ما دور اليهود الروس في تشكيل إسرائيل؟ وما العوامل التي مهدت لدخول اليهود إلى فلسطين؟
إن فكرة إنشاء دولة أو وطن لليهود ليست فكرة جديدة، بل وُضِعَت أسسها عبر قرون من الزمن. ومع ذلك، فإن دخول اليهود إلى فلسطين وتوطين يهود العالم في وطن لا ينتمي إليهم لم يكن أمرًا بسيطًا، بل تطلّب خططًا وتدابير تم الإعداد لها تدريجيًا داخل غرف التفكير المختلفة.
مع تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية عام 1897، التي كان هدفها تعبئة يهود العالم والتضامن مع القوى الكبرى،[1] أصبح موضوع الهجرة وتشجيع دخول اليهود إلى فلسطين أكثر جدية. وفي هذا الإطار، أبدى يهود أوروبا الشرقية والوسطى، الذين كانوا يواجهون ضغوطًا وتمييزًا وعدم رضا متزايدًا، رغبة أكبر في الهجرة إلى فلسطين والإقامة فيها.
ومع ذلك، فإن الهجرة الجماعية لليهود إلى فلسطين كانت ستواجه ردود فعل من سكان البلاد، بالإضافة إلى إثارة حساسية الدولة العثمانية، التي كانت تحكم فلسطين آنذاك. لهذا السبب، تعاونت الصهيونية مع مؤسسات مثل لجنة الاستعمار، والصندوق اليهودي، وشركة تطوير أراضي فلسطين،[2] بالإضافة إلى الاستعانة بأسر ثرية مثل عائلة روتشيلد، لشراء الأراضي اللازمة لتوطين اليهود واستعمار فلسطين.
هذه الجهود أتاحت عملية الهجرة ودخول اليهود إلى الأراضي الفلسطينية، والاستقرار فيها. في هذا المقال، نستعرض بعضًا من أبرز الإجراءات التي اتخذتها الصهيونية في هذا السياق.
الأراضي الأولى لتوطين اليهود
حتى نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين في عام 1948، لم يتجاوز ما كان يملكه اليهود حوالي 6% من أراضي فلسطين. ومع ذلك، فإن هذه النسبة الضئيلة أيضًا كان قد تم الاستحواذ عليها بوسائل ملتوية شملت المصادرة، الخداع، المؤامرات، والضغط على العرب للتخلي عن أراضيهم أو بيعها قسرًا لليهود.[3] كما أشرنا سابقًا، تتمتع فلسطين بموقع مميز من حيث المناخ والجغرافيا والأهمية الاستراتيجية. هذه العوامل جعلتها محط الأنظار حتى قبل الحرب العالمية الأولى، عندما كانت فلسطين وسوريا ولبنان والأردن جزءًا من منطقة الشام وتحت حكم الدولة العثمانية. خلال تلك الفترة، أقدم بعض الإقطاعيين السوريين واللبنانيين، رغم إقامتهم في مناطقهم الخاصة، على شراء أراضٍ في منطقة فلسطين. بعد هزيمة الدولة العثمانية واحتلال الشام من قبل قوات الحلفاء، قام بعض هؤلاء الأثرياء المسيحيين ببيع أراضيهم. استخدموا العائدات الناتجة عن هذه المبيعات لبناء القصور والمباني الفاخرة في بيروت ودمشق ومناطق أخرى.
وهكذا فقد تمكّن اليهود من شراء حوالي 625 ألف دونم[4] من أراضي فلسطين من الإقطاعيين اللبنانيين والسوريين، وكان أبرز هؤلاء العائلات آل سرسق، وعائلة سلام، وبيهم، وتيان وغيرهم.
ومن الجدير بالذكر أن بعض العائلات حصلت من الدولة العثمانية على امتيازات لإحياء أراضيها، على أن تبيعها بعد إصلاحها للفلاحين الفلسطينيين مقابل مبلغ من المال. ولكن، وخلافًا لوعدها، قامت ببيع هذه الأراضي لليهود. ولم يكتف اليهود بشراء الأراضي فحسب، بل قاموا في بعض الحالات، وبمساعدة القوات البريطانية، بمصادرة أراضٍ كاملة في المنطقة، مما أدى إلى تهجير أو قتل أسر فلسطينية بأكملها. ومن أمثلة ذلك مصادرة أراضي منطقة الحوارث.
في الحقيقة، كانت معظم الأراضي التي استولى عليها اليهود في فلسطين نتيجة لعلاقات خفية مع الماسونيين الأتراك، والتسهيلات التي قدمتها الحكومة البريطانية لتخصيص الأراضي لليهود، وشراء الأراضي من العائلات السورية واللبنانية. وبعد الحرب العالمية الأولى، تولت بريطانيا إدارة فلسطين وفقًا لخطة مرسومة مسبقًا لتهيئة الظروف لإقامة وطن قومي لليهود، فقامت بتخصيص أراضٍ لليهود في مناسبات متعددة لتسهيل هجرتهم إلى فلسطين. وقد عملت الحكومة البريطانية على توفير الأراضي لليهود بطرق مختلفة، من أبرزها:
- منح 300 ألف دونم من الأراضي لوكالة اليهود من قِبل ممثل الحكومة البريطانية.
- بيع 200 ألف دونم لليهود بمبالغ زهيدة.
- إهداء 165 ألف دونم من أراضي السلطان العثماني عبد الحميد لليهود من قِبل بريطانيا.[5]
بهذه الطريقة، ومع توفير الأراضي الأولية لتوطين اليهود في فلسطين، زادت وتيرة الحثّ والتشجيع على الهجرة إلى هذه الأرض، مما أدى إلى تسريع وتيرة تدفق اليهود إليها.
دخول المهاجرين من شرق أوروبا إلى فلسطين
شهدت فلسطين في الفترة ما بين عامي 1882 و1903 أولى موجات الهجرة اليهودية، حيث وصلت أعداد كبيرة من اليهود، غالبيتهم من روسيا ورومانيا وبولندا، إلى هذه الأرض. وقد تم تمويل هذه الهجرة وتنظيمها بشكل كبير من قبل البارون روتشيلد، بدعم من جمعيات صهيونية مختلفة مثل “أحباء صهيون” وحركة “بيلو“.
نشأت هناك حركة تُدعى بيلو ردًا على المجازر التي استهدفت اليهود في روسيا عقب قوانين مايو، وهدفت إلى إحياء الأمة اليهودية من خلال الهجرة إلى فلسطين. اعتمدت هذه الحركة على مضمون صهيوني أُضيفت إليه شعارات ذات طابع شعبي يهودي وروسي. إلى جانب حملاتها الدعائية للهجرة الجماعية والمنظمة، قادت حركة بيلو أول موجة رئيسية من الهجرة الصهيونية إلى فلسطين. ومع ذلك، واجهت هذه المجموعة تحديات كبيرة بسبب عدم خبرتها بالزراعة، وجهلها بمناخ فلسطين، النزاعات الثقافية مع اليهود التقليديين، والوضع الاقتصادي الصعب. في الواقع، كانت حركة بيلو حركة صهيونية لم تدرك أهمية الاعتماد على الإمبريالية لتحقيق أهدافها، مما أدى إلى مواجهتها مشاكل عديدة بعد وصولها إلى فلسطين.[6]
بين عامي 1904 و1914، دخل حوالي 35 ألف يهودي مهاجر، معظمهم من روسيا ودول أوروبية أخرى، إلى فلسطين عبر ميناء يافا، الذي كان الميناء الوحيد لفلسطين آنذاك. تُعرف هذه الفترة بالموجة الثانية من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، و جاءت نتيجة النمو السكاني، الظروف الاقتصادية الصعبة، التمييز والاضطهاد الذي تعرض له اليهود في بلدانهم..[7] إن جزء كبير من هذه السياسات تم تنسيقها مع الحركة الصهيونية، التي سعت إلى ممارسة الضغوط على اليهود لإجبارهم على ترك أماكن إقامتهم والهجرة إلى فلسطين، الأرض التي تم التخطيط لها منذ سنوات لتكون وطنًا قوميًا لليهود. بعد الحرب العالمية الأولى، ومع تولي بريطانيا إدارة فلسطين، جاءت الموجة الثالثة من الهجرة اليهودية بين عامي 1919 و1923. كان أغلب هؤلاء المهاجرين من الروس والبولنديين، معظمهم من الطبقة العاملة المتأثرة بالأفكار الاشتراكية.[8]
على الرغم من أن الحركة الصهيونية حاولت تغليف هجرة اليهود إلى فلسطين بقناع خادع، مدعية أن هذا التحرك يهدف إلى إنقاذ حياتهم من اضطهاد الحكومات المعادية لليهود، إلا أن الهدف الحقيقي كان إقامة دولة يهودية في فلسطين. دولة تُستخدم كقاعدة لتنفيذ مخططات الصهيونية، وتحقيق حلمها النهائي بالسيطرة على العالم..
الجماعات المسلحة اليهودية
لم يقتصر أثر تدفق اليهود إلى فلسطين، عبر ميناء يافا بشكل رئيسي، على الجانب الديموغرافي فحسب، بل امتد ليشمل أبعادًا اجتماعية وسياسية. فقد أثار استقبال الصهيونيين المتكرر للسفن المحملة بالمهاجرين الجدد، وتزايد أعداد المستوطنين اليهود، سخطًا شعبيًا فلسطينيًا متزايدًا، وزاد من وعيهم بالمخططات الصهيونية الرامية إلى تغيير التركيبة الديموغرافية للبلاد. وقد أدى هذا التوتر المتصاعد إلى اشتباكات متكررة بين الطرفين، مما مهد الطريق لمزيد من الصراع والعنف.
مع تزايد الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتأسيس المستوطنات الصهيونية، ازداد وعي الفلسطينيين بالمخططات الصهيونية التوسعية، وتسببت التوترات المتصاعدة بين اليهود والعرب الفلسطينيين في دفع اليهود إلى تشكيل مجموعات عسكرية لحماية مصالحهم. وفي هذا السياق، أسس المهاجرون الصهيونيون الأوائل عام 1907 منظمة عسكرية سرية أطلقوا عليها اسم “بارغيورا”، تكفلت بحماية المستوطنات الصهيونية في منطقة الجليل مقابل أجر. ورغم زوال هذه المنظمة عام 1909، إلا أنها مهدت الطريق لتأسيس منظمة أوسع وأكثر استقرارًا هي “هشومير”.[9]
منظمة هشومير
تُعتبر منظمة هشومير، التي تعني “حارس المجتمع”، واحدة من أقدم المنظمات العسكرية الصهيونية. تأسست عام 1909 في فلسطين بقيادة إسرائيل شوحط، وكانت مسؤولة عن الدفاع وحراسة المستوطنات في فلسطين. لم تكن هذه المنظمة منذ البداية تعمل كمجموعة موحدة من الصهاينة، بل كانت مزيجًا من صهاينة شرق أوروبا ومناطق مثل أوكرانيا والقوقاز. انضمام اليهود الروس الماركسيين إلى المنظمة زاد من الروح القتالية بين أعضائها. رغم أن معظم أعضاء المنظمة كانوا من أوائل المهاجرين الروس ومن حزب عمال صهيون، إلا أن هشومير لم تكن تتبع المنظمة العالمية للصهيونية بشكل مباشر. ومع تحوّلها إلى منظمة عسكرية، لم تقتصر أنشطتها على حماية المستوطنات الصهيونية، بل لعبت دورًا رئيسيًا في إنشاء المستعمرات الصهيونية في فلسطين.
خلال الحرب العالمية الأولى، ظهرت خلافات داخلية بين أعضاء هشومير بسبب الانقسام حول القتال بجانب البريطانيين أو الانضمام إلى الأتراك، ووصلت هذه الخلافات إلى ذروتها عام 1920. بعد الحرب العالمية الأولى، ومع حاجة الصهاينة إلى إنشاء قوة عسكرية أكبر، تم حل هاشومير واندمجت في منظمة الهاغاناه.
في الواقع، إن ما أبقى على وجود هاشومير حتى منتصف عشرينيات القرن الماضي كان التزام أعضائها الأيديولوجي والوطني تجاه الأفكار الاشتراكية التي تبنتها المجموعات الأخرى.[10] ومع ذلك، بعد عام 1929 وخلال انتفاضة العرب الفلسطينيين، انضم ما تبقى من أعضاء هاشومير نهائيًا إلى الهاغاناه، منهين بذلك تاريخ هذه المنظمة.[11]
اعتمد اليهود الصهاينة منذ البداية على العنف والعسكرة كوسيلة أساسية لضمان بقائهم واستمرار وجودهم. فقد رأوا في إنشاء المنظمات العسكرية وشبه العسكرية وسيلة ضرورية لحماية وجودهم. في الواقع، طبيعة الصهاينة اليهود غير المحلية، وانعدام شرعيتهم القانونية في حكم أرض فلسطين، إلى جانب خوفهم من الإبادة وضعف تعدادهم البشري مقارنة بالسكان الفلسطينيين، كلها عوامل أسهمت في ترسيخ فكر عسكري لدى المجتمع الصهيوني في فلسطين..[12]
في عام 1920، وبعد سنوات قليلة من وعد بلفور، ومع تزايد هجرة اليهود إلى فلسطين وازدياد عدد المستوطنات الصهيونية، أنشأ اليهود منظمة عسكرية تُدعى هاغاناه، والتي أصبحت لاحقًا إلى جانب منظمات أخرى مثل إتسل وليحي نواة جيش الدفاع الإسرائيلي والإرهاب الصهيوني..
منظمة هاغاناه
هاغاناه، التي تعني “الدفاع”، هي منظمة عسكرية صهيونية تأسست عام 1920 في القدس. عملت كذراع مسلح للوكالة اليهودية، وتركزت أهدافها الأولية على مصادرة الأراضي، خلق فرص عمل لليهود، الحراسة، والإنتاج، لكنها ركزت بشكل أساسي على الأنشطة العسكرية. شاركت هذه المنظمة في قمع العرب الفلسطينيين خلال ثورة عام 1929، حيث لم تكتفِ بمهاجمة المنازل والممتلكات الفلسطينية، بل تولت أيضًا حماية المستوطنات الصهيونية، وابتكرت أسلوب “البرج والأسوار” لإنشاء المستوطنات الصهيونية في يوم واحد.
ردًا على الاحتلال الصهيوني، اندلعت ثورة عام 1929 من قبل الشعب الفلسطيني، مما أدى إلى توسيع أنشطة هاغاناه لتشمل مزيدًا من عمليات الاحتلال والاعتداء. كما شجعت هذه الأحداث المنظمة على جمع وتخزين كميات أكبر من الأسلحة لدعم أنشطتها العسكرية..
بين عامي 1920 و1930، هاجر من شرق أوروبا عدد من الشباب المُتمكنين والذين لديهم خبرة في العمل ضمن المنظمات شبه العسكرية والسرية، مما أدى إلى تعزيز قوة منظمة هاغاناه. كما تم اختيار أماكن سكن المهاجرين اليهود وفق أهداف سياسية واستراتيجية محددة، بحيث تلبي احتياجات الصهاينة الاقتصادية والدفاعية في مواجهة العرب. وهكذا، تحول كل مهاجر يهودي إلى حصن قوي يلبي احتياجات هاغاناه.[13]
شهدت هاغاناه تطورًا كبيرًا من خلال إنشاء قيادتين سريتين تابعتين للتنظيم الصهيوني المركزي في الوكالة اليهودية. كانت إحداهما مسؤولة عن الشؤون العسكرية، بينما تكفلت الأخرى بالشؤون غير العسكرية. كما اعتمدت المنظمة على الحرب النفسية كمقدمة لإشعال الحروب العسكرية، حيث كانت تهدد العرب وتخيفهم من عواقب الحرب، ما يدفعهم إلى إخراج النساء والأطفال من المدن.[14]
بالإضافة إلى ذلك، أنشأت هاغاناه داخلها مجموعات خاصة لتنفيذ هجمات إرهابية، من أبرزها وحدات بالماخ التي عملت كقوة ضاربة للمنظمة.
مع أن الأنشطة الإرهابية لم تقتصر على منظمة بعينها، إذ أن إقامة اليهود الصهاينة غير الشرعية في فلسطين جعل التدريب العسكري أمرًا شبه يومي. فكانت التدريبات تُجرى في المدارس الدينية اليهودية، الورش الصغيرة، الحمامات، والمعابد اليهودية.[15]
إن هاغاناه كانت القوة الرئيسية التي قادت عملية تأسيس “إسرائيل” في فلسطين من عام 1921 إلى عام 1948،[16] وكانت هذه المسؤولية مصحوبة بأعمال العنف، والتهديد، والترهيب، واغتيال الفلسطينيين، وكل ذلك لخدمة أهداف المنظمة الصهيونية العالمية. سوف يتم التوسع في هذا الموضوع في مقالات أخرى بشكل أكثر تفصيلًا.
[1] تشكيل الحكومة والقوات المسلحة الإسرائيلية، محمد كرمي كامكار، 2004، العدد 20
[2] نفسه
[3] الرد على الشكوك التاريخية حول احتلال فلسطين، مجيد صفطاج، مجلة باسدار اسلام الشهرية، المجلد 1391، العدد 370
[4] كل دونم يعادل تقريبا 1000 متر مربع.
[5] الرد على الشكوك التاريخية حول احتلال فلسطين، مجيد صفطاج، مجلة باسدار اسلام الشهرية، المجلد 1391، العدد 370
[6] حركة بيلو، مدار – بيديا موسوعة مصطلحات تحوي أكثر من 5000 مصطلح اسرائيلي
[7] Alroey, G. (2003). Journey to early-twentieth-century Palestine as a Jewish immigrant experience. Jewish Social Studies, 9(2), 28+
[8] موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين بين الأعوام 1940ـ 1948: القدس العربي
[9] . هشومير أول منظمة عسكرية صهيونية في فلسطين: موسوعة القدس: موقع الجزيرة
[10] نفسه
[11] . نفس المصدر
[12] تشكيل الحكومة والقوات المسلحة الإسرائيلية، محمد كرمي كامكار، 2004، العدد 20
[13] الإرهاب الصهيوني، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية
[14] نفسه
[15] نفسه
[16] الهاغاناه، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية