دراسة جذور تاريخ قوم اليهود منذ زمن إبراهيم(عليه السلام) حتى العصر الحاضر
طبقًا للكتاب المقدس العبري،[1] يُنسب أصل بني إسرائيل إلى النبي إبراهيم (عليه السلام). فقد رزق الله عز وجل النبي إبراهيم (عليه السلام) بابنين: إسماعيل (عليه السلام) من هاجر، وإسحاق (عليه السلام) من سارة. كان لإسحاق (عليه السلام) ابن اسمه يعقوب، الذي أُطلق عليه لقب “إسرائيل”، وهو اسم عبري يعني “المختار” أو “عبد الله”. أنجب يعقوب (عليه السلام) اثني عشر ابنًا، عُرفوا بـ”بني إسرائيل” نسبة إلى لقب والدهم.
هناك اختلاف في الآراء حول أصل كلمة “يهود”. سُمّي اليهود بهذا الاسم إما نسبةً إلى عبادتهم للإله “يهوه” في اعتقاد البعض[2]، أو إلى “الهَوْد” بمعنى التوبة والرجوع إلى الله كما في قول موسى عليه السلام “إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ”.[3] بينما يعتقد آخرون أن كلمة “يهود” مأخوذة من اسم الابن الرابع ليعقوب، وهو “يهوذا”(بالعبرية: יהודה يهودة)، ويؤمنون أنه بما أن غالبية نسل يعقوب(عليه السلام) كانوا من أبناء يهوذا، فإن أبناء باقي أبناء يعقوب أيضًا يُسمون يهوذا.[4] في أواخر حياة النبي يعقوب(عليه السلام)، كان يهوذا هو زعيم أكبر قبيلة من قبائل بني إسرائيل، وكانت قبيلته تُعتبر أهم قوة سياسية في بني إسرائيل. في الأساطير اليهودية التي كان لها دور كبير في تطوير ثقافة ونفسية قوم اليهود، يُعتبر يهوذا أذكى وأبرز أبناء يعقوب، وتُقدم شخصيته كنموذج مقبول لبني إسرائيل.[5]
لكن الحقيقة هي أن يهوذا لم يكن ذكيًا، بل كان شخصًا مخادعًا. في حادثة مؤامرة إخوته ضد يوسف (عليه السلام) وإلقائه في البئر، كان يهوذا هو الذي تولى الدور الرئيسي للخطة التي قاموا بها.
وفقًا لآيات القرآن، كان الحسد والرغبة في التفوق هما الدافعان الرئيسيان لإخوة يوسف (عليه السلام) لاتخاذ قرار بإبعاده عن أبيهم، وإلقائه في البئر، “إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ”.[6] على الرغم من أن القرآن لم يذكر يهوذا بشكل مباشر، إلا أنه بناءً على التوراة، ورغم الدور الكبير الذي لعبه في خداع والده وإلقاء يوسف في البئر، فقد ألقى اللوم على إخوته الآخرين بظهوره كالأخ المحب والحنون، وفي النهاية فقد أصبح بفضل هذه الحيل خليفة ليوسف (عليه السلام) وحاكما لبني إسرائيل مع أنه لم يكن الابن البكر ليعقوب، إلا أنه تميز على إخوته[7] وبرز كقائد في شؤون العائلة المتعددة. قد استمر هذا الاتجاه في المجتمع اليهودي، وبالتالي تعرضوا لأشد الانتقادات في التوراة.
العنصرية في قوم اليهود
يتبنى بعض اليهود فكرة مفادها أنهم شعبٌ مختارٌ، وأنهم يمثلون حالةً فريدةً متميزةً عن بقية الأمم. يعتقدون أن الله اصطفاهم ومنحهم مكانةً خاصةً، وأن خطاياهم مهما عظمت لا تُسقطهم من عين الله. هذه النظرة، التي تتسم بنوع من الغلوّ والتعصب، تُفضي إلى شعور بالتفوق العرقي، وهو ما يُعرف بـ “العنصرية”. نتيجةً لهذا الشعور بالتفوق، يمتنع هؤلاء عن التبشير بديانتهم بين الأمم الأخرى. يعتبرون اليهودية ديانةً خاصةً بهم، ويكاد يكون من المستحيل على غير اليهودي الانتساب إليها بشكل كامل، حتى لو اعتنقها ظاهرياً.
في هذا السياق، يبرز اسم يهوذا اللاوي (أبو الحسن يهوذا بن سموئيل اللاوي-نحو 1075 – 1141م) ، الفيلسوف والطبيب والشاعر اليهودي الأندلسي في القرن الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين. في كتابه الفلسفي الشهير “الخَزَري؛ كتاب الرد والدليل في الدين الذليل”، يطرح اللاوي فكرة وجود “جوهر روحي” فريد يختص به الشعب اليهودي، يميزهم عن سائر الأمم. يزعم أن كل يهودي يرث “استعداداً نبوياً كامناً”، وهي هبة إلهية تمكنه من فهم إرادة الله. ونتيجة لذلك، حتى لو تهوّد شخصٌ من غير اليهود، فإنه لن يستطيع الوصول إلى هذه القدرة الروحية المتأصلة بشكل كامل، لأن هذا ” الـDNA الروحي”، المزعوم الموجود في عرق اليهود، غير موجود في طبيعته.
تؤكد الدكتورة رونيت لينتين،[8] الباحثة الإسرائيلية – الأيرلندية في علم الاجتماع، في كتابها القيم “حياة الفلسطينيين مسألة جوهرية”،[9] أن الصهيونية قد صوّرت اليهود على أنهم “عرق أرقى”، وذلك وفقًا لأيديولوجياتٍ صهيونية معينة. وقد تم ترسيخ هذا المفهوم في مشروع الدولة الإسرائيلية من خلال نظريات عن “النقاء العرقي”. استندت هذه الأيديولوجيا إلى فكرة تأسيس دولة يهودية خالصة، وهو ما تجسد في قانون العودة الإسرائيلي الذي يمنح حق الهجرة إلى إسرائيل لأي شخص لديه صلة يهودية، بغض النظر عن مدى قوته، أو حتى عن اعتناقه الديانة اليهودية. ورغم أن التحول إلى الديانة اليهودية ممكن نظريًا، إلا أن الإجراءات المعقدة والشروط الصارمة تجعل من هذا التحول أمرًا صعبًا، مما يحد من عدد المتحولين إلى اليهودية. [10]
لمعالجة تحدي دمج الأشخاص غير اليهود في المشروع الصهيوني وتوطينهم في الأرض الموعودة، تم استخدام بعض الأفكار القبالية لتسهيل تغيير الدين. اعتقد بعض القباليين أن المتحولين الجدد من غير اليهود يمتلكون بالفعل روحًا يهودية ربما ضاعت بسبب تعميد أحد أجدادهم قسرًا بين غير اليهود! كانوا يرون أن تحول الشخص إلى اليهودية هو عودة إلى أصله الحقيقي، وكانوا يؤمنون بأن الجوهر اليهودي الكامن يعيدهم إلى اليهودية.[11] وبهذا التبرير، عملوا على تهيئة الظروف لهجرة أولئك الذين ينضمون إلى اليهودية.
الفرق بين اليهود وبني إسرائيل ونظرة القرآن إلى اليهود
إذا قمنا بمراجعة آيات القرآن بعناية، نلاحظ أن القرآن يميز بين اليهود وبني إسرائيل. فإن نظرة القرآن تجاه اليهود سلبية، بينما يرى أن بني إسرائيل هم قوم مثل باقي الأمم، يتمتعون بصفات إيجابية وسلبية على حد سواء. فيما يتعلق بالفرق بين اليهود وبني إسرائيل، يمكن القول إن اليهود هم بني إسرائيل نفسهم، ولكنهم أولئك الذين انحرفوا عن الطريق. كان بني إسرائيل يتكونون من اثني عشر قبيلة من نسل النبي يعقوب، وكانوا جميعًا من ذرية الأنبياء. خلال الحروب المختلفة، تم القضاء على إحدى عشرة قبيلة منهم، وبقيت قبيلة واحدة فقط. هذه القبيلة انحرفت عن الدين وبدأت في معاداة الأنبياء الإلهيين ورفضهم، ومن ثم ابتعدوا عن رحمة الله.
تشير كلمة “اليهود” في القرآن الكريم إلى مفهوم جديد نشأ في القرون الأولى من الميلاد على يد اليهود. من الأمثلة الواضحة على ذلك هي المراكز اليهودية في زمن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي كانت تقع بشكل رئيسي في بلاد ما بين النهرين وشبه الجزيرة العربية، وكانت تمارس المعاملات المالية القائمة على الربا؛ وهو عمل يدينه القرآن بشدة.
كان بين من اعتنقوا شريعة موسى (عليه السلام) تنوع كبير في النفوس والنيات. فمنهم من آمن بصدق، وظل مخلصًا لإيمانه حتى بعد وفاة موسى (عليه السلام). وفي المقابل، كان بينهم أفراد تمردوا على أوامر الله، وقتلوا العديد من أنبيائهم. يُعرف هؤلاء في القرآن الكريم بالمتمردين المعتدين. وعندما يُذكر اليهود في القرآن، فإن المقصود هم نفس قوم بني إسرائيل الذين انحرفوا عن الطريق. باختصار، يرى القرآن أن اليهود هم فرقة منحرفة من قوم موسى (عليه السلام).
يصف القرآن الكريم اليهود بأنهم قوم جحدوا نعم الله، وفضلوا الضلالة على الهدى، وتخلوا عن تعاليم الأنبياء إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام). وقد أشار القرآن إلى أن قلة قلي منهم فقط ستؤمن.
أما بالنسبة لأصل كلمة “يهودي”، فقد قيل أن هذا المصطلح أصبح شائعًا بعد فترة نفي بعض كبار بني إسرائيل إلى بابل (598-539 قبل الميلاد)، لأن المنفيين كانوا من قبيلة يهوذا.[12] كما قيل إنه من أصل التوبة، والرجوع نسبة إلى قول موسى عليه السلام لربه: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ[13]. مع هذه المقدمة، سنتناول تاريخ اليهود والأحداث التي مروا بها منذ البداية وحتى اليوم.
تاريخ قوم اليهود
يُعَدُّ النبي إبراهيم (عليه السلام) الشخصية المركزية في تاريخ بني إسرائيل، حيث يُنسب إليه تأسيس هذا الشعب. وفقًا للتوراة، كان إبراهيم (عليه السلام) أول نبي يتواصل معه الله مباشرةً، ويعقد معه عهداً مقدساً. يُعتبر وعد “يهوه” لإبراهيم (عليه السلام) بإنشاء أمة عظيمة من نسله، بدايةً لوجود بني إسرائيل. ومع ذلك، في زمن إبراهيم (عليه السلام)، لم يكن الإسرائيليون قد تشكلوا بعد، ولم يكن اسم “إسرائيل” قد ذُكر؛ بل كان الوعد بتكوينهم قد طُرح فقط من قبل الله.
إن القوم الذين يُطلق عليهم التوراة لقب “بني إسرائيل” كانوا قبائل صغيرة ومجهولة لا يتمتعون بأي مكانة تاريخية أو حضارية متميزة. لولا أن ديانتهم أصبحت الأساس الذي قامت عليه ديانتان عالميتان كبيرتان، المسيحية والإسلام، لربما لم يكن لتاريخهم هذا الاهتمام الحالي. كما أن ندرة المعالم الواضحة لتلك القبائل تجعل من الصعب العثور على أدلة تاريخية موثوقة عن ماضيهم، مما يضطرنا إلى الاعتماد بشكل رئيسي على الروايات المذكورة في الكتاب المقدس اليهودي. مع ذلك، فإن القيمة التاريخية لهذا المصدر محدودة. لذلك، لاكتشاف التاريخ الحقيقي لليهود،[14] يجب تحليل الإشارات والرموز الواردة في هذا الكتاب، ومقارنتها بالآثار المتناثرة المرتبطة بالحضارات الأخرى، لإعادة بناء صورة أكثر دقة وشمولية لماضيهم.[15]
هجرة اليهود إلى أرض كنعان وأسباب خروجهم منها
قبل نحو أربعة آلاف سنة، هاجر النبي إبراهيم(عليه السلام) مع عائلته وقومه إلى أرض كنعان، التي تشكل فلسطين اليوم جزءًا منها، فعاشوا هناك حوالي أربعمئة عام إلى جانب باقي الأمم، وتمتعوا خلال هذه الفترة بحياة هادئة نسبيًا، إلى أن حلّت بها مجاعة وجفاف شديد. في تلك الفترة، قرر العديد من هؤلاء القوم مغادرة كنعان والهجرة إلى مصر.
في تلك الحقبة، كانت مصر حضارة مزدهرة، حيث تولى يوسف(عليه السلام)، أحد أبناء بني إسرائيل، منصبًا رفيعًا في الحكومة المصرية. بعد أن ألقاه إخوته في الجب، أنقذته قافلة مارة وباعته كعبد في مصر. رغم الصعوبات التي واجهها، ارتقى يوسف إلى مكانة مرموقة، مما أتاح لبني إسرائيل فرصة الاستقرار والازدهار في مصر. كانت حياة المهاجرين الأوائل من بني إسرائيل في مصر مزدهرة للغاية، لكن الأوضاع تغيرت في الأجيال اللاحقة، حيث أصبحت الحياة غير محتملة بالنسبة لهم. وصل التغيير في السياسات إلى حد أن بني إسرائيل أصبحوا يُستعبَدون في مصر. يعتقد البعض أن وفاة أخناتون، الذي كان يتسم بروح التسامح، وظهور فرعون جديد مستبد، كان لهما دور في تدهور أوضاع بني إسرائيل. هناك أدلة تشير إلى أن فترة الاضطهاد التي تعرض لها بني إسرائيل من قبل المصريين، والتي أدت إلى ثورتهم وخروجهم من مصر، حدثت في أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد، ومن المحتمل أن ذلك كان في فترة حكم رمسيس الثاني.
ظهور النبي موسى(عليه السلام) ونجاة اليهود من ظلم فرعون
في الفترة التي كان فيها بنو إسرائيل يعانون من ظلم فرعون واستبداده، ظهر مخلّصهم النبي موسى (عليه السلام)، مما أحدث تحولًا جذريًا في تاريخهم، حيث يُقسّم إلى ما قبل بعثته وما بعدها.
بعد أن اصطفاه الله نبيًا، توجه موسى مع أخيه هارون إلى فرعون، مطالبين بتحرير بني إسرائيل. ورغم المعجزات التي أظهرها موسى، رفض فرعون الإيمان واستمر في اضطهاد بني إسرائيل. عندها أمر الله موسى بقيادة قومه للخروج من مصر ليلًا، فلحقهم فرعون وجنوده حتى بلغوا البحر. بأمر من الله، ضرب موسى بعصاه البحر فانشق ليجتازه بنو إسرائيل، ثم انهمر ليغرق فرعون وجنوده.
بعد هلاك فرعون، وأثناء توجه بني إسرائيل نحو الأرض المقدسة الموعودة، واجهوا قومًا ذوي بأس شديد. لكنهم رفضوا القتال، قائلين لموسى(عليه السلام):” فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ”.[16] بناءً على هذا العصيان، حرم الله عليهم دخول الأرض الموعودة لمدة أربعين سنة، وفرض عليهم الترحال في الصحراء، حيث قضوا معظم تلك الفترة في صحراء سيناء.
بعد إنقاذ بني إسرائيل من مصر على يد موسى(عليه السلام)، استمروا في جحودهم وتبريراتهم: “وقالوا لموسى: “هَلْ لأَنَّهُ لَيْسَتْ قُبُورٌ فِي مِصْرَ أَخَذْتَنَا لِنَمُوتَ فِي الْبَرِّيَّةِ؟ مَاذَا صَنَعْتَ بِنَا حَتَّى أَخْرَجْتَنَا مِنْ مِصْر؟َ” [17] وفي موضع آخر، خاطبوا موسى و هارون قائلين: “لَيْتَنَا مُتْنَا بِيَدِ الرَّبِّ فِي أَرْضِ مِصْرَ، إِذْ كُنَّا جَالِسِينَ عِنْدَ قُدُورِ اللَّحْمِ نَأْكُلُ خُبْزًا لِلشَّبَعِ. فَإِنَّكُمَا أَخْرَجْتُمَانَا إِلَى هذَا الْقَفْرِ لِكَيْ تُمِيتَا كُلَّ هذَا الْجُمْهُورِ بِالْجُوعِ”. [18]
حدثت إحدى أهمّ حالات العصيان لبني إسرائيل بعد مضي وقت قليل بعد خروجهم المعجزي من مصر. عندما ذهب موسى(عليه السلام) إلى جبل سيناء لتلقي الأوامر الإلهية، عاد بنو إسرائيل إلى عاداتهم السيئة وهي عبادة الأصنام، فصنعوا عجلًا من الذهب وبدؤوا في عبادته. عندما عاد موسى (عليه السلام) ورأى ما حدث، ألقى الألواح التي نزلت عليه في طور سيناء من شدة غضبه، فحطّمها: “وَكَانَ عِنْدَمَا اقْتَرَبَ إِلَى الْمَحَلَّةِ أَنَّهُ أَبْصَرَ الْعِجْلَ وَالرَّقْصَ، فَحَمِيَ غَضَبُ مُوسَى، وَطَرَحَ اللَّوْحَيْنِ مِنْ يَدَيْهِ وَكَسَّرَهُمَا فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ. ثُمَّ أَخَذَ الْعِجْلَ الَّذِي صَنَعُوا وَأَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، وَطَحَنَهُ حَتَّى صَارَ نَاعِمًا، وَذَرَّاهُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَسَقَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. ” [19]
كان بني إسرائيل بشكل عام شعبًا عنيدًا ومتحججًا، وكانت هذه السمة متجذرة في أجدادهم وقد ورثتها الأجيال اللاحقة. إذا مالوا إلى أمر ما، بذلوا قصارى جهدهم لتحقيقه، وإذا كرهوا شيئًا، أغلقوا جميع السبل لإبعاده عنهم. إن التبريرات والمجادلات غير المناسبة لبني إسرائيل، التي وردت بالتفصيل في العديد من آيات القرآن، أصبحت بمثابة مثل يُضرب عن “مناقشات بني إسرائيل”!
العودة إلى أرض كنعان؛ بداية العصر الذهبي ثم انحداره
بعد وفاة النبي موسى(عليه السلام)، قرّر بنو إسرائيل العودة إلى أرض كنعان، وعند دخولهم إلى هذه الأرض بقيادة يوشع، بدأوا في إقامة استقرارهم وتشكيل حكومتهم فيها. تعرف هذه الفترة، التي تمتد من دخول بني إسرائيل إلى كنعان وحتى تأسيس الحكومة المركزية، بفترة “عصر القضاة”. في هذا عصر كان بنو إسرائيل يفتقرون إلى حكومة مركزية قوية، وكانت الأمة تُدار من قبل أفراد خاصين يُسمّون “القضاة”. لم يكن القضاة يتعاملون فقط مع القضايا القانونية والشرعية، بل كانوا يعملون أيضًا كقادة عسكريين وسياسيين، وكانوا يحاربون عبادة الأصنام ويدعون الناس لعبادة يهوه.[20] يحتوي كتاب القضاة في العهد القديم على روايات مفصلة عن هؤلاء القضاة وأعمالهم والدورات المتكررة لعصيان بني إسرائيل ثم توبتهم وعودتهم إلى الله. [21]
بعد عصر القضاة، قرر بنو إسرائيل إقامة حكومة مركزية. حوالي ألف سنة قبل الميلاد، تم تعيين طالوت (شاول) كأول ملك لبني إسرائيل. وبعد طالوت، وصل داود النبي (عليه السلام) إلى الملك، ففتح مدينة القدس واتخذها عاصمة له. بعد داود، تولى الملك ابنه النبي سليمان (عليه السلام)، الذي قام ببناء معبد في القدس الذي عُرف بهيكل سليمان. الجدير بالذكر أن اليهود لا يعترفون بداود وسليمان (عليهم السلام) كأنبياء، بل يعتبرونهم أول ملوكهم ورموزًا للقوة والعظمة اليهودية.
عندما وصل داود (عليه السلام) إلى الملك حوالي عام 1012 إلى 972 قبل الميلاد، بدأ العصر الذهبي لبني إسرائيل، إذ قام داود بتوحيد القبائل بسرعة، ومن خلال انتصاراته العسكرية البارزة، وسّع مملكته من فينيقيا في الغرب إلى صحراء جزيرة العرب في الشرق، ومن نهر العاصي في الشمال إلى رأس خليج العقبة في الجنوب.
بعد وفاة داود وسليمان (عليهم السلام)، تولى الملك رحبعام ابن سليمان. في تلك الفترة، وبسبب الاستياء الاقتصادي والاجتماعي، تم تقسيم الحكومة المركزية إلى أراضٍ منفصلة:
- حكومة إسرائيل التي كانت عاصمتها مدينة شكيم، وكانت مملكة يربعام في الشمال التي تضم عشرة من قبائل بني إسرائيل الاثني عشر.
- حكومة يهوذا التي كانت عاصمتها مدينة أورشليم، وكانت مملكة رحبعام ابن سليمان في الجنوب التي تضم قبيلتين من القبائل الاثني عشر.
هذا التقسيم أضعف قوة ونفوذ اليهود [22] وجعلهم عرضة للهجمات من الحكومات الأخرى.[23] بعد استقلال هذين الجزءين، استمر النزاع السياسي والحروب الدموية بينهما لفترات طويلة.
الغزو البابلي وحقائق عن المنفى البابلي
يُعد هجوم البابليين أحد الفصول الهامة في تاريخ اليهود. تبدأ القصة بأن الآشوريين، بعد احتلالهم لأرض إسرائيل في الشمال، هجموا أيضاً على أرض يهوذا في الجنوب واحتلوها. وبعد انقراض الدولة الآشورية، وفي خضم الحرب بين مصر ودولة يهوذا، تم احتلال هذه الأرض من قبل المصريين، ولكن خلال الحرب بين مصر وبابل في عام 605 قبل الميلاد، وبسبب هزيمة المصريين، أصبحت دولة يهوذا تحت سيطرة بابل. وبعد عدة ثورات فاشلة في يهوذا ضد حكم بابل، شن الملك البابلي نبوخذ نصر في عام 586 قبل الميلاد هجوماً على أرض يهوذا، ففتح القدس وأسر عدداً من اليهود، وتم تدمير معبد سليمان. تربط الكتب المقدسة تدمير القدس ومعبدها، وحتى أسر قوم يهوذا، مباشرةً بملوك يهوذا الذين “فعلوا ما كان شرًا في نظر الله”. [24]
يدعي اليهود أنهم تعرضوا لصعوبات شديدة أثناء فترة السبي إلى بابل؛ لكن لم ينقل التاريخ أنهم عانوا في بابل من أي صعوبات أو مشقة، بل على العكس، تمكنوا بسرعة من تحسين وضعهم الاقتصادي والاجتماعي من خلال استحواذهم على جزء من الأراضي الخصبة في المنطقة.[25] أظهرت الاكتشافات الأثرية واكتشاف أرشيفات بابل القديمة في الوقت الحاضر، أن هؤلاء المنفيين لم يكونوا أسرى أبدًا، بل عاشوا حياة مرفهة وفاخرة في بابل. كانت حياة ملك اليهود في بابل ومكانته الرفيعة في بلاط بخت النصر على درجة من الفخامة لدرجة أن بعض الباحثين يعتقدون أنه لم يتم إحضاره إلى المنفى بالإجبار، بل اختار حياة الرفاهية في بابل طوعًا هربًا من الأزمات التي كانت تواجهه في وطنه.
حوالي خمسين عامًا بعد ذلك، في عام 538 قبل الميلاد، هاجم كورش الكبير، ملك إيران، بلاد بابل، وبعد فتح هذه الأرض أصدر مرسومًا يقضي بحرية اليهود. بعد فتح بابل، سمح لليهود بالعودة إلى فلسطين وإعادة بناء معبد سليمان الذي دُمر أثناء حملة بخت النصر.
الغزو الروماني وهجرة اليهود إلى المجتمعات الأوروبية
في عام 63 قبل الميلاد، خضعت أرض إسرائيل، التي كانت تُعرف آنذاك باسم يهوذا، لحكم الرومان بعد مرورها بفترات حكم الفرس واليونانيين والمصريين وغيرهم. وفي عام 66 ميلادي، اندلعت ثورة كبرى من قِبل اليهود ضد السيطرة الرومانية، واستمرت حتى عام 73 ميلادي، مما أدى في النهاية إلى سقوط أورشليم وتدمير الهيكل الثاني لليهود في عام 70 ميلادي.
يزعم اليهود أنهم نُفوا إلى الإمبراطورية الرومانية بعد تدمير الهيكل الثاني، لكن الحقيقة أن الرومان لم ينفوا أيًا من شعوب منطقة البحر المتوسط الشرقية. فقد استمر سكان يهوذا في العيش على أرضهم حتى بعد تدمير الهيكل الثاني. ومع مرور الزمن، اعتنق بعضهم المسيحية في القرن الرابع الميلادي، بينما تحول الغالبية العظمى منهم إلى الإسلام بعد الفتح العربي في القرن السابع الميلادي.
كان العديد من الباحثين الصهاينة على دراية بهذه الحقيقة. فقد أشار كل من يتسحاق بن تسفي، الذي أصبح لاحقًا رئيسًا لدولة إسرائيل، وديفيد بن غوريون، مؤسس الدولة الإسرائيلية، إلى هذا الأمر خلال الثورة الكبرى في فلسطين. وأكد كلاهما مرارًا أن فلاحي فلسطين هم أحفاد سكان يهوذا القدامى.
يكتب إيلان بابيه في كتابه “عشر أساطير حول إسرائيل” قائلاً: “عندما وصل العثمانيون إلى المنطقة، وجدوا مجتمعاً يتألف أساساً من مسلمين سنة يعيشون في القرى، إلى جانب نخبة صغيرة من سكان المدن الناطقين بالعربية. كانت نسبة اليهود أقل من 5%، بينما تراوحت نسبة المسيحيين بين 10 و15%. وكما يشير يوناتان منديل: ‘النسبة الدقيقة لليهود قبل ظهور الصهيونية غير معروفة، لكن يُعتقد أنها تراوحت بين 2 إلى 5%’.”
وفقاً للوثائق العثمانية لعام 1878، كان عدد سكان الأرض التي تُعرف اليوم بإسرائيل (فلسطين المحتلة) يبلغ حوالي 462465 نسمة. من هذا العدد، كان 403795 شخصاً (87%) من المسلمين، و43659 شخصاً (10%) من المسيحيين، و15011 شخصاً (3%) من اليهود.” [26]
بعد هجوم الرومان على يهوذا، هاجرت مجموعة من اليهود إلى أوروبا ومنطقة بين النهرين، بحثاً عن فرص تجارية ولتحقيق أهداف أوسع. أسفرت هذه الهجرة عن ظهور مجتمعات يهودية في أوروبا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث عاشت هذه المجتمعات بشكل شبه مستقل، واستمرت في تطوير الثقافة والدين اليهودي.
في ظل الإمبراطورية الرومانية، تمتعت هذه المجتمعات بحرية نسبية، لكنها كانت تتعرض أحياناً للاضطهاد. ومع انتشار المسيحية، ازدادت أوضاع اليهود تعقيداً، حيث اتهمهم المسيحيون المتعصبون بقتل المسيح وسعوا للانتقام منهم. ورغم ذلك، يبدو أن ثقافة اليهود تأثرت إلى حد ما بالرومان، بل إن العديد من طقوسهم الدينية تأثرت بالعادات والتقاليد الرومانية.
وضع اليهود من العصور الوسطى حتى اليوم
العصور الوسطى هي حقبة تاريخية في أوروبا تبدأ عادةً بسقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية عام 476 ميلادية، وتستمر حتى بدايات عصر النهضة وفترة الاكتشافات حوالي عام 1492 ميلادية. خلال هذه الفترة، عاش اليهود في أوروبا والشرق الأوسط، وتمتعوا بشكل خاص في إسبانيا الإسلامية بازدهار ثقافي واقتصادي ملحوظ.
كانت العلاقات بين اليهود والمسيحيين في المجتمعات الأوروبية خلال العصور الوسطى متوترة في بعض الأحيان. حيث كان المسيحيون يلومون اليهود على موت المسيح، ويمارسون الضغوط عليهم لاعتناق المسيحية. ومع ذلك، يشكك بعض المؤرخين في هذه المزاعم، ويرون أن اليهود كانوا مندمجين في المجتمعات المسيحية أكثر مما يُعتقد.
يجادل جوناثان إلوكين في كتابه “حياة مشتركة، حياة منفصلة” بأن المسيحيين كانوا يحمون بعض اليهود خلال الحروب الصليبية. كما أن بعض اليهود عملوا في قرى مسيحية، وسُجلت حالات اعتناق المسيحيين لليهودية، بالإضافة إلى زواج بين اليهود والمسيحيين. [27]
مع نهاية العصور الوسطى وبداية عصر النهضة، حصل اليهود في العديد من الدول الأوروبية على حقوق مدنية أكبر. أدى ذلك إلى تعزيز الهوية اليهودية وظهور نزعات صهيونية، حتى أواخر القرن الثامن عشر عندما طرح تيودور هرتزل فكرة إنشاء دولة قومية لليهود بشكل جدي.
منذ ذلك الحين، تسارعت وتيرة هجرة اليهود من مختلف أنحاء العالم إلى أرض فلسطين، مما شكل بداية فصل مأساوي لا تزال عواقبه الوخيمة تلقي بظلالها على شعوب غرب آسيا، وخاصة العرب الفلسطينيين، حتى يومنا هذا.
بشكل عام، شهد تاريخ اليهود في العصور الوسطى وما قبلها العديد من التقلبات. تشير السجلات التاريخية إلى أن اليهود عاشوا إلى جانب أتباع الديانات الأخرى، ومارسوا تجارتهم وشعائرهم الدينية.
في بعض الفترات، انتشرت معاداة اليهود في أوروبا، لكنها لم تكن بالشدة التي يصورها الصهاينة اليوم. ويرجع ذلك إلى أسباب متعددة، منها ما يرتبط بفساد اليهود أنفسهم واستغلالهم للفرص، سواء كان فساداً دينياً أو سياسياً أو اقتصادياً. لكن اليهود عمدوا إلى تزييف التاريخ بما يخدم مظلوميتهم المزعومة، بهدف كسب تعاطف الرأي العام. ومن خلال هذه الرواية المشوهة، سعوا إلى تبرير استيلائهم على أرض فلسطين وارتكابهم لجرائم وحشية بحق الشعب الفلسطيني.
لقد قامت الحركة الصهيونية منذ سنوات عديدة بتصوير اليهود كأمة مضطهدة بلا وطن، تعرضت للاضطهاد من قبل باقي الأمم، معتبرة أن الحل الوحيد لهذا الوضع هو إقامة دولة يهودية في أرض فلسطين. بينما الحقيقة هي أن هذه الأرض لم تكن يومًا خالية من السكان، فالعرب الفلسطينيون وأجدادهم يعيشون في هذه الأرض منذ قرون. فيما يتعلق بحياة اليهود في أوروبا وكيفية نفوذهم السياسي والاقتصادي في مراكز القوى، تم التطرق إلى هذا الموضوع بشكل مفصل في مقال بعنوان “دور اليهود السريين في أوروبا في المسيحية وكيف استغلوا الملوك والباباوات”. للمزيد من المعلومات، يمكنكم الرجوع إلى هذا المقال.
[1] الكتاب المقدس العبري أو “التانخ” هو عبارة عن مجموعة من الكتب الدينية اليهودية بما في ذلك التوراة والنعيم والكيتويم. تعتمد العديد من التعاليم والطقوس الدينية اليهودية على هذه الكتب.
[2] الإسلام والمعتقدات والآراء الإنسانية، يحيى نوري ص 395، الطبعة الرابعة سنة 1974 .
[3] . الاعراف، 156
[4] العنصریة الیهودیة ص 61
[5] Judaica, Keter Publishing House, Jerusalem, vol.10, 332.
[6] سورة یوسف، الآیة 8
[7] . (كما ورد في أخبار الأيام الأول 5: 2)
[8] Ronit Lentin
[9] Palestinians Lives Matter
[10] Law of Return – Adalah: www.adalah.org/en/law/view/537
[11] Unterman, Alan, Jews, their Religious Belifs and Practices, Routledge, London and NewYork, 1990, 228.
[12] . رسائل في الأديان والفرق والمذاهب، لمحمد الحمد ص 63، 64
[13] . الأعراف: 156
[14] . أنظر إلى: التاريخ الحقيقي لليهود منذ نشأتهم الأولى وحتى الآن: نجيب زبيب، دارالهادي، الطبعة الثالثة:بيروت، 2007م.
[15] https://noo.rs/56avo
[16] سورة المائدة، الآیة 24
[17] الكتاب المقدس العبري (الخروج) 14:11
[18] الكتاب المقدس العبري (الخروج) 16: 3
[19] الكتاب المقدس العبري (الخروج) 32: 19-21
[20] Epstein, Isidore, Judaism a historical presentation, London, 1959, 32
[21] زيد آبادي، أحمد، الدين والحكومة في إسرائيل، طهران، روزنجار، 2011، 25-26..
[22] Myers, David, Jewish history: a very short introduction, Oxford University Press, New York, 2017.
[23] . مقارنة الأديان / إبراهيم خليل ص 87
[24] 2Kings 23:32, 23:37, 24:9, 24:19
[25] سليماني الآردستاني، عبد الرحيم، اليهودية، ص150
[26] Pappe, Ilan, Ten Myths About Israel, Brooklyn, NY: Verso Books, 2017, 15.
[27] Elukin, Jonathan, Living Together, Living Apart: Rethinking Jewish-Christian Relations in the Middle Ages, Princeton: Princeton University Press, 2007, 82.