، دون نقصان أو تهميش.

حكومة الصالحين ومشاركة الأمة: عودة الإمامة إلى الناس

من أبرز ملامح عصر الدولة الكريمة، قيام حُكم الصالحين وتجسّد المشاركة الحقيقية للأمة، وهو تحوُّل لا يغيّر بنية السلطة فحسب، بل يُقدّم للعالم تجربةً غير مسبوقة من الديمقراطية الإيمانية والسيادة القائمة على الفضيلة.

ففي هذا العالم الجديد، يتألّق الإنسان، وتُطوى صفحات النُظم البالية والاستبداد القديم، لتُفسَح الطريق أمام نَسقٍ إنسانيٍ عادل. على مدى قرون الغيبة ودهور الاستبداد، ظلّت الشعوب فريسة الاستغلال وسوء استخدام السلطة. ولكن في الدولة الموعودة، يقوم نظام “حكومة الصالحين” على أسس الكفاءة، والعدالة، والمعنوية، ويُمنَح الناس دورهم الفاعل في تقرير مصيرهم.

ففي أي مكان وُجد فيه “حكومة الصالحين”، لا مكان للجمود، ولا مجال لحياد الشعوب أو تهميشهم. وتؤكّد النصوص الإسلامية هذا المعنى، حيث يظهر حُكم الصالحين والمشاركة الشعبية كجناحين لازدهار المجتمع الموعود. يقول الإمام علي عليه السلام في خطبة شهيرة: «إذا قام قائمنا… ارتحلت الضغائن من قلوب العباد، وعَمَّتِ العدالةُ كلَّ مكان، ورُدَّ كلُّ حقٍّ إلى صاحبه، وظَهَرَت سُنَّة نبيّكم في الناس… فأُعطِيَ كلُّ ذي حقٍّ حقَّه.»[4] هذه الرواية ترسم ملامح عهدٍ ينتهي فيه احتكار السلطة، ويُقام فيه ميزان القسط، وتعود المشاركة الواعية للناس في صناعة مستقبلهم.

في مجتمع ما بعد الدولة الكريمة، تُوزَّع الفرص والمسؤوليات على أساس الفضيلة والكفاءة، ويُتاح لكل إنسان صالح أن يكون فاعلًا في تشكيل مصير أمّته، بقراره وإرادته. وهكذا، تتحوّل “حكومة الصالحين ومشاركة الأمة” من شعارات لطالما رُدِّدت، إلى واقع نابض بالحياة، وتجربة نادرة لم يشهدها تاريخ البشرية من قبل، حيث تلتقي العدالة بالشورى، والكفاءة بالمحبة، والحكم بالمسؤولية، ليكون الناس شركاء حقيقيين في النهضة، لا مجرّد متفرّجين على مصائرهم.

الاستقرار الكامل للحكومة العالمية ووحدة البشرية على محور الحق

لطالما احتلّ الاستقرار الكامل لحكومة عالمية موحّدة تقوم على أساس الحق، مكانةً مثالية في وجدان البشرية، غير أن هذه الأمنية العريقة ظلت، على مرّ العصور، مجرد حلم بعيد المنال. رغم كل التقدّم المادي والتقني الذي شهده العالم، ما زال هذا الكوكب ساحةً للصراعات المرهقة، والانقسامات، والتمييز، وما زالت “وحدة الإنسان” و”حكومة العدل العالمية” أمنية تُردَّد في المؤتمرات، لكنها لم تَرتقِ يومًا إلى مستوى الواقع.

إلا أنّ في أفق الدولة الكريمة، تتحول هذه الرؤيا القديمة إلى واقع حيٍّ نابض، حيث لا تكون “الحكومة العالمية على محور الحق” مجرّد شعار، بل نظامًا فعليًا يعيد بناء العالم على أساس العدالة، والحق، والكرامة.

تُجمِع الروايات الإسلامية على أن من أبرز ملامح عصر الظهور، قيام حكومة عالمية عادلة، ووحدة شاملة بين البشر، كما جاء عن الإمام محمد الباقر عليه السلام في وصف عصر القائم عجل الله فرجه: «إِنَّهُ إِذَا قَامَ قَائِمُنَا (علیه‌السلام) حَکَمَ بِالْعَدْلِ، وَارْتَفَعَ فِي أَیَّامِهِ الْجَوْرُ، وَأَمِنَتْ بِهِ السُّبُلُ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ بَرَکَاتِهَا، وَعَادَ کُلُّ حَقٍّ إِلَى أَهْلِهِ، وَلَمْ یَبْقَ أَهْلُ دِینٍ حَتَّى یُظْهِرُوا الْإِسْلَامَ وَیَدْخُلُوا فِی السِّلْمِ جَمِیعا»[5]

في هذا النص النبوي العميق، تتجلّى أركان هذه الدولة العالمية العادلة في: القضاء التام على الظلم، الأمن الشامل، عودة الحقوق إلى أصحابها، تكشّف بركات الأرض، والانخراط الشامل للبشر في مشروع صلح وسلام عالمي. وهكذا تبلغ البشرية في عصر ما بعد دولة الكريمة ذروة الانسجام والوحدة والاندماج، حيث تقوم الحضارة على أساس الحق المطلق والعدالة الشاملة، وتذوب الفواصل القومية، والعرقية، والمذهبية، في بوتقة الإنسانية العادلة، فلا يبقى فضلٌ إلا بالحق، ولا سلطة إلا للقسط، ولا انتماء إلا للإنسان. إنه الطريق الوحيد الذي يمكن أن يضمن استقرارًا حقيقيًا لحكومة عالمية عادلة، ووحدةً حقيقيةً لكل البشر على محور النور والحق.

 نفي الظلم والعنف من وجه الأرض؛ انطلاقة السلام الإنساني الشامل

من أبرز التحوّلات المحورية والإلهامية في عصر الدولة الكريمة، ذلك التحوّل الجذري الذي يتمثّل في نفي الظلم والعنف من وجه الأرض؛ وعدٌ إلهي طالما انتظره الإنسان المتعطش للعدل والأمن، وها هو يتحقّق أخيرًا، لا كشعارٍ مثاليّ، بل كواقعٍ معيش، حيث تغيب كل مظاهر القهر والعدوان عن العلاقات البشرية والاجتماعية، وتُطوى صفحات الحروب، والتمييز، والإرهاب، والاستبداد، لتبدأ مرحلة جديدة من السلام الحقيقي الشامل.

في عالمٍ أثقلته ظلال الظلم والعنف، وأنهكت مجتمعاته الحروب، والطغيان، وانعدام العدالة، تُشكّل نقطة التحوّل نحو نفي الظلم والعنف بارقة الأمل لعصرٍ جديد، عصرٍ تُنتزع فيه الكراهية من القلوب، ويُحفظ فيه الإنسان لكونه إنسانًا، وتتراجع فيه شريعة الغاب لصالح شريعة العدالة.

وقد أشارت الروايات الإسلامية بوضوح إلى أنّ نفي الظلم والعنف هو الغاية المركزية لقيام الإمام المهدي عليه السلام، إذ قال النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله: « یَمْلَأُ اللّٰهُ بِهِ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا »[6]

هذا التحوّل لا يقتصر على إزالة الأنظمة الجائرة أو إيقاف العنف المسلح، بل يشمل إعادة صياغة العلاقات الإنسانية من أساسها، بما يضمن إزالة الكراهية، وتصفية النفوس، وصون كرامة الإنسان، وإشاعة الطمأنينة والأمان في كل أرجاء الحياة. في ظلّ الدولة الكريمة، لا تقتصر الحماية على الإنسان، بل تمتد إلى الشعوب، والأقليات، الحيوان، والطبيعة نفسها، حيث يُرفع عنهم جميعًا ظلم الإنسان وتعدّيه وغفلته، فيتحرر الوجود بأسره من كل أشكال السلب والقهر. وهكذا، يكون العالم بعد قيام الدولة الكريمة، عالمًا خاليًا من الظلم والعنف، لا على مستوى الأفراد فقط، بل على مستوى البُنى والهياكل والعلاقات، وتتحقّق العدالة الشاملة، لا كمجرّد أمل، بل كـحقيقة قائمة، فتعود السكينة والسلام إلى جميع الكائنات، من الإنسان إلى الحيوان، ومن الطبيعة إلى الروح.

حياء المعنويّة والأخلاق الاجتماعيّة؛ الأساس المتين للتعاطف والأمان في عالم ما بعد الدولة الكريمة

في عالم اليوم، باتت المعنويّة والأخلاق أكثر فرديّةً وذاتيّة من أيّ وقت مضى، وانفصلت عن روح المسؤوليّة الجماعيّة والقيم الاجتماعيّة انفصالًا واضحًا. والنتيجة؟ ضعف في التعاطف، وتراجع في المشاركة المجتمعيّة، وانعدام ثقةٍ عام، وانتشار قلقٍ مزمن في تفاصيل حياة الأفراد. كما فرّقت المنافسات الأنانيّة المريضة بين القلوب، وأضرّت بالأمان النفسيّ والاجتماعيّ إلى حدٍّ يجعل كثيرين يشعرون بالوحدة والتهميش حتى وهم وسط الناس.

و ستنقلب لكنّ صفحة التاريخ في العالم بعد الدولة الكريمة؛ إذ يُبعث من جديد نور القيم المعنويّة والأخلاقية والاجتماعيّة الأصيلة. ولا تُعدّ المعنويّة عندها مجرد تجربةً شخصيّة منعزلة، بل تتحوّل إلى مِعيارٍ للارتقاء الجماعي، وإلى قاعدةٍ للسلوك الأخلاقي والتراحم الاجتماعي، وتتجاوز الأخلاق حدود النصيحة والشعارات، وتنساب في صميم الحياة والعلاقات البشريّة، فيسود الصدق، والوفاء، والتكافل، والمشاركة المسؤولة، بدلًا من الجفاء والعزلة، ويغمر الإحساس بالانتماء والأمان أعماق النفوس.

في ذلك العصر، سوف تُبنى العلاقات الإنسانيّة على الثقة والتعاطف، وتُحلّ الخلافات بالحكمة والرحمة، و لايعود الأمان والطمأنينة مجرد مفاهيم خارجيّة مرهونة بأجهزة السلطة، بل يتحوّلان إلى تجربةٍ داخليةٍ شاملة، تستمدّ روحها من المعنويّة والفضيلة، يشعر فيها كلّ إنسان باليقين أنّ له ظهرًا يسنده إن ألمّ به أمر، وأن لا موضع فيه لوحدةٍ أو شعورٍ بالخذلان.

يبلغ هذا التحوّل من العمق مبلغًا يجعل الروايات المستقبلية تصف الطمأنينة في عصر الدولة الكريمة بأنّها تعمّ حتى الحيوانات وسائر الكائنات، حيث تسود المصالحة والرحمة أنحاء المعمورة.[7] بالإضافة إلى ذلك، يرتفع رأس المال الاجتماعي، وتنتشر الثقة العامة، وتزدهر المشاركة الطوعيّة، ويتجاوز مفهوم السعادة حدود النجاح الفردي، ليُصبح في جوهره ثمرة العيش المشترك، والنهوض الجماعي، والسعي لنَيل رضا الله. هذا السَلام والتعاطف ذُكر في النصوص الدينيّة كثمرةٍ عظيمةٍ من ثمار عصر الظهور؛ فقد قال الإمام علي عليه السلام: «في الدولة الكريمة تُطهّر القلوب من الحقد والقلق، وتتحوّل المسافات إلى مودة ورحمة».[8] في هذا المناخ، تُغادر الحياة سطحيّتها وأنانيّتها، وتصبح الأخلاق والمعنويّة جوهرًا حيًّا وروحًا سارية في صميم العلاقات الإنسانيّة.

العودة إلى حقيقة الوجود؛ استجابة الدولة الكريمة لأزمة الهوية المعاصرة

في عصرنا اليوم، يتخبط كثير من الناس وسط أزمة هوية ومعنى، تائهين بين تيارات فكرية متضاربة، غافلين عن جوهر وجودهم الحقيقي، حتى باتت الهوية الإنسانية الأصيلة مخفية تحت ركام المظاهر الخادعة. والنتيجة هي شعورٌ بالفراغ وتيه ينهش الأرواح ويفرغ الحياة من معناها.

لكن هذا المشهد يتغير كليًّا في العالم بعد الدولة الكريمة؛ إذ يعود الإنسان إلى جوهر حقيقته، ويتعرّف على هويّته من جديد، لا من خلال المظاهر والانتماءات السطحية، بل انطلاقًا من فطرته الإلهية وروحه المعنوية. هوية تُعيد إليه إدراكه بأنه كائن أبدي، ابنٌ حقيقي لأهل الالصفحة الرئيسية عليهم السلام، مخلوق للنمو والكمال والتشبّه بصفات الله. وهذا الكمال لا يتحقّق إلا باتباع الإمام المعصوم، النموذج الكامل للإنسان المتّصل بالله.

وفي مثل هذا المجتمع، تكتسب الهوية الجماعية معنًى جديدًا؛ إذ يكون كل فردٍ متجذرًا في الروح والمعنويات والقيم الأخلاقية، ويغدو المجتمعُ ساحةً لتفجّر الطاقات وتجلي كرامة الإنسان. في هذا الفضاء، لا يكتفي الإنسان بالوصول إلى معرفةٍ عميقةٍ بذاته، بل يتفاعل ويمضي قدمًا مع الآخرين في درب الأهداف الإلهية المشتركة، محققًا توازنًا دقيقًا بين الذات والمجتمع، وذلك بفضل نور الهداية وقيادة الإمام المهدي عليه السلام.

وقد وصفت الروايات الإسلامية هذا الجو الروحي والإنساني الفريد، حيث يقول الإمام علي عليه السلام: «تُطهّر القلوب من الحقد والعداوة، وتُستبدل بالألفة والمودة».[9] عندها، لا يبلغ الإنسان ذروة معرفة نفسه فحسب، بل يكتشف أيضًا حسّ الانتماء والمسؤولية والتلاحم العميق مع مجتمعه الإنساني الواسع.

التحوّلات الطبيعية والاقتصادية والبيئية؛ فصلٌ جديد في نمط الحياة والمعيشة في العالم بعد الدولة الكريمة

تشكل التحوّلات الطبيعية، والاقتصادية، والبيئية أحد أبرز أوجه التميز وبناء الحضارة في العالم بعد قيام الدولة الكريمة؛ عالمٌ يُعاد فيه تشكيل العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وبين المعيشة والثروة، وحتى النظرة إلى البيئة. ففي يومنا هذا، تُظلّل حياة البشرية أزماتٌ كبرى كدمار البيئة، نضوب الموارد، تفاقم الفقر واللامساواة، واقتصاد هشّ ومتقلّب. أما في ظل الدولة الكريمة، فإن هذه الأحلام الإنسانية القديمة تجد طريقها إلى التحقّق، من خلال تحوّلات عميقة في مجالات الطبيعة، الاقتصاد، والبيئة.

في ذلك العصر، ستحدث هذه التحولات بحيث تتحرر خيرات الأرض من قيود الشحّ والنقص، ويتطهّر الاقتصاد من الظلم والتنافس غير الشريف، وتبلغ البيئة ذروة جديدة من الإحياء، والغنى، والحيوية. وفي هذا العالم الجديد، لن يكون الناس فقط بمنأى عن الفقر، وضيق العيش، وتدمير الطبيعة، بل سيغدو الانتفاع العادل والسليم من بركات الأرض، والاقتصاد الأخلاقي، والإحساس الجمعي بالمسؤولية تجاه البيئة جزءًا لا يتجزأ من الثقافة العامة للناس.

في ختام هذا المحور، سيتم التوقف عند تحولَين أساسيَّين يرمزان بوضوح إلى الثورة البيئية والاقتصادية في عصر الدولة الكريمة: الأول هو ظهور بركات الأرض وتدفّق عطايا الطبيعة، والثاني هو تحقق اقتصاد مزدهر ورفاه شامل. وهما تحوّلان سيقلبان وجه العالم، ليصبح واقعًا جديدًا كليًّا، للإنسان والطبيعة معًا، من الجذور حتى الفروع.

ظهور بركات الأرض وتفتّح المواهب الطبيعية؛ نهاية الفقر وبداية الازدهار

في عالمنا المعاصر، حيث تعاني مناطق شاسعة من أزمات شحّ الموارد، والجفاف، وتدمير البيئة، قد يبدو الحديث عن ظهور بركات الأرض وتفتّح المواهب الطبيعية أقرب إلى حلم بعيد المنال. لكن من منظور الوعود الإلهية والروايات الإسلامية، فإنّ العالم بعد قيام الدولة الكريمة سيكون ميدانًا تتحوّل فيه هذه البشائر إلى واقعٍ ملموسٍ وشامل. في الروايات الموثوقة، عُدّ ظهور بركات الأرض وتفتّح المواهب الطبيعية من أبرز علامات عصر الظهور. فقد قال الإمام محمد الباقر عليه السلام: «المهدي… تُخرج الأرض كنوزها، وتُسلّم ثرواتها إليه، ويملأ كل أرض، سواء أكانت سهلة أو جبلية، عدلًا، وتتفجّر الخيرات وتظهر البركات.»[10] هذه البشارات لا تعني مجرد تطوّر الزراعة وزيادة المحاصيل، بل تشير إلى زوال العوائق الطبيعية، وتدفّق النِعَم من أعماق الأرض والسماء، وازدهار المجتمعات، وانتهاء حقبة الندرة والمجاعة. إنه عصر الانفراج والوفرة في ظلّ الدولة الكريمة، حيث تتجلّى الخيرات الإلهية من البرّ والبحر والسماء بصورةٍ غير مسبوقة، وتُمحى الفاقة والحاجة من حياة البشر تمامًا.

وبذلك، يتأسّس في العالم بعد الدولة الكريمة نمط حياةٍ جديد يقوم على الانسجام مع الطبيعة، والتوزيع العادل للموارد، وانتفاع الجميع من نعم الخلق الإلهي. ويغدو ظهور بركات الأرض وتفتّح المواهب الطبيعية حجر الأساس لإرساء العدالة والسعادة الدائمة في جميع المجتمعات.

ولادة اقتصادٍ مُعافى؛ بزوغ الرفاه والاكتفاء في ظلّ الدولة الكريمة

في يومنا هذا، يئنّ الاقتصاد المعاصر تحت وطأة القلق المزمن من التضخّم، والبطالة، والتنافس المحموم، والخوف الدائم من تأمين لقمة العيش. كما جعل الإحساس بالحرمان، وضغط التكاليف، واللامساواة، نمط حياة الكثير من البشر متقلّبًا ومضطربًا. هذه الهشاشة المعيشية أضعفت جذور الأمل، وحوّلت أجواء المجتمع إلى ساحةٍ من الصراعات الفردية المرهقة والمنافسات غير النزيهة.

ولكن في العالم بعد قيام الدولة الكريمة، سيُعاد بناء هيكل الاقتصاد على أسس العدالة، وكرامة الإنسان، والتوزيع السليم والمُعافى للثروات. فلن يقلق أحد بشأن حاجاته الأساسية، وستُتاح الفرص الاقتصادية للجميع بحسب الكفاءة والسعي والظروف العادلة. كما يُستأصل الفساد، والتمييز، والسعي وراء الامتيازات، من جذورها عبر الشفافية والتضامن الجماعي؛ حيث يُصبح معيار استحقاق الثروة هو الجدارة والحاجة الحقيقية، لا على أساس العلاقات النفوذ. حينها يصل الناس إلى الرفاه الحقيقي؛ رفاهٌ لا يعرف الحاجة ولا يشعر معه أحد بالحرمان، ولا يبقى أثر للتسوّل أو المسكنة. كما بشّر الإمام الصادق عليه السلام: «يأتي زمانٌ يطوف الناس فيه بالصدقة من العرب والعجم، فلا يجدون أحدًا يقبلها.»[11]

في هذا النظام الاقتصادي، يصبح الاستهلاك مسؤولًا ومنضبطًا، ويُستبدل الجشع ولهفة التكديس بالطمأنينة ورضا النفس، وبروحٍ محفّزة للنمو الجماعي. كما ويمتد الثراء حتى تبلغ رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام مصداقها الكامل: «…تُجمع الأموال في المساجد أو الساحات، فينادي منادٍ: من شاء فليأخذ. فلا يتقدّم أحدٌ لأخذها من كثرة غِنى الناس، ولا يحملها أحد في النهاية…»[12] هذه الرواية لا تعبّر فقط عن وفرة العيش وأمنه، بل عن تحوّل عميق في نظرة الناس إلى الثروة؛ حيث تتلاشى النزعة إلى التكديس الفردي، وتُستبدل بحافز العطاء، والاستهلاك الواعي، وخدمة الجماعة. في هذا الفضاء الجديد، لا يعود الاقتصاد مصدر قلق أو ساحة نزاع أو وكر تمييز، بل جسرًا يربط بين الأمل والكرامة والرفاه الحقيقي لكامل المجتمع.

التحقّق الكامل للدين والروحانية الملموسة؛ الفصل الأخير في اكتمال الإنسانية في عالم ما بعد الدولة الكريمة

إنّ التحقّق الكامل للدين والروحانية الملموسة هو ذروة مسيرة التاريخ البشري، والنواة المركزية للتحوّل الحضاري في عصر الدولة الكريمة. في عصرنا المعاصر يقع الدين والروحانية كثيرًا ما في أسر الخلافات، والتفسيرات السطحية، والفجوة بين النظرية والممارسة. أما عصر التحقّق الكامل للدين والروحانية الملموسة يبشّر بفصلٍ جديد تُصبح فيه التعاليم الإلهية، والقيم الأخلاقية، والمعاني الروحية لا مجرّد شعارات أو مظاهر اجتماعية، بل حقائق عميقة، حيّة، ومؤثّرة تسري في الحياة الفردية والجماعية للإنسان. في ظلّ هذا التحقّق الشامل، تزول الحدود بين التديّن الظاهري والإيمان الحقيقي، ويُبنى مجتمعٌ تتجلّى فيه العقلانية، والعدالة، والرحمة، والإنصاف الإلهي في صميم الحياة، والقرارات، والعلاقات الإنسانية. هذا التحوّل الجذري لا يقتصر على إصلاح الشعائر والأحكام، بل يتّجه نحو إعادة بناء أسس الأخلاق والثقافة، وتأسيس حالة جديدة حيث الدين والروحانية يصبحان محورًا ومرشدًا للحياة اليومية، وللتفاعل الاجتماعي، وللتقدّم الجمعي للإنسان.

في ما يلي، سيتمّ تسليط الضوء على أبرز تجلّيات هذا التحقّق الكامل للدين والروحانية، وهو: “كمال الدين وتحقّق التعاليم الإلهية عمليًا”، لنرى كيف سيتحوّل هذا الطموح من مجرّد رجاءٍ وحلم، إلى واقعٍ نابضٍ وجارٍ في حياة الإنسان بعد قيام الدولة الكريمة.

كمال الدين وتحقّق عملي للتعاليم الإلهية؛ تجسّد الإيمان في حياة الإنسان

في عصر الدولة الكريمة، يُعدّ كمال الدين وتحقّق عملي للتعاليم الإلهية من أعظم التحوّلات الحضارية، إذ تتكوّن مجتمعات تُجسّد التعاليم الإلهية لا في المعتقد فقط، بل في السلوك العملي الشامل، فتتحوّل هذه التعاليم من مستوى الأهداف والنظريات إلى واقع ملموسٍ ومُشاهد، تسري فيه الأخلاق، والعدالة، والكرامة الإنسانية، والقيم القرآنية في جميع جوانب الحياة الفردية والاجتماعية للناس.

وقد ورد في الروايات الإسلامية أنّ عصر الظهور والدولة الكريمة هو زمن اكتمال الدين وتحقّق التعاليم الإلهية في أقصى درجاتها؛ إذ لا تقتصر فيه الشريعة على الوجود النظري أو الفرضي، بل يُقدّم الدين بشكلٍ كاملٍ ويُطبق عمليًا، ويتقبّله الناس بإيمانٍ قلبيّ وطوعيّ.

يقول الإمام الباقر عليه السلام: «المهدي… يُقيم القرآن والسُنّة والفضائل بين الناس، ويُعلي الإسلام على سائر الأديان، ويُنجز ما أراده الله تبارك وتعالى.»[13] وبناءً على ذلك، فإنّ تطبيق الشريعة والأخلاق الإلهية في كل تفاصيل الحياة، من السياسة والاقتصاد إلى الثقافة والعلاقات الفردية، يُصبح من سمات الدولة الكريمة.

عندها، لن تبقى الديانة مجرّد مظهر أو طقس اجتماعي، بل ستتحوّل إلى جوهر كلّ السلوكيات والقرارات، ويُشرق نور الله في جميع التفاعلات والعلاقات البشرية.

في خاتمة هذا العرض التحليلي والموثّق، يتّضح أن عالم ما بعد الدولة الكريمة ليس مجرّد حلم مثالي أو شعار ديني، بل هو استجابة عميقة لحاجات الإنسان المعاصر في ظلّ الأزمات الوجودية المتفاقمة. لقد استعرضنا في هذه السطور أربع تحوّلات كبرى ترسم ملامح مستقبل البشرية:

  1. تكامل العقل والمعرفة
  2. إعادة بناء البنى الاجتماعية على أساس العدالة والمشاركة
  3. إحياء الطبيعة والاقتصاد في ظل الوفرة والعافية
  4. التحقّق الكامل للدين والروحانية في الحياة الفردية والجماعية

إنّ العبور من دوّامة أزمات الحاضر إلى سكينة وازدهار المستقبل يتطلّب: نضج الفكر والإيمان، وقراءة جديدة للتجارب الدينية والتاريخية، وتوسيع النظرة الشاملة إلى مفهوم التحوّل الحضاري كما أن العالم بعد الدولة الكريمة سيكون مظهرًا لـعدالة شاملة، ورفاهٍ مشترك، وروحانية أصيلة، بالإضافة إلى هوية جديدة مفعمة بالأمل. إنّه فضاءٌ لحياةٍ أخلاقية وإنسانية، لا يُقيّد مستقبل الإنسان بتكرار الأزمات، بل يفتح أمامه آفاقًا واسعة للنمو والازدهار. والنظر إلى هذا الأفق يُلقي على كاهل كلّ إنسانٍ أملًا جديدًا ومسؤولية كبرى. فالمطلوب منّا جميعًا أن نُعدّ أنفسنا ومجتمعاتنا منذ اليوم لاستقبال هذا المستقبل العظيم؛ مستقبلٌ يمكن أن يصبح أجمل واقع في التاريخ، بفضل المشاركة الاجتماعية، والإصلاح الثقافي، والتمسّك بالقيم الإلهية والإنسانية.

 

[1] . الکافي، ج 1، ص 25؛ بحار الأنوار، ج 52، ص 336

[2] . کمال الدین و تمام النعمة، الشیخ الصدوق، ج 1، ص 324

[3] . بحارالأنوار، العلامة المجلسي، ج 52، ص 338

[4] . نهج‌البلاغة، الخطبة 152؛ بحار الأنوار، ج 51، ص81

[5] . بحار الأنوار، ج 52، ص 320 و 347

[6] . سنن ابن ماجه، ج 2، ص 1342؛ الکافي، ج 1، ص 338؛ بحار الأنوار، ج 52، ص 276

[7] . بحار الأنوار،  ج52، ص390

[8] . بحارالأنوار، ج 52، ص 390

[9] . نهج‌البلاغة، الخطبة 152

[10] . الکافي، ج 1، ص 338؛ بحار الأنوار، ج 52، ص 390؛ الغیبة، النعماني، ص 316

[11] . کمال الدین و تمام النعمة، الشیخ الصدوق، ج 2، ص 672

[12] . الغیبة للنعماني، ص 241-242، الحدیث 57

[13] . بحار الأنوار، ج 52، ص 310؛ کمال الدین، ج 2، ص 671؛ الغیبة النعماني، ص 239

المشارکة

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *