من ثورة 1979 إلى حرب الاثني عشر يوماً ؛ سردية العداء الإسرائيلي الذي لا ينتهي مع إيران

من ثورة 1979 إلى حرب الاثني عشر يوماً ؛ سردية العداء الإسرائيلي الذي لا ينتهي مع إيران

تأملات في أبعاد حرب الاثني عشر يومًا وطبيعتها المرتبطة بآخر الزمان

بينما كان العديد من المحللين يتوقعون فصلًا جديدًا من التفاعل الدبلوماسي بين إيران والولايات المتحدة، وأن الأجواء العالمية تتجه نحو قبول الطبيعة السلمية للبرنامج النووي الإيراني بعد سنوات من النزاع النووي والمساومات، كشف العالم الغربي مرة أخرى عن وجهه الحقيقي؛ فقد شنت أمريكا والكيان الصهيوني هجومًا جويًا على المراكز النووية والدفاعية والعسكرية الإيرانية في خضم المفاوضات النووية، وفرضا حرباً استمرّت اثني عشر يوماً على إيران، مما كشف مرة أخرى عن طبيعتهما الشريرة والمتغطرسة أمام العالم.

أطلقوا على عمليّتهم اسم “الأسد ينهض”، وهو اسمٌ مستوحى من أسفار التوراة حيث يُصوَّر قوم إسرائيل وكأنهم أسود تنهض لتفتك بفرائسها: «ها إنّ قوماً ينهضون كالأُسود، ويرتفعون كاللبوة، فلا يهدأ لهم بال حتى يريقوا الدماء ويبتلعوا ضحاياهم». لكن الواقع كان أبعد ما يكون عن هذه الأسطورة؛ فالأسد الذي أرادوا أن يُظهروا أنفسهم به لم يكن سوى شبحٍ عاجز. ومع توالي أيّام الحرب، تكبّد المعتدون خسائر فادحة، ولم يجنوا من عدوانهم إلا الفشل في تحقيق أهدافهم الكبرى، وعلى رأسها إسقاط النظام الإسلامي في إيران. وهكذا لم يجدوا أمامهم سوى التراجع والانكفاء بعد حربٍ قصيرةٍ ملتهبة، لتبقى الحقيقة جلية: أنّ مشروعهم لم يكن سوى وهمٍ آخر يتهاوى أمام صمود الأمة.

تُعدّ حرب الاثني عشر يوماً حرباً أخرى تُفرَض على الشعب الإيراني بعد انتصار الثورة الإسلامية. فالحرب الأولى اندلعت بعد عامين فقط من قيام الثورة، حين شنّ النظام البعثي في العراق – وبدعمٍ واسع من الدول الغربية – هجوماً برياً وجوياً على الحدود الإيرانية. حربٌ استمرت ثمانية أعوام، وانتهت بقبول القرار 598.

وبعد سبعةٍ وثلاثين عاماً، عاد العدو ليعتدي على السيادة الإيرانية من جديد؛ لكن هذه المرة صُدم في مواجهة من أجواء البلاد و خاض حرباً لم تدم سوى اثني عشر يوماً. فقد بدأت المواجهة مع الكيان الصهيوني فجر الثالث عشر من یونیو 2025م، حين استهدف الطيران الحربي الإسرائيلي المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية، واغتال عدداً من كبار القادة العسكريين والعلماء النوويين. كان ردّ إيران سريعاً وحاسماً بضربات موجعة، لتتحول المواجهة إلى حربٍ مفتوحة. وفي الرابع و العشرين من يونيو، لم يجد الأميركيون والصهاينة بداً من طلب وقف إطلاق النار، ليتدخّل الوسيط القطري ويُعلن عن هدنة ظاهرية، فيما بقيت النار متقدة تحت الرماد.

الثورة الإسلامية وكوابيس الاستكبار العالمي

ما جرى في المواجهة الأخيرة بين إيران والكيان الصهيوني لم يكن حدثاً طارئاً، بل حلقة جديدة في سلسلة العداء الذي فُرض على الشعب الإيراني منذ اللحظة الأولى لانتصار الثورة الإسلامية. فحرب الاثني عشر يوماً لم تكن سوى جزء من مشروعٍ طويل الأمد يهدف إلى محاصرة إيران وإخضاعها، حيث لعب الكيان الصهيوني فيه دور الأداة الميدانية للاستكبار العالمي.

وفي خضمّ تلك الحرب، خرج المستشار الألماني فريدريش ميرتس باعترافٍ صادم حين قال: «تقوم إسرائيل بهذا العمل القذر بالنيابة عنّا جميعاً!»، في إشارة صريحة إلى أنّ برلين، وسائر الحكومات الغربية، شركاء في عدوان إسرائيل. بل ووصل به الأمر إلى تمجيد قادة الكيان الصهيوني بدعوى جرأتهم على مهاجمة إيران.

هذا الاعتراف لم يكن مجرد تصريح عابر، بل وثيقة حيّة تكشف عمق العداء الغربي المتجذّر تجاه الثورة الإسلامية، وتجاه كل شعبٍ يرفع راية المقاومة ويسير على خطّها.

إن انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 كان نقطة تحوّل كبرى قلبت موازين المنطقة وأربكت معادلات العلاقات الدولية، وفتحت فصلاً جديداً في تاريخ النظام العالمي. وكان أكثر من تأثّر بهذا التحوّل هو الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، بوصفه الذراع الإقليمي لواشنطن وأداته في الشرق الأوسط.

منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى سقوط نظام الشاه، كانت أمريكا الفاعل الأبرز في السياسة الإيرانية، وقد نظرت إلى إيران باعتبارها الحليف الاستراتيجي الأهم في الشرق الأوسط والخليج. في عهد محمد رضا بهلوي، تحولت إيران إلى قاعدة متقدمة لحماية مصالح واشنطن في المنطقة. هذه العلاقة التي بُنيت على أساس “المصالح المشتركة غير المتكافئة”، سرعان ما تحولت إلى تبعية كاملة للنظام الملكي تجاه الولايات المتحدة، حيث رهن الشاه بقاءه السياسي والعسكري بالدعم الأمريكي، ودفع أثماناً باهظة مقابل ذلك، عبر منح الامتيازات وتقديم الخدمات بلا حدود.

ولكن جاء انتصار الثورة كالصاعقة، موجهاً ضربة قاصمة للنفوذ الأمريكي في المنطقة. فقد أسقطت الثورة صفوف حلفاء واشنطن والغرب، وأحدثت شرخاً في النظام الثنائي القطبية الذي كان سائداً في العالم آنذاك. على الصعيد الداخلي، دشّنت الثورة عهداً جديداً قوامه الثقافة والسياسة المستمدة من روح الإسلام الأصيل، لتحل ثقافة العزة والكرامة محلّ ثقافة الخضوع التي طبعت عهدي القاجار والبهلويين.

استلهم الشعب الإيراني من ملحمة كربلاء ومن شعار الإمام الحسين عليه السلام «هيهات منّا الذلّة» نهجه السياسي والاجتماعي، مستلهماً مبدأ مقارعة الاستكبار ومناهضة الظلم ليتّخذه ركناً أساسياً في الهوية الفكرية لإيران ما بعد الثورة.

في البداية، كان قادة الولايات المتحدة يتوهّمون أنّ موجة الثورة في إيران ستنحسر عاجلاً أم آجلاً، وأنّ في مقدورهم استعادة نفوذهم المفقود وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. غير أنّ الواقع كان مغايراً تماماً؛ فقد انتهى عهد الهيمنة الأمريكية على القرار الإيراني، وانتهت معه مرحلة النهب المنظّم لثروات البلاد على أيدي واشنطن وحلفائها من قوى النهب والاستعمار.

منذ اللحظة الأولى لانتصار الثورة، دوى جرس الإنذار في عواصم الاستكبار، فقد أدرك الأمريكيون والصهاينة وغيرهم من القوى المتغطرسة أنّ شعارات الثورة الإسلامية لن تبقى حبيسة حدود إيران، بل ستتجاوزها لتُلهِم المظلومين وتوقظ الشعوب المقموعة، مهدِّدةً بذلك منظومة السيطرة الغربية برمّتها. ولهذا اندفعوا منذ الأيام الأولى إلى شنّ الهجمات وتدبير المؤامرات سعياً لإسقاط الثورة أو حرفها عن مسارها، على أمل أن يؤخروا قليلاً مصيرهم المحتوم.

لم تفارق الحرب والمؤامرة والعداء يوماً علاقة أمريكا بالثورة والشعب الإيراني. إن ما ظهر للعالم في حرب الاثني عشر يوماً لم يكن سوى حلقة من حلقات هذا العداء المستحكم. في الصفحات التالية، سنستعرض جانباً من الجرائم والسياسات العدوانية التي مارستها الولايات المتحدة ضد إيران بعد انتصار الثورة، وإن كان لهذا العداء جذورٌ تمتدّ إلى ما قبلها بسنوات طويلة.

من إجراءات عدوانية أمريكية – صهيونية ضد الشعب الإيراني بعد الثورة

منذ اللحظة الأولى لانتصار الثورة الإسلامية، لم يتوقف مسلسل المؤامرات والاعتداءات التي قادتها الولايات المتحدة ومعها الكيان الصهيوني ضد إيران. ويمكن تلخيص أبرزها في المحطات التالية:

  • العقوبات الاقتصادية: بدأت منذ عام 1979م وتوسعت تدريجياً لتشمل مختلف القطاعات الحيوية، في محاولة لخنق الاقتصاد الإيراني وإضعاف صمود الشعب.
  • رعاية الجماعات المعادية: تقديم الدعم المالي والعسكري والإعلامي للتنظيمات الإرهابية والانفصالية، مثل منظمة “مجاهدي خلق” والجماعات المسلحة في المناطق الحدودية.
  • تجميد الأصول الإيرانية: مصادرة الأموال الإيرانية في مختلف بلدان العالم.
  • الحرب الإعلامية: إنشاء منصات دعائية مثل “صوت أميركا” و”راديو الغد” لتأليب الرأي العام وبث الشائعات وزرع الفتنة بين الشعب ونظامه.
  • المشاركة في الحرب المفروضة: تقديم المعلومات الاستخبارية، والدعم التسليحي والسياسي الواسع لنظام صدام حسين خلال حرب الثماني سنوات.
  • المجزرة الجوية عام 1988: إسقاط طائرة مدنية إيرانية فوق مياه الخليج عبر البارجة الأميركية “فينسنس”، ما أسفر عن استشهاد 290 مدنياً، بينهم 66 طفلاً.
  • إشعال الحروب الإقليمية: افتعال أزمات وحروب عبثية في جوار إيران – كأفغانستان والعراق وسوريا – بهدف نشر الفوضى وتمكين الوجود العسكري الأميركي قرب الحدود الإيرانية.
  • دعم جماعات إرهابية: رعاية مباشرة لداعش وجماعات كردية مسلحة في المنطقة، واستخدامها أداة لضرب الأمن الإيراني والإقليمي.
  • الانسحاب من الاتفاق النووي: خرق التعهدات الدولية، إعادة فرض العقوبات، وتكثيف سياسة “الضغط الأقصى” لإركاع إيران.
  • الهجمات السيبرانية: تنفيذ عمليات تخريب إلكتروني ضد البنية التحتية الإيرانية، مثل إطلاق فيروس “ستاكس نت” الذي استهدف المنشآت النووية.
  • اغتيال القادة والشخصيات البارزة: اغتيال الشهيد قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، بقرار مباشر من الرئيس الأميركي على أرض العراق.
  • تنفيذ مشروع اغتيال العلماء النوويين منذ عام 2007، بدءاً من استشهاد الدكتور أردشير حسين‌پور، مروراً بالعشرات من الكفاءات العلمية الإيرانية.
  • استهداف المستشارين العسكريين الإيرانيين في سوريا والعراق واليمن.
  • الاعتداءات المباشرة: قصف مبنى السفارة الإيرانية في دمشق، في انتهاك صارخ للأعراف والمواثيق الدولية.

على مدى أكثر من أربعة عقود، لم تتوقف الولايات المتحدة والكيان الصهيوني عن عدائهما للجمهورية الإسلامية الإيرانية، مستخدمَين كل أنواع الحرب: السياسية والاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية والإعلامية. صحيح أنّ بعض الفترات شهدت محاولات للتفاوض أو خفض التوتر، لكن المسار العام ظلّ ثابتاً: نهج يقوم على المواجهة المباشرة ومحاولة تطويق القوة المتنامية لإيران.

السبب الجوهري في ذلك يرتبط بجوهر الصراع وأبعاده العقائدية. فالثورة الإسلامية لم تكن مجرّد حدث داخلي، بل جاءت برسالة عالمية تسعى إلى نشر الفكر التوحيدي وتحرير الإنسان من هيمنة الأنظمة الطاغوتية والشيطانية. هنا يكمن سرّ العداء الأمريكي – الصهيوني لإيران: لأنّ مشروعها يحمل وعداً بتحطيم منظومة الاستكبار وكشف زيف ادعاءاته.

من هذا المنطلق، فإنّ ما سُمّي بـ”حرب الاثني عشر يوماً” ليس إلا استمراراً لصراعٍ طويل بدأ منذ اللحظة الأولى لتأسيس الجمهورية الإسلامية، كما عبّرت عن ذلك آرمیتا رضائي نجاد بصدقٍ، ابنة الشهيد العالم النووي داريوش رضائي نجاد. هذه الحرب ليست حدثاً عابراً محصوراً في أيام معدودة، بل هي مواجهة ممتدة بين جبهة التوحيد وجبهة الكفر، ومشهد من مشاهد الصراع الكوني ذي الطابع الأخروي.

في نهاية المطاف، فإنّ هذه الحرب بكل أشكالها ليست سوى تمهيد للوعد الإلهي الذي بشّرت به الكتب السماوية: هزيمة الاستكبار، وانتصار جبهة الحق، ووراثة الأرض على يد المستضعفين في التاريخ.[1]

 

 

[1] سورة القصص، الآیة 5

المشارکة

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *