فلسفة إقامة مسيرة الأربعين؛ مدرسةٌ لتربية الإنسان الكامل وبناء المجتمع التوحيدي
في السنوات الأخيرة، أصبح التساؤل عن فلسفة إقامة مسيرة الأربعين يشغل أذهان الباحثين والمفكرين وعموم الناس أكثر من أي وقت مضى. ملايين الزوار من القريب والبعيد، يضعون أقدامهم كل عام في مثل هذه الأيام على درب العشق والمعرفة، ليُحيوا سؤالًا كبيرًا: ما فلسفة إقامة مسيرة الأربعين، وكيف يمكن أن تغيّر هذه الحركة عمق حياتنا ومعناها؟
للإجابة على هذا التساؤل، لا يكفي النظر إلى التاريخ أو الجوانب الاجتماعية والثقافية. فالأمر يتطلب فهمًا أعمق يستند إلى الفلسفة الإسلامية التي ترى الإنسان ككائن يسعى للكمال والحقيقة. إنّ مسيرة الأربعين تُعدّ فرصة مثالية للفرد ليتجاوز روتينه اليومي وفرديته، ليندمج في رحلة جماعية تُمارس فيها قيمٌ مثل الإيثار، والولاء، والمقاومة، والمحبة. في هذا المسار، لا يتقرّب الزوار من الإمام الحسين فحسب، بل يخطون خطوة نحو نموذج “الإنسان الكامل”، الذي يمثل غاية الحركة الإنسانية في الفلسفة الإسلامية.
إنّ الأربعين ليست مجرد إحياء لذكرى قديمة، بل هي مرآة تعكس التلاحم الإنساني والإلهي. إنّها مظهرٌ لـ”التولي والتبري”، و”الذكر العملي”، وإحياء القيم العميقة كالعدل، والحرية، والمحبة التي تسري في قلب المجتمع. ومن منظور فلسفي، تكمن فلسفة إقامة مسيرة الأربعين في هذا الربط بين الفرد والجماعة، بين الروحانية والعمل، وبين الأصالة والتجديد. لذلك، فإنّ البحث في فلسفة المشي إلى كربلاء هو في جوهره بحث عن حاجة إنسانية عميقة: أن نمنح حياتنا معنى، أن نسير مع الحقيقة، وأن نختبر مسيرة النمو والروحانية مع الآخرين. مسيرة الأربعين تُحوّل هذه المفاهيم من أقوال إلى أفعال، وتُثبت أنّ بلوغ الإنسانية والكمال ليس جهدًا فرديًا فحسب، بل يتحقق بالتآزر والتعاون مع الجماعة.
فيما يلي، سوف نستعرض فلسفة المشي في الأربعين من زوايا مختلفة: جماعية، هويّتيّة، حضارية، وروحية.
الإنسان الكامل والسلوك الجماعي؛ قراءة فلسفية لمسيرة الأربعين
أحد المفاتيح لفهم فلسفة الأربعين هو رؤية الفلسفة الإسلامية لمكانة الإنسان وعلاقته بالمجتمع. فالهدف النهائي للإنسان هو بلوغ الكمال والقرب الإلهي؛ غير أنّ هذا الطريق لا يزدهر في عزلة وانفراد، بل في رحاب الأمة والجماعة. إن مسيرة الأربعين نموذج بارز لهذا السلوك الجماعي، حيث لا يفقد الفرد ذاته وسط الملايين، بل يجد هويته ومعنى وجوده من خلال الجماعة.
يُعرّف “الإنسان الكامل” في الفلسفة الإسلامية، بأنه من يجمع في وجوده صفات الله العليا؛ من رحمة وعدل وعلم ولطف وعظمة. وهذا الإنسان هو النموذج الأمثل الذي إذا اقتُدي به، أمكن للإنسان بلوغ الغاية التي خُلق من أجلها: القرب من الله وبلوغ المراتب العليا.
ومن هنا، يمكن تحليل فلسفة إحياء مسيرة الأربعين في هذا السياق. فالحشد الهائل الذي يتحمل مشاق الطريق بهدف واحد وحب إلهي، يخضع لنوع من التربية والتهذيب الجماعي. هذا التجمع ليس مجرد لقاء مادي لملايين الأشخاص، بل هو فرصة لممارسة القيم الإنسانية والانتقال من الفردية إلى الإيثار.
في هذا الطريق، يواجه الزوار تحديات جسدية وروحية واجتماعية مختلفة، ومن خلال تجاوز هذه الصعوبات، ينمون جوانب مختلفة من وجودهم. الأمة، بهذا المعنى، هي الحاضنة التي تنمو فيها القيم الكبرى، من التعاطف والتعاون إلى الصمود والتضحية. ولذلك، فإن الأربعين ليست مجرد طقس ديني، بل هي فرصة للتدرب على العيش المشترك وفقًا للقيم الإسلامية، وبناء أفراد يسيرون نحو الكمال والحقيقة مع الآخرين.
التَّوَلي وَالتَّبَرّي؛ الأربعين كإعلان عملي عن الهوية الدينية ومواجهة الظلم
في الرؤية الشيعيّة، لا يُختَزل الأربعين ومسيرته المليونيّة نحو كربلاء في مجرّد زيارة فرديّة أو طقس عبادي شخصي، بل هو تجلٍّ اجتماعي وعملي لركيزتين أساسيتين من مبادئ مذهب التشيّع: التولّي، أي محبّة أولياء الله واتباعهم، والتبرّي، أي البراءة والانفصال عن أعداء الله وجبهة الظلم. وسؤال فلسفة إحياء مسيرة الأربعين، إذا ما نُظر إليه من زاويتهما الاجتماعيّة هذه، يتضح أكثر في إطار التولّي والتبرّي.
التولّي؛ الولاء للإمام والتماسك الجماعي
التولّي في الفكر الشيعي يعني المحبة، والتبعية، والوفاء العملي للإمام. وتُعدّ فلسفة زيارة الأربعين امتدادًا لهذا الارتباط العميق بالإمام الحسين عليه السلام. إنّ الحضور الجماعي للملايين من مختلف الجنسيات والثقافات واللغات حول محور واحد، وهو الإمام الحسين، يُشكّل نموذجًا عصريًا لـ”الحب الجماعي” الذي يوحد المؤمنين. ففي هذا التجمع، إن الزوار على اختلاف الجنسيّات والأعراق والثقافات واللغات، يتجاوزون الفوارق ليلتفّوا حول محور واحد: الاتجّاه إلى الإمام وتجديد البيعة لمبادئه، مما يُعدّ سر الوحدة والتكافل التي تُؤسّس لحضارة عادلة وكما أن أهل الالصفحة الرئيسية عليهم السلام اتخذوا في حياتهم الفرديّة والاجتماعيّة نهجاً إنسانيّاً محوريّاً، فإن سرّ الوحدة والانسجام، بل وإمكان نشوء حضارة قائمة على العدل، يكمن في هذا المحور نفسه.
التبرّي؛ حدّ فاصل مع الظلم والسلطة والثروة غير المشروعة
إلى جانب التولّي، يقوم مبدأ التبرّي، أي الانفصال العملي والقلبي عن جبهة الظلم والسلطة المتجبّرة والثروة غير المشروعة. ومسيرة الأربعين، بما تحمله من بساطة وإيثار وتضامن فريد بين الزائرين وأصحاب المواكب، إنما تُجسّد التحرّر من جاذبيّة الدنيا الماديّة، وترسم رسالة صريحة موجّهة لكل الطغاة وأعوان الظلم عبر التاريخ.
مسيرة الأربعين تذكّر المؤمنين بأن الإيمان الحق لا يقتصر على الخلوة الفرديّة مع الله، بل يتجلّى أيضاً في تحديد الموقف بين جبهة الحق وجبهة الباطل. وقد كتب الشهيد مطهّري عن هذه الوظيفة والحضاريّة للأربعين قائلاً: «… إن عزاءنا وزياراتنا وراياتنا ومواكبنا كانت دوماً إعلان وفاء لهدف، وإعلان براءة ورسم حدود فاصلة مع جبهة أخرى… فالزيارة والعزاء هما في آنٍ واحد إعلان وفاء للشهيد الذي بذل نفسه في سبيل العقيدة، وإعلان حدّ فاصل بيننا وبين أعداء الحق، وهذا الحدّ يجب أن يبقى ممتداً إلى نهاية التاريخ».[1] وعليه، يمكن القول إن فلسفة إحياء الأربعين تكمن في هذا الإعلان العملي لهويّة مؤمنة مرسومة بحدّ فاصل مع الظلم، وفي هذا العشق الملموس للإمام.
فإذا أردنا أن نقدّم تفسيراً فلسفيّاً عميقاً لـ «فلسفة إحياء الأربعين»، وجب أن نقول: إنّ هذه الحركة العظيمة هي الميدان العملي لتجلّي مبدأي التولّي والتبرّي؛ وساحة تحيي هويّة المؤمنين الدينيّة، وتؤسّس وحدتهم حول الولاية، وتعيّن موقفهم في مواجهة الظلم والفساد عبر التاريخ. فكل خطوة على درب الأربعين هي إعلان وفاء لجبهة الحق، وإعلان انفصال عن جبهة الباطل، وهي هوية ومرجعيّة في آن، تمهّد لبناء حضارة شيعيّة معاصرة، وتؤسّس لمجتمع العدل الموعود.
مسيرة الأربعين؛ إعادة بناء الهويّة الشيعيّة وإحياء الصلة بالإمام (الولاية والتولّي)
من منظور كبار مفكّري الشيعة، ليست الهويّة الدينيّة مجرّد اعتقاد ذهني، بل هي حقيقة حيّة واجتماعيّة تتجسّد في الارتباط القلبي والعملي بالإمام. فقد أوضح العلّامة الطباطبائي في الميزانفي تفسير القرآن وفي كتاباته الفلسفيّة أنّ الإيمان والدين لا يبلغان كمالهما إلا حين ينظّم الإنسان كل جوانب حياته حول محور الولاية الإلهيّة والاتباع العملي للإمام المعصوم.[2] ومن هنا، تُفهم فلسفة إحياء مسيرة الأربعين؛ باعتبارها انتقالاً للإيمان من مستوى فردي إلى مشاركة اجتماعيّة وواقعيّة. ولهذا كان الشهيد مطهّري يؤكّد مراراً في كتبه أنّ الارتباط بالإمام يُخرج الحياة الدينيّة من العزلة والفرديّة، ويجعل المؤمن جزءاً من حركة جماعيّة حيّة ومسؤولة.[3]
فالمسيرة الأربعينيّة، بوصفها تجلّياً عينيّاً وشاملاً للتولّي وتجديد العهد مع الإمام، إنّما تنبثق من هذا الفهم المعرفي. إنّها المشهد الأكثر عمليّةً للعشق والوفاء لحجّة الله، حيث يعيش كل فرد معنى التولّي على نحو ملموس: محبّة، واتباعاً، وولاءً، وبراءةً من كل ما هو غير إلهي. وكما يشير آية الله جوادي آملي، فإن التولّي للإمام ليس مجرّد شعور وجداني، بل هو سلوك واعٍ موجّه يتجلّى في الفعل الاجتماعي والحضور الجماعي.[4] ومن هنا، تُدرَك فلسفة الأربعين كظاهرة اجتماعيّة حيّة وحركة جماعيّة متجدّدة.
وعليه، يصبح الأربعين موعداً لتجديد البيعة العلنيّة مع الإمام الحاضر. كل خطوة في هذا الطريق إنما هي تكرار رمزي لعهد ووفاء لوليّ الله، تماماً كما ورد في قول الإمام الرضا عليه السلام: «مَنْ زَارَ قَبْرَ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ … عَارِفاً بِحَقِّهِ كَانَ كَمَنْ زَارَ اللَّهَ فِي عَرْشِهِ».[5] فالزيارة الواعية والمسؤولة للإمام الحسين عليه السلام تمثّل ذروة العبادة والاتصال بالحق.
وبناءً على ذلك، يمكن القول إن فلسفة الأربعين تتمثّل في إعادة بناء وإحياء الهويّة الشيعيّة في الواقع العملي، وإظهار المعنى العميق للولاية. إنّ مسیرة الأربعين تجمع الأتباع على صعيد واحد، ليمارسوا بشكل حيّ وجماعي حبّ الإمام ووفاءهم له، وليمنحوا المجتمع الديني عبر هذه المشاركة القلبيّة والعمليّة إشراقاً وقوّة وحيويّة.
مسيرة الأربعين؛ تجسيد حي للسلوك الجماعي وتدريب لبناء مجتمع إيماني
لماذا يُشدّد الإسلام، وخاصة المذهب الشيعي، على التجمّع والحركة الجماعية للمؤمنين بهدف واحد؟ إن الإجابة تكمن في عمق الفكر الشيعي حول كمال الإنسان والمجتمع، فالكمال الإسلامي لا يقتصر على النمو الفردي، بل يتحقق في “السلوك الجماعي” والعمل الاجتماعي تحت لواء الولاية..
مسيرة الأربعين: تجسيد عملي لالتفاف المجتمع حول الإنسان الكامل
وفقًا لرؤية العلامة الطباطبائي، فإن هدف بعثة الأنبياء واستمرارية الإمامة هو تحقيق “المجتمع الموحد”، أي مجتمع لا يكتفي ببناء الفرد، بل يُشكّل “أمة واحدة” بالارتباط بالإمام والحركة الجماعية. يُعدّ الأربعين وريثًا لهذه الفلسفة؛ وقد قال العلّامة في الميزان إن اجتماع أهل الإيمان حول الإنسان الكامل هو المقدّمة للمجتمع التوحيدي، ومن دون الأمّة الواحدة لا تقوم للدولة الحقّة قائمة.[6]
وهكذا، فإن مسيرة الأربعين امتداد لهذه الفلسفة؛ ملايين البشر، من جنسيات وطبقات ومذاهب مختلفة، يجتمعون لهدف واحد: زيارة حجّة الله وتجديد العهد معه. وهذا الحضور الجماعي ليس مجرّد طقس أو تكرار لعادة، بل هو تدريب عملي على بناء مجتمع عالمي قائم على العدل، وتمهيد لظهور الحضارة الإسلاميّة النهائيّة. وفلسفة إحياء مسيرة الأربعين تكمن بالذات في هذا التمرين الجماعي والهدف الإلهي المشترك.
السلوك الجماعي: من الممارسة الفردية إلى الحركة التاريخية
إن الزيارة والعزاء ليسا عملاً فردياً سطحياً، بل إحياء للتاريخ، وللثقافة، وللهويّة، وبعث لروح الجماعة الطامحة إلى العدل. ففي منطق عاشوراء والأربعين، لا يقتصر دور الفرد على تربية نفسه، بل يتعلّم كيف يمارس الفعل الجماعي في صميم المجتمع؛ كيف يضحّي، ويصبر، ويبذل من أجل هدف أسمى من مصالحه الشخصية، وكيف ينخرط مع جمهور المؤمنين تحت راية وليّ الله. والأربعين هو المظهر الحيّ لهذا الانعتاق من الفرديّة. وفي تحليل فلسفة إحياء الأربعين، يحتل هذا البعد الجماعي والتاريخي موقع المركز.
المجتمع الإيماني؛ من التمرين إلى تحقيق الحضارة الدينية
إن هذا التجمع المليوني حول حقيقة عليا، وهي إمامة الإمام الحسين، يُعدّ نموذجًا مُصغّراً لـ”الأمة الواحدة” والمجتمع المهدوي المثالي. فالأربعين، بالإضافة إلى كونها مناسبة للعزاء والبكاء، هي مدرسة للتدرب على الهوية الجماعية، والتعايش السلمي، وبناء المجتمع على أساس المعرفة والهدف الإنساني السامي. إن كل خطوة يخطوها الزائر في مسيرة الأربعين هي إعلان للعالم بأن النموذج الأمثل للحياة الدينية لا يقتصر على الفردية والمناسك الشخصية، بل يبلغ ذروته في “التجمع”، و”التكافل“، وتشكيل “أمة المؤمنين”.
إن مسيرة الأربعين تجسيد حي لمفهوم أن الكمال والروحانية لا يمكن أن يتحققا دون عمل وتعاون جماعي. ويُعدّ الأربعين أكبر نموذج عالمي لمجتمع يقوم على الولاية، ويمهد الطريق لدولة الحق المهدوية.
ومن هنا، فإن فلسفة الأربعين متجذّرة في تحقيق هذا النموذج الجماعي، مجتمع يتّحد بالذكر والهدف والعشق المشترك، ملتفّاً حول الإنسان الكامل، ليمارس العدل والمحبّة والتعايش، ويحوّل مفاهيم الحضارة الدينيّة من مجرّد نظريات إلى واقع حيّ نابض.
مفهوم الذكر وإحياء السُنن: دور الأربعين في إدامة الخطاب الحسيني
في تحليل فلسفة مسيرة الأربعين، لا يمكن إغفال الدور الجوهري لمفهوم “الذكر” وإحياء الماضي. فالذكر في الفلسفة الإسلامية ليس مجرد تكرار للكلمات، بل هو حضور قلبي وإعادة إحياء للقيم الروحية في الحياة. إن مسيرة الأربعين، بتجمع الملايين في حركتها العظيمة، تُعدّ “ذكراً جماعياً”، وإبقاءً لذكرى حقيقة الإمام الحسين حية. هذه الذكرى ليست للعودة إلى الماضي، بل لإحياء القيم في الحاضر.
في نص زيارة الأربعين، تُذَكّرُنا عبارة “وَ بَذَلَ مُهْجَتَهُ فِیکَ” بأن الإمام الحسين قد قدّم روحه في سبيل الله، والحقيقة، والعدالة. هذه الذكرى ليست مجرد نقل لحدث تاريخي، بل هي مصدر إلهام ودوافع لإعادة بناء هذه القيم في حياتنا. في الفلسفة الشيعية، الذكر هو أداة للاتصال بالحق، والأربعين نموذج بارز لهذا “الذكر العملي”. فخطوات الزوار تُعيد ذكرى آلام المسيرة وحب الحرية، ووجودهم يُحيي سنة الزيارة والمقاومة ضد الظلم. وبكل نظرة أو لمسة حانية، فإنهم يُترجمون رسالة عاشوراء.
إنّ الأربعين نوع من الذكر، ولكنه ليس ذكرًا باللسان فقط، بل بالعمل والقلب. إنها ذاكرة جماعية تنتقل من جيل إلى جيل، وتتحول إلى موجة من الوعي، والأمل، والمقاومة، والمسؤولية الاجتماعية. إن هذا التجمع السنوي ليس مجرد إحياء لذكرى حزن كبير، بل هو تجديد للعهد مع الأمل لمواصلة “جبهة الحق”. إن إحياء ذكرى الإمام الحسين عليه السلام في الأربعين هو عامل لاستمرارية الحقيقة وإعادة إنتاج قيم مناهضة الظلم والعدالة. هذا الدور الفريد يُقدم إجابة واضحة على فلسفة الأربعين في عصر النسيان والروتين.
إن فلسفة مسيرة الأربعين تتجذر أيضًا في الحفاظ على الهوية والثقافة الشيعية. ففي عصر تسود فيه وسائل الإعلام وسرعة الحياة الحديثة وتُلقي بغبار النسيان على السنن والمعتقدات، تُعدّ مسيرة الأربعين وسيلة إعلامية حية تنقل رسالة عاشوراء وحقيقة الإمام الحسين عليه السلام من جيل إلى آخر. هذه الحركة الجماعية تضمن عدم نسيان السنن الدينية والملحمة الحسينية، بل تُحييها بقوة أكبر كل عام لتُصبح مصدر إلهام للعمل والمقاومة.
في الختام، يمكن القول إن فلسفة الأربعين تكمن في المفهوم العميق للذكر وإحياء السنن. هذه الشعيرة ليست إبقاءً لحدث تاريخي حيًا، بل هي استمرار لخطاب حي دائمًا؛ خطاب المطالبة بالحق، والإيثار، والسعي للحقيقة، والولاء للقيم الإلهية التي تُمهّد الطريق للتربية الروحية للفرد والمجتمع.
الأربعين: تدريب على بناء الحضارة وتحقيق المجتمع المنتظر في الفكر الشيعي
من المنظور الشيعي، تتجاوز مسيرة الأربعين كونها مجرد شعيرة دينية أو طقس عزاء. إنها في جوهرها طقس حضاري، يُمثّل بيئة خصبة لتحقيق مجتمع جديد قائم على مبادئ الإمام الحسين عليه السلام. يُعدّ هذا التجمع المليوني تدريبًا عمليًا لبناء الحضارة الإسلامية الحديثة والتحضير لـ “المجتمع المنتظِر”. يمكن تفسير فلسفة مسيرة الأربعين على أساس هذا المنظور الحضاري المستقبلي.
الأربعين؛ تجسيد حي للوحدة وبناء الأمة
في الأربعين، يتوحّد ملايين البشر من جنسيات ولغات وثقافات مختلفة، دون أي تحزّب عرقي أو قبلي أو عنصري، حول حب الإمام الحسين عليه السلام وعدالة عاشوراء. هذه التجربة الفريدة تُظهر أنه حتى في عصرنا الحالي، يمكن تكوين أمة موحدة بمبادئ إلهية وإنسانية مشتركة، تتجاوز الانقسامات الجغرافية والسياسية. إن الإمام الحسين عليه السلام في الأربعين لا يكون مجرد إمام لأمة، بل محور عالمي للباحثين عن العدالة والحرية. وهذا تجسيد لـ «بناء الحضارة حول الإنسان الكامل»، وهو الأساس الذي يقوم عليه النهج الحضاري الشيعي. ومن هنا يمكن تفسير فلسفة مسيرة الأربعين في تحقيق الوحدة والتعايش.
إحياء ثقافة التضحية والمحبة والعدل والتعاون
في مسيرة الأربعين، تُحيى القيم الدينية والأخلاقية الأساسية، مثل التضحية، والمحبة، والتعاون، والخدمة بلا مقابل، واحترام الإنسان. كل زائر، وكل عائلة عراقية، وكل صاحب موكب، وكل خدمة صغيرة، تشكل حلقة في سلسلة اجتماعية تجسد تعاليم عاشوراء. هذه الثقافة هي الركيزة الأساسية للحضارة المثالية للظهور؛ مجتمع تتشكل فيه الروحانية والمحبة والعدل أسلوب حياة لأفراده.
الأربعين؛ تدريب على الثورة الفردية والاجتماعية
المشاركة في المسيرة الأربعينية فرصة لممارسة التغيير الفردي وتطوير الذات وتعزيز الأخلاق الاجتماعية. كل فرد في هذا الجمع الكبير يتعلم الشعور بالمسؤولية، والصبر، والتسامح، والمشاركة المجتمعية. هذه المشاركة تمثل الانتقال من الذات إلى الجماعة، ومن «أنا» إلى «نحن»، ومن الفرد إلى الأمة، وتدعم أسس «بناء حضارة قائمة على الانتظار»، وهي الحضارة التمهيدية لظهور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف. ومن هنا، يكمن جواب فلسفة إحياء مسيرة الأربعين في التركيز على تحول الفرد والمجتمع معًا.
الأربعين؛ نموذج عملي وتجريبي للحضارة العالمية الموعودة
المسيرة الأربعينية تمثل عرضًا مسبقًا للمجتمع المثالي الذي ينتظره الشيعة ليتحقق بالكامل في عصر الظهور؛ مجتمع تتجسّد فيه العدالة والمحبة والتضحية والقسط، ليس كحلم بعيد، بل كواقع ملموس وحيّ. فالأربعين هو مكان التقاء «بناء الحضارة الإسلامية» مع الواقع اليومي للناس، وتحويل القيم إلى سلوك اجتماعي فعلي.
من منظور الحضارة، يمكن تلخيص فلسفة المسيرة الأربعينية في الفكر الشيعي بأنها تجمع الأمم والمذاهب المختلفة حول محور قيم الإنسان الكامل وتعاليم الحسين عليه السلام؛ إنها ساحة تدريب على أسلوب حياة توحيدي، عادل، تشاركي، وأرضية عملية لتحقيق وعد العدالة العالمية. وهنا تتجلى فلسفة إحياء مسيرة الأربعين: فهي بداية ووسيلة لتحقيق حضارة الإمام الحسين عليه السلام وثورة عاشوراء، وهدفها الأسمى هو تأسيس أمة واحدة وتمهيد الطريق للظهور المنتظر. تتمتّع مسيرة الأربعين بمكانة فريدة في رؤية المجتمع المنتظر، فهي رمزٌ للتحضير والتمهيد لظهور حضارة عالمية تقوم على أسس العدل، والروحانية، والكرامة الإنسانية.
إنّ فلسفة مسيرة الأربعين لا تقتصر على الأبعاد التاريخية أو العاطفية، بل هي إجابة واضحة وحية لظمأ الإنسان المعاصر للبحث عن معنى والقدوة وهدف حقيقي في الحياة. إذا سألنا: “ما هي فلسفة مسيرة الأربعين؟”، فالإجابة هي: أن هذا التجمع المليوني هو تجسيد حي للسلوك الجماعي، وتدريب على الولاء والبراءة، وتعزيز لروح الإيثار، ونموذج ملموس لإحياء الهوية الدينية والاجتماعية للشيعة؛ وهي الحلقة المفقودة التي يبحث عنها الإنسان المعاصر بين فرديته وسعيه للحقيقة.
في منظور الفلسفة الإسلامية والتصوّف الشيعي، توضح فلسفة المسيرة الأربعينية أن هذا الطريق هو تمرين على الحياة وفق قيم الحسين عليه السلام، وتعزيز التآخي العالمي، وإعادة قراءة رسالة عاشوراء باستمرار، وتمهيد الطريق للحضارة الإسلامية الجديدة. المسيرة الأربعينية تحفز التلاقي بين الأمم والأديان، وتُعدّ أرضية لتحقيق الأمة الواحدة، وتجهيزًا لظهور المهدي المنتظر(عجل الله فرجه الشريف)، وأخيرًا، وسيلة لحفظ ونشر ثقافة المقاومة، والسعي للعدل، وكرامة الإنسان.
لذلك، إن مسيرة الأربعين تتجاوز كونها مجرد شعيرة دينية أو تقليد. بل هي حركة حضارية وإنسانية تحمل في طياتها رسالةً عميقة، وأصبحت مصدر إلهام للحركات الروحية والاجتماعية في العالم المعاصر.
[1] . من كتاب “الملحمة الحسينية ، ج1، ص263-258
[2] . الطباطبائی، سید محمدحسین. المیزان في تفسير القرآن. ج. 2، ص. 247 و كتبه الفلسفية الأخرى
[3] . مرتضى المطهري. الحرية المعنوية. طهران: منشورات صدرا، الطبعة السادسة، 1379هـ.ش؛ الصفحات 120-122. نهضة الإمام الحسين (عليه السلام). طهران: منشورات صدرا، الطبعة التاسعة، 1390هـ.ش؛ الصفحات 100-102. فلسفة التاريخ. طهران: منشورات صدرا، الطبعة الرابعة، 1394هـ.ش؛ الصفحات 75-78.
[4] . الجوادي الآملي، عبد الله. “ولاية الفقيه والنقاط المنطقية في الفلسفة”. طهران: منشورات إسراء، 1387 هجري شمسي؛ ص 185-187.
[5] . مصباح المتهجد، ج 2، ص ۷۷۱
[6] . الميزان في تفسير القرآن، ج2، ص 111