من تحريف الوحي إلى اغتيال الرسل: دراسة في تاريخ عداوة اليهود لأنبياء الله

دراسة تاريخية في ضوء القرآن عن عداوة اليهود لأنبياء الله

دراسة تاريخية في ضوء القرآن عن عداوة اليهود لأنبياء الله

على مر العصور، أُرسل الأنبياء لنشر الهداية والنور بين البشر، إلا أنهم لم يلقوا دائمًا قبولًا و ترحيبًا. يُظهر القرآن الكريم والمصادر التاريخية أن بني إسرائيل كانوا قومًا اشتهروا بعداوتهم للأنبياء الإلهيين، فلم يكتفوا بتكذيب رسالتهم، بل لجأوا إلى تحريف الكتب السماوية وقتل بعض الأنبياء في محاولة التخلص من دعوتهم.

لقد اصطفی الله تعالى قوم بني إسرائيل ليكونوا قدوة ورسلاً للبشرية، و حظوا بشرف تلقي الوحي الإلهي. ولکن على الرغم من مكانتهم هذه، فإن التاريخ يشهد على عصيانهم المتكرر ومواجهتهم للأنبياء بالعداء والقسوة والقتل، كما ورد في القرآن الكريم والتوراة ومصادر تاريخية أخرى. ومن أبرز تلك المواقف، عداوتهم للسيد المسيح عيسى (عليه السلام)، وهي عداوة موثقة بوضوح في القرآن الكريم والسجلات التاريخية.

هناك مواقف مهمة أخرى توثق هذا العداء، ومنها قصص النبي يحيى، والنبي زكريا، وإرميا النبي، النبي داود، والنبي سليمان، وأشعياء النبي. كما أن حكايات معارضة بني إسرائيل للنبي موسى وإيذائهم له معروفة للجميع وقد تناولناها في مقالات أخرى. في هذا المقال، سنتناول دراسة الأسباب والدوافع الكامنة وراء هذه العدائية وسلوك بني إسرائيل تجاه أنبياء الله.

عداوة اليهود للسيد المسيح (عليه السلام)

كان عيسى عليه السلام أحد أنبياء الله العظام المبعوثين إلى بني إسرائيل، وقد بعث ليهدي قومه إلى الإيمان بالله الواحد القهار وإصلاح المجتمع. إلا أن دعوته هذه لقيت معارضة شديدة من قِبل قادة اليهود، كالكهنة والفرّيسيين، الذين رأوا في دعوته تهديدًا لمصالحهم الدينية والاجتماعية. فقد انتقد عيسى عليه السلام فساد الدين اليهودي وتشدد في دعوته إلى العودة إلى أصول الدين الصحيح، مما زاد من حدة المعارضة ضده.

يصف إنجيل متى الفريسيين والعلماء اليهود بأنهم منافقون يحرفون تعاليم الدين من لسان عيسى عليه السلام، فيقول: “فانهم يحزمون احمالا ثقيلة عسرة الحمل و يضعونها على اكتاف الناس و هم لا يريدون ان يحركوها باصبعهم.”[1] ولم يقتصر الأمر على تكذيب هؤلاء القادة اليهود ليسوع عليه السلام، بل سعوا أيضًا لقتله، وهو ما يشير إليه القرآن الكريم: “وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ… وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ…»[2] تشير هذه الآية إلى ادعاء اليهود بأنهم صلبوا المسيح، إلا أن الله أنقذه. وبحسب المصادر التاريخية والأناجيل، فإن قادة اليهود بدعم من الرومان اتهموا المسيح بالكفر والتجديف على الشريعة اليهودية. وقد أدت هذه الاتهامات إلى محاكمته أمام بيلاطس البنطي الحاكم الروماني.

عداوة اليهود للنبي زكريا عليه السلام

كان زكريا عليه السلام من أنبياء بني إسرائيل الأبرار، وأباً ليحيى عليه السلام. يذكره القرآن الكريم كرسول من رسل الله، داع إلى عبادة الخالق وإصلاح المجتمع. وقد وصفه القرآن بأنه رجل طاهر النفس، قوي الإيمان، وأب رؤوف، استجاب الله لدعائه فوهبه الولد الصالح _ يحيى _ بعد طول انتظار، كما ورد في قوله تعالى: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾[3]

بين صفحات التوراة، يظهر زكريا كزعيم ديني بارز من أنبياء بني إسرائيل. إلا أن تفاصيل استشهاده غائبة بشكل غامض في النصوص التوراتية واليهودية. بينما تشير الروايات الإسلامية والتاريخية إلى أن نهايته كانت على يد بني إسرائيل أنفسهم، وذلك بسبب مواقفه الشجاعة في مواجهة الانحرافات الدينية والاجتماعية المنتشرة في مجتمع بني إسرائيل. رغم أن القرآن الكريم لم يذكر استشهاده بصراحة ، إلا أن الروايات الإسلامية تتفق على أنه استُشهد على يد بني إسرائيل بسبب دفاعه عن الحق وإنتقاده القادة الدينيين لليهود وفضحه لفسادهم.

وفقًا للروايات التاريخية اليهودية والإسلامية، اغتيل النبي زكريا داخل أحد المعابد أو الأماكن العامة. على الرغم من وجود بعض الخلافات حول تفاصيل الحادثة، إلا أن الأدلة التاريخية تؤكد بلا شك العداء والبغضاء التي يكنها بني إسرائيل لهذا النبي العظيم.

عداوة اليهود للنبي يحيى عليه السلام

النبي يحيى (يوحنا المعمدان)[4] كان من أنبياء الله، وقد ظهر بين بني إسرائيل داعيًا إلى الإصلاح الديني والاجتماعي. واجه يحيى عداءً شديدًا بسبب صراحته في قول الحق ومعارضته للفساد، مما أدى في النهاية إلى استشهاده.

ولادة يحيى كانت معجزة إلهية ذكرت في الكتب السماوية للمسيحية والإسلام. يصف القرآن الكريم يحيى بأنه نبي عظيم حُبِي بالحكمة والعلم منذ صغره، ويشيد بفضائله ومناقبه كالعفة والطهارة، والبرّ واللطف مع والديه، والتقوى والزهد. هذه الصفات هي التي جعلته يستحق الشهادة إلى جانب نبوته، فجمع بين أفضل الصفات وأعلى المقامات.

لقد جاء في إنجيل لوقا (1:57-66) أنّ يحيى هو ابن زكريا و أليصابات (زوجة زكريا). كانت أليصابات عجوزة وعاقرة، ولكنها رُزقت بيحيى بفضل دعاء زكريا وإرادة الله. يشير القرآن الكريم إلى ولادة يحيى كآية من آيات الله الدالة على قدرته العظيمة.[5] وقد ورد ذكره في التوراة والإنجيل كنبيٍّ عظيم كان يدعو الناس إلى التوبة والعودة إلى الله. اشتهر يحيى بين قومه بزهده وتقواه وشجاعته، حيث جاء في الإنجيل: “وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية، قائلاً: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات.”[6] ويصفه القرآن بأنه كان عفيفًا رحيماً صادقًا.[7]

كان يحيى ينتقد فساد القادة الدينيين والاجتماعيين  في بني إسرائيل بشدة. وكان يتهم كهنة اليهود بالنفاق واستغلال الدين، ویطلب من الناس أن ينسقوا حياتهم مع التعاليم الإلهية. «فلما رأى كثيرين من الفريسيين والصدوقيين يأتون إلى معموديته، قال لهم: يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟»[8]

يروي الإنجيل قصة النبي يحيى الذي لقي حتفه بسبب انتقاده الشديد للملك هيرودس أنطيباس. فقد تزوج هيرودس من هيروديا زوجة أخيه، وهو ما اعتبره يحيى مخالفة صريحة لشريعة موسى.[9] دفعت هذه الانتقادات هيروديا إلى المطالبة بقتل يحيى. ورغم تردد هيرودس في البداية، إلا أنه استجاب لطلب ابنة هيروديا _سالومي_ في إحدى الحفلات، فأمر بقتل يحيى وتقديم رأسه في طبق.

أما القرآن الكريم، فلم يذكر قصة مقتل يحيى بشكل صريح، لكنه يشير في آيات متعددة إلى عداء بني إسرائيل لأنبيائهم وقتلهم: ﴿لَقَدْ أَخَذْنا ميثاقَ بَني‏ إِسْرائيلَ وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى‏ أَنْفُسُهُمْ فَريقاً كَذَّبُوا وَ فَريقاً يَقْتُلُونَ﴾[10].

يرى بعض المفسرين أن هذه الآية تشير إلى استشهاد يحيى وزكريا على يد بني إسرائيل. يدلّ استشهاد يحيى على عمق الفساد الذي ساد المجتمع اليهودي آنذاك، والذي أدّى في النهاية إلى دمار مجتمعهم وأرضهم. وقد اعتُبرت حياة يحيى واستشهاده في المسيحية والإسلام نموذجًا للمقاومة والصمود في وجه الفساد والظلم.

عداوة اليهود مع النبي إرميا حسب مصادر مختلفة

النبي إرميا (Jeremiah) له شخصية بارزة في تاريخ بني إسرائيل(عاش نحو 650 إلى 585 ق.م)، وقد أمضى حياته يدعو قومه للتوبة والرجوع إلى الله. ولد في أورشليم في القرن السابع قبل الميلاد، ونشأ في أسرة كهنوتية. وقد اختاره الله لنقل رسالته في ذروة شبابه، فكان صوته المدوي يحذر من غضب الله وعواقب المعاصي. وتُعتبر كتابات إرميا، الواردة في العهد القديم، مرجعًا أساسيًا لفهم تاريخ بني إسرائيل ودور الأنبياء في هدايتهم: « قَبلَ أَنْ أُصَوِّرَكَ في البَطنِ عَرَفتُكَ، وقَبلَ أَنْ تَخرُجَ مِنَ الرَّحِمِ قَدَّستُكَ، وجَعلتُكَ نَبيًّا لِلأُمَم.»[11]

كانت مهمة إرميا الأساسية تحذير بني إسرائيل من ذنوبهم، لاسيما عبادة الأوثان والظلم والفساد الديني والاجتماعي. وقد أكد أن هذه الأفعال ستحرم بني إسرائيل من بركات الله وتؤدي بهم إلى الهلاك. ومن أهم رسائل إرميا نبوءة بدمار أورشليم وبيت المقدس أو هيكل سليمان بسبب تجاهل بني إسرائيل لأوامر الله. وقد حذرهم من أن البابليين سيغزونهم إذا استمروا في ذنوبهم. «بَلْ إِنَّمَا أَوْصَيْتُهُمْ بِهذَا الأَمْرِ قَائِلًا: اسْمَعُوا صَوْتِي فَأَكُونَ لَكُمْ إِلهًا، وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي شَعْبًا، وَسِيرُوا فِي كُلِّ الطَّرِيقِ الَّذِي أُوصِيكُمْ بِهِ لِيُحْسَنَ إِلَيْكُمْ. فَلَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُمِيلُوا أُذْنَهُمْ، بَلْ سَارُوا فِي مَشُورَاتِ وَعِنَادِ قَلْبِهِمِ الشِّرِّيرِ»[12]. «لِذلِكَ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ لَمْ تَسْمَعُوا لِكَلاَمِي هأَنَذَا أُرْسِلُ فَآخُذُ كُلَّ عَشَائِرِ الشِّمَالِ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَإِلَى نَبُوخَذْرَاصَّرَ عَبْدِي مَلِكِ بَابِلَ، وَآتِي بِهِمْ عَلَى هذِهِ الأَرْضِ وَعَلَى كُلِّ سُكَّانِهَا وَعَلَى كُلِّ هذِهِ الشُّعُوبِ حَوَالَيْهَا، فَأُحَرِّمُهُمْ وَأَجْعَلُهُمْ دَهَشًا وَصَفِيرًا وَخِرَبًا أَبَدِيَّةً.»[13]

لقي النبي إرميا معارضة شديدة ومضايقات لا حصر لها بسبب رسائله الصريحة وتحذيراته القوية. فقد رأى قادة الشعب وعامته في كلامه تهديدًا للاستقرار السياسي والاجتماعي، فتعرض للاضطهاد والتنكيل. واتهمه قادة اليهود بالتجديف والخيانة، وحبسوه في السجن .[14]وكاد أن يقتل مرات عديدة.

أما نبوءته بشأن تدمير أورشليم وهيكل سليمان، فقد تحققت في عام 586 قبل الميلاد، عندما هجم نبوخذ نصر، ملك بابل، على أورشليم ودمرها بالكامل، وتم نفي عدد كبير من بني إسرائيل إلى بابل.

عداوة اليهود للنبي إرميا وفقًا لروايات التلمود

يُعتبر النبي إرميا في التلمود، كنبي لعب دورًا كبيرًا في هداية بني إسرائيل. وتعتبره بعض المصادر اليهودية مدافعًا عن العدالة والحقيقة، لكنها تقر بأنه أصبح مغضوب كبار القوم بسبب صدقه وصراحته.

عداوة اليهود للنبي إرميا وفقًا للمصادر الإسلامية

لم يُذكر اسم إرميا صراحةً في القرآن الكريم، لكن بعض المفسرين المسلمين يرون أن الإشارات القرآنية إلى أنبياء بني إسرائيل تشمل النبي إرميا أيضًا. خاصةً في الآيات التي تتحدث عن تكذيب وقتل الأنبياء من قبل اليهود، يُعتبر إرميا أحد الأنبياء المقصودين، مثل قوله تعالى: “وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنبِیَآءَ بِغَیرِ حَقٍّ”.[15]

عداوة اليهود للنبي إشعياء

يُعتبر النبي إشعياء أحد أنبياء بني إسرائيل الذين ورد ذكر استشهادهم في نصوص متعددة. تشير العديد من المصادر التاريخية اليهودية والإسلامية إلى أن النبي إشعياء قُتل بسبب رسائله الإصلاحية وانتقاداته للفساد الاجتماعي والديني. وتذكر المصادر اليهودية أن إشعياء قُتل في زمن حكم الملك منسى.

عداوة اليهود للنبي داود والنبي سليمان

تشير النصوص الإسلامية واليهودية إلى أن النبي داود والنبي سليمان واجها أعداء  من اليهود سعوا لمنعهما من الوصول إلى السلطة أو تنفيذ الأوامر الإلهية. وعلى الرغم من أن هذين النبيين لم يُقتلا، إلا أن عداوة بعض الفئات لهما تُذكر في بعض المصادر التاريخية، مما يعكس مقاومة الفساد لقيم الحق والعدالة التي مثّلوها.

عداوة اليهود حتى لجبريل عليه السلام

يعتبر جبرئيل عليه السلام من أقدس الملائكة في الديانات الإبراهيمية، حيث يُعَدّ رسول السماء إلى الأرض وحامل الوحي الإلهي. يذكره القرآن[16] والتوراة[17] والإنجيل المسؤول عن إيصال الرسالات السماوية إلى الأنبياء.  على الرغم من ذلك، في النصوص التلمودية وغيرها من النصوص اليهودية المتأخرة، يقل ذكر دور جبريل في نقل الوحي إلى الأنبياء و القرآن الكريم يشير صراحة إلى عداوة اليهود لجبرئيل: ﴿قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْريلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى‏ لِلْمُؤْمِنينَ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْريلَ وَ ميكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرينَ﴾[18]

وفق بعض الروايات الإسلامية، قال يهود المدينة(مثل بني النضير وبني قريظة) للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن جبريل هو عدونا، لأن:

  1. جبريل هو مَلَك العقاب والعذاب لا الرحمة: زعموا أن ميكائيل هو ملك الرحمة والمطر وهم يحبونه، بينما يرون جبريل عدواً لهم. واعتقد بعض اليهود أن جبريل هو الملاك الذي يجلب عذاب الله على القوم الفاسقين: فقد اعتبروه مسؤولاً عن العقاب الذي حلّ ببني إسرائيل مثل تدمير الهيكل على يد البابليين.
  2. . عندما جاء جبريل عليه السلام ليبلغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرسالة الإلهية، كان اليهود يترقبون أن يكون النبي الخاتم من بني إسرائيل. وخاصة علماء اليهود في المدينة، كانوا يعتقدون أن النبي الأخير سيكون من نسل يعقوب عليه السلام. فلما رأوا أن النبي الجديد من نسل إسماعيل، أي من العرب، رفضوا الإيمان به، واتخذوا أعذارًا كثيرة لمعارضته، ومنها ادعاؤهم العداوة لجبرئيل. وكان جبرئيل في الإسلام وسيط الوحي الإلهي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يقبل اليهود هذا الدور لجبرئيل واتخذوه حجة لإنكار نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

عواقب عداء بني إسرائيل لجبرئيل عليه السلام

أ. انکار الوحي الالهي

كان عداء اليهود لجبرئيل امتداداً لمعارضتهم الشاملة للأنبياء، وهو أمر أدانه القرآن الكريم مراراً وتكراراً: ﴿أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى‏ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَريقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَريقاً تَقْتُلُونَ﴾[19]

ب. استمرار الحقد التاريخي

إن عداوة بني إسرائيل لجبرئيل عليه السلام ما هي إلا تجسيد حيّ لحسدٍ أعمى ولجاجةٍ عنيدة، ورفضٍ صارخٍ للحقيقة الإلهية التي لا تقبل الجدل، والتي أدت بهم إلى الضلال والانحراف عبر الأزمان.

نهج بني إسرائيل في عداء الأنبياء

ما ذكرناه في هذا الجزء من المقال حول عداء اليهود للأنبياء، لم يعتمد سوى على الروايات المشتركة بين اليهود والمسلمين. ولكننا نجد في النصوص والأحاديث الإسلامية تفاصيل أعمق وأوسع لهذا العداء. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “يا أبا عبيدة، إن بني إسرائيل قتلوا في يوم واحد 43 نبياً، ثم قام منهم مائة واثنا عشر داعية الأمر بمعروف، فقتلوهم أيضاً في آخر ذلك اليوم”.[20] وفي رواية أخرى عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ بِمَاءٍ لَهُ فَبَلَغَهُ أَنَّ الْحُسَيْنَ عليه السلام قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الْعِرَاقِ فَجَاءَ إِلَيْهِ وَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالطَّاعَةِ وَ الِانْقِيَادِ وَ حَذَّرَهُ مِنْ مُشَاقَقَةِ أَهْلِ الْعِنَادِ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ أَنَّ رَأْسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عليه السلام أُهْدِيَ إِلَى بَغِيٍّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَ مَا تَعْلَمُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَقْتُلُونَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ سَبْعِينَ نَبِيّاً ثُمَّ يَبِيعُونَ وَ يَشْتَرُونَ كَأَنْ لَمْ يَصْنَعُوا شَيْئا”[21]

ووفقاً لهذه الروايات والآيات الكثيرة في القرآن الكريم التي أشرنا إليها، فإن بني إسرائيل كانوا يقتلون الأنبياء ظلماً وبهتاناً، حتى أصبح ذلك عادة لهم. وسنتناول في الجزء القادم أسباب هذا العداء.

أسباب ونتائج عداوة اليهود للأنبياء الإلهيين

إن أحد الأسباب الرئيسية لعداوة اليهود للأنبياء هو حرصهم على الحفاظ على مصالحهم الدنيوية والسياسية. فقد واجه العديد من أنبياء الله عبر العصور الفساد الاجتماعي والديني والسياسي المنتشر بين بني إسرائيل، ودعوا إلى إصلاحات تهدف إلى استعادة قيم العدل والطهارة. كانت هذه الإصلاحات تُعد تهديدًا لسلطة القادة وعلماء اليهود الذين خشوا فقدان نفوذهم ومصالحهم، وغالباً لأجل المصالح الدنيوية والخوف من التغييرات الجذرية التي قد تؤثر على النظام السياسي والاجتماعي. كما أن الشعبية الكبيرة التي حظي بها الأنبياء بين عامة الناس كانت تهدد مكانة القادة، وبعض كبار اليهود كانوا يحسدون مقام ومكانة الأنبياء.

تمثل حكايات الأنبياء عليهم السلام وتفاعلهم مع بني إسرائيل صراعاً أزلياً بين الحق والباطل. إن عداوة اليهود للأنبياء والملائكة وتحريفهم للتوراة نابعة في الأساس من سعي الأنبياء لإصلاح المجتمع وإصلاح العقائد، الأمر الذي كان يهدد مصالح القادة اليهود الدينية والسياسية. إن تعني بني إسرائيل في قبول ربوبية الله كان وراء كل هذه الأحقاد والأضغان. فقد اعتبروا أنفسهم قومًا مختارًا، لكنهم لم يفهموا معنى الاختيار الإلهي، فحوّلوه من أمانة إلى وسيلة لتحقيق مصالحهم الدنيوية، متناسين معنى الأمانة وهو الغاية من الخلق والتي تتمثل في بناء حضارة إلهية على الأرض.

امتد هذا المنظور والتصور تجاه الأنبياء، إلى سلوك بني إسرائيل، فحرفهم عن مسار التاريخ الصحيح وحولوهم إلى أدوات في يد الشيطان. فالشيطان لا يستطيع أن يتسلل إلى قلب الإنسان والأمة إلا من خلال وسائط مثل الحقد والجهل والعناد. وقد أثبت تاريخ بني إسرائيل وسلوكهم تجاه الأنبياء وجود هذه الوسائط لديهم، ولم يبدوا أي رغبة في التخلص منها، بل سعوا دائماً إلى تحريف دين الله لصالحهم. وقد نشأت هذه العداوات بسبب عوامل عدة مثل الغرور القومي، والفساد الاجتماعي، والخوف من التغيير. كما أن تحريف التوراة، وهو أحد الاتهامات الموجهة إلى اليهود، قد صعب عملية الهداية للأجيال اللاحقة. ومع ذلك، لا يجب تعميم هذا السلوك على جميع اليهود. إن دراسة هذه السلوكيات تمدنا بدرس قيم، وهو أهمية القبول للهداية والابتعاد عن التعصب والمقاومة للحقيقة.

 

[1] . مت 23: 4

[2] سورة النساء، الآیة 157

[3] سورة مریم، الآیة 7

[4] John the Baptist

[5] . سورة مريم، الآية 5

[6] انجیل متی  1: 2-3

[7] سورة مریم، آیه 12

[8] انجيل متى 3:7

[9] انجیل متی:  3: 12-14

[10] . سورة المائدة : 70

[11] سفر إرميا 1 :5

[12] سفر إرميا 7: 23-24

[13] سفر إرميا 25 : 8-9

[14] ارمیا 37:15

[15] البقرة 61

[16] . البقرة: 97: ﴿قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْريلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى‏ لِلْمُؤْمِنينَ﴾

[17] . سفر دانيال 8:16:  وسمعت صوت إنسان بين أولاي، فنادى وقال: يا جبرائيل، فهّم هذا الرجل الرؤيا.

[18]البقرة : 98-97

[19] البقرة : 87

[20] . الطبرسي، فضل بن حسن، مجمع البیان في تفسیر القرآن، مقدمة، البلاغي‏، محمد جواد، ج ‏2، ص 720، طهران، ناصر خسرو، الطبعة الثالثة، 1413ه.

[21] . ابن نما حلى، جعفر بن محمد، مثير الأحزان، مدرسة الامام المهدي – ايران ؛ قم، الطبعة الثالثة: 1406 ه.

المشارکة

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *